جريدة المدن الألكترونيّة
الخميس 09-05-2019
المدن - ثقافة
"آدا.. أو الوهج" للروسي فلاديمير نابوكوف
صدرت عن منشورات الجمل، الترجمة العربية لرواية “آدا.. أو الوهج” للكاتب الروسي الأميركي فلاديمير نابوكوف (1899-1977)، بترجمة من حنان يمق. ونشر نابوكوف هذه الرواية سنة 1969 وتعتبر أطول رواياته، وفيها نجد أنفسنا من جديد أمام قصة حب، وهي أيضاً قصة حب فاشل أو ضائع، ونرى أيضاً البطل الأديب الذي يكمن داخل المؤلف. هنا مقتطف منها ننشره بالاتفاق مع الناشر.
بدأت العلاقة الغرامية بين مارينا وديمون فيين في الخامس من مايو 1868، اليوم الذي يصادف ذكرى ميلادهما معاً وميلاد دانيال فيين أيضاً، عندما أتمت عامها الرابع والعشرين، بينما أتم الرجلان الثلاثين.
كممثلة، لم تمتلك مارينا تلك المهارة الإيمائية الخاطفة للأنفاس التي تجعل من تلك المهنة، أثناء العرض على الأقل، أمراً جديراً بما هو أبعد من أضواء المسرح، كالسهاد، الخيال، وغطرسة الفن؛ ولكن في تلك الليلة بالذات، وبينما كان الثلج الناعم يتساقط فوق المخمل والخلفيّة المطليّة، فإن الدورمانسكا*(التي دفعت لسكووت العظيم، مدير أعمالها، سبعة آلاف دولار ذهبية أسبوعياً لقاء الترويج الإعلانيّ، ومكافأة إضافية فخمة لقاء كل موعد) قد بدتْ عند بداية ذلك العرض المسرحي التافه والسيء (مسرحية أمريكية مقتبسة بشكل مبتذل وواضح عن أخرى روسيّة) شاعرية جداً، جميلة جداّ ومثيرة جداً إلى الحدّ الذي دفعت به ديمون (الذي لم يكن نبيلاً في شؤون الحب) لوضع رهان مع الأمير (ن)، المجاور له، وتقديم سلسلة من الرشاوي لحجّاب غرف الممثلين، ومن ثمّ، وفي الحجرة القصِيّة (كما كان ليطلق كاتب فرنسيّ من قرن سابق ذلك الوصف الغامض على غرفة صدف أن كانت مستودعاً لترومبيت مكسورة وطارات تعود لمهرّج منسيّ، مع كثير الأواني بألوانها الزيتيّة التي تراكم فوقها الغبار) دخل مقتحماً ليخضعها تحت غوايته (الفصلان الثالث والرابع من الرواية الضحيّة). في المشاهد الأولى للمسرحيّة، ظهر ظِلّ مفاتن مارينا بينما كانتْ تتعرى وراء ستار نصف شفّاف، ثم عادت لتظهر بقميص نوم رقيق مدغدغٍ للغرائز، وأمضت بقيّة المشهد الهزيل في مناقشة البارون (أو)، إقطاعيّ محليّ، وممرضة مسنّة تنتعل جزمة إسكيمو.
بناء على اقتراح المرأة الريفيّة فائقة الحكمة، أمسكت بريشة إوزّة، وفوق طاولة السرير الجانبيّة، كتبتْ رسالة غراميّة، واستغرقتها خمس دقائق لإعادة قراءتها بصوت واهن ولكن عالٍ، دون أن نعرف لمن تتوجه بذلك بما أنّ النعاس كان قد غلب الممرضة أثناء جلوسها فوق صندوق بحارة، أما المشاهدون، فكانوا مأخوذين بالذراعيْن العاريين للشابة المتيّمة، وبصدرها العارم، وقد لمعت فتنتها تحت ضوء القمر الاصطناعيّ. وقبل أن تجرّ عجوز الإسكيمو قدميْها لتغادر المشهد حاملة رسالة الحب، كان ديمون فيين قد ترك مقعده المخمليّ الورديّ وباشر كسب رهانه، وقد تحققّ له ذلك بسبب أن مارينا، التي “لم تذق قبله طعم