الثلاثاء، ٥ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٧
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
«الأطلال» لإبراهيم ناجي: الحكاية الخلفية لأغنية الأغنيات
قبل ذلك بسنوات قليلة، كان الموسيقار محمد عبدالوهاب أحدث قلبة مدهشة في عالم أم كلثوم، وذلك، كما تقول الحكاية، من خلال استجابته واستجابتها لرغبة الرئيس جمال عبدالناصر في ولادة عمل فني يجمع بينهما أخيراً. ونعرف أن عنوان تلك القنبلة كان «إنت عمري» تلك الأغنية التي جلبت الى كوكب الشرق جمهوراً جديداً، «شبابياً» بلغة هذه الأيام، وحولّت غناءها الى ما يشبه الغناء الراقص وأعطت عبدالوهاب نفسه تألقاً جديداً. يومها أُسقط في يد غلاة الكلثوميين والكلاسيكيين. وحسبنا أن نقرأ واحداً من فصول رواية «أم» للكاتب اللبناني/الفرنسي سليم نصيب حتى نجدنا مثلاً أمام رد فعل أحمد رامي على تلك الثورة التي أحدثها محمد عبدالوهاب في عالم «الست». ومن هنا حين أتى «ردّ» كبير الكلاسيكيين الكلثوميين رياض السنباطي في العام 1967 عبر تلك القصيدة الرائعة التي بها استعادت أم كلثوم كلاسيكيتها وبهاء أغانيها، تنفس محبوها الصعداء بعدما أرعبتهم «الخفة» التي لمسوها في وهابيات أم كلثوم. ونعرف أن عنوان الردّ كان «الأطلال» ذلك العمل الرائع غناءً وموسيقةً ولكن أيضاً من ناحية اختيار الكلام تنقيباً في واحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الرومانطيقي في القرن العشرين. ونتحدث طبعاً عن قصيدة الشاعر إبراهيم ناجي الطويلة المؤلفة أصلاً من 134 بيتاً، فاختارت أم كلثوم منها 32 بيتاً فقط في شكل يبدو معه عملها أشبه بعمل جوهرجي حقيقي. بل حتى يبدو معها العمل، في رأي بعض غلاة المحللين وكأنه حوّل القصيدة من أنشودة حب يائس الى صرخة في سبيل الحرية! غير أن هذه حكاية أخرى لسنا في صددها هنا.
ما نحن في صدده هو تلك القصيدة التي إذ أعادت إبراهيم ناجي الى الواجهة بعدما كان مضى أكثر من ربع قرن على رحيله قانطاً يائساً من حب شلّ تفكيره وكبرياءه فعبّر عنه بتلك الأبيات المدهشة، أعادت معه حكاية حبه وراح كثر يتكهنون بمن تكون تلك الحبيبة الغامضة. ولسوف تأتي إجابات عديدة على السؤال وربما سيكون أقربها الى الصواب أن الحبيبة لم تكن سوى الفنانة... ملك الجمل، التي اشتهرت بأدائها دور إحدى الأختين المجرمتين، الى جانب نجمة إبراهيم، في فيلم «ريا وسكينة» لصلاح أبو سيف! ولكن من المؤكد أن ليست لهذا الدور علاقة بحكاية إبراهيم ناجي معها. أما بالنسبة الى أم كلثوم التي ما إن فوتحت بإنشاد أجزاء من القصيدة حتى تذكرت لقاءً لها مع ناجي قبل ذلك بسنوات طويلة قائلة: «ولا أنسى الشاعر إبراهيم ناجي وقد رأيته حين كان يزور نقابة الموسيقيين وكان يبدو يائساً محطماً يجلس بين الموسيقيين فتحسّ أنه يطوي صدره على قصة حب بلا أمل. يومها لم نتحدث في الشعر لكني كنت أحس فيه رقة المشاعر التي لا بد أن تؤتي ثماراً فنية طيبة...». صحيح أن أم كلثوم لم تتصور يومها أنها ستغني واحدة من أعظم أغنياتها، والأغنيات العربية قاطبة، من نظم هذا الشاعر، لكنها ستقول إن ما حسم الأمر بالنسبة اليها لاحقاً كان الشطر الذي تقول فيه القصيدة «هل رأى الحب سكارى مثلنا؟». ولقد روت انها حين دفعت بالنص الى رياض السنباطي كي يلحنه قال لها هذا من فوره: «ستكون الأطلال حدثاً فنياً لا نظير له!». وهكذا كان الأمر كما نعرف. ونعرف ايضاً أن القصيدة أعادت ناجي يومها الى واجهة دنيا الشعر من جديد. فمن هو ابراهيم ناجي؟
«والآن... كلمة في ما يختص بالشعر... أنت تراني قوي الجناح إلى حد، وتراني رقيقاً، وترى لي موسيقى تسميها موسيقى الغرفة، ويلوح لي من تفضيلك عليّ محمود طه أنك لست ترضى عن تلك الرقة، ولا تعجب بهذه الموسيقى، بل أنت من أنصار الشاعر الذي تراه مهيّأ ليكون جباراً، أنت من أنصار الأدب العنيف، الأدب النيتشوي الهتلري، من أنصار النسر الذي يحط على الشجر الباسق، ويبسط جناحيه بسطة عقادية. الواقع ان هذا العصر في حاجة إلى ما تحب، أما نحن فأدبنا مائع رخو، أدب نواح ودموع وضعف، وقد كنت أحب أن أعرف رأيك - يا مولاي - في ليالي الفريد دي موسيه، وروائع لامارتين كـ «البحيرة»، و «الوادي». ما رأيك في هذا الضعف الشائن من شاعرين لم يخلد لهما إلا تلك الدموع الذاتية؟ ومع ذلك قل لي منصفاً وليقل العقاد: أي أنواع الأدب أحب إلى النفوس؟ إن الموتى سيقومون من قبورهم وستنبض كل صحيفة في كتبهم بالحياة صارخة: مآسينا خلدت ودموعنا هي التي عاشت...».
هذه الرسالة الموجهة إلى طه حسين، تكاد وحدها تختصر علاقة إبراهيم ناجي بالشعر، وتكاد تعبّر عنه بأفضل مما تعبر دراسات نقدية عديدة. إذ لو قرأناها بإمكاننا أن نجد فيها كل شيء، إضافة إلى حس سخرية كان من النادر لكاتب الرسالة أن يلجأ إليه في حديثه مع أحد. إبراهيم ناجي الذي عرف بلقب «طبيب الشعراء وشاعر الأطباء»، والذي كان من شأنه، وشأن شعره، أن يخلدا إلى كتب القراءة المدرسية ومتاحف النسيان، لولا غناء أم كلثوم في 1967 رائعتها «الأطلال» من شعره وموسيقى رياض السنباطي، فإذا بالملايين، يعودون عبر إعجابهم بتلك التي لقبت بـ «أجمل أغنية في تاريخ الغناء العربي» إلى اكتشاف إبراهيم ناجي وشعره، ومن خلالهما مدرسة «أبولو» التي اتبعت، في شكل عام، أسلوب كتابة شعرية رومانسية وكانت حلقة الوصل بين الكلاسيكية الجديدة (شوقي، حافظ، مطران) وبين الحداثة الشعرية كما تجلت أواسط الأربعينات.
ولد إبراهيم ناجي في اليوم الأخير من العام 1898 في حي شبرا القاهري العريق، وتلقى علومه الابتدائية في مدارس المنطقة وسط طفولة عبّر عنها لاحقاً في شكل جيد في كتاب سماه «مدينة الأحلام» كان عبارة عن مجموعة قصصية لكنه لم يخل من بُعد يرتبط بالسيرة الذاتية. وعلى رغم ولع ناجي بالأدب باكراً، وقراءته الروايات الانكليزية والفرنسية والعربية، واهتمامه بالشعر، فإن «القدر اختار له أن يكون طبيباً» كما قال، مضيفاً: «ما أظلم القدر! فقد شاء أن أكون طبيباً، وليس بالطب من حرج وإنما الحرج أن يكون الخيال مركباً في طبيعة انسان، فإذا بالقدر يواجهه بالواقع ويصدمه». ومنذ تخرج طبيباً، راح إبراهيم ناجي يوزع حياته بين الطب والكتابة، وكان ينفق على رفاقه الشعراء على ليالي التسكع، ما كان يجنيه من نهارات الطبابة.
والحال أن إبراهيم ناجي كان بدأ كتابته الشعر منذ صباه الباكر، وكان جل ما يكتبه في ذلك الحين غزلاً كلاسيكياً منمقاً، وهو عزز موهبته بقراءة حافظ وشوقي وبخاصة خليل مطران، الذي كان صديقاً لعائلته، ثم قرأ شكسبير وبورجيه وبودلير بالفرنسية والإنكليزية. ولقد قاده هذا إلى تبديل أساليبه الشعرية ومزج نوع من الحداثة بشيء من الرومانسية حين بدأ يكتب الشعر بصورة جدية. وهذه «الصورة الجدية» بدأت حين كان في المنصورة، لضرورات مهنية، فتعرف إلى شعراء ثلاثة سيشاركونه لاحقاً في تكوين جماعة «أبولو»، وسيرتبط اسمه باسمهم على الدوام: صالح جودت، علي محمد طه والهمشري. وكان تأسيس الجماعة في العام 1932 حيث ترأسها أحمد شوقي أول الأمر وكان أمينها العام أحمد زكي أبو شادي ووكيلها إبراهيم ناجي نفسه. ولقد أصدرت الجماعة مجلة «أبولو» التي رأس تحريرها خليل مطران، ونشر ناجي على صفحاتها أجمل قصائده، التي جمعت للمرة الأولى في مجموعة «وراء الغمام» التي كانت أول مجموعة تصدر للشاعر، تلتها مجموعة «ليالي القاهرة»، وأخيراً مجموعته الثالثة «الطائر الجريح» التي جُمعت ونشرت بعد وفاته عام 1953. ويروي مؤرخو حياة إبراهيم ناجي أن وفاته أتت سريعة بعد سلسلة من الصدمات التي تعرض لها خلال السنوات الأخيرة من حياته، حيث «تحطمت قيثارته وتجمعت الهموم من حوله: حياة بلا عمل ولا هدف، باستثناء معاش ضئيل الذي يحفظ عليه ماء وجهه، وجسم يدب البلى في أوصاله، فهو حطام أحكمت تدميره الأيام والمحن». ولم يتركه مرض السكر إلا عليلاً بذات الرئة حتى قال عن نفسه: «اني أحسّ أن كل جهاز في جسمي قد فسد إلا هذا» مشيراً إلى رأسه. وإلى جانب مجموعاته الشعرية الثلاث، أصدر إبراهيم ناجي كتباً نثرية عدة أبرزها «أدركني يا دكتور» و «رسالة الحياة» و «كيف تفهم الناس» و «مدينة الأحلام» إضافة إلى ترجمات ومقالات عدة في الفلسفة والطب والأدب.
إبراهيم العريس
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.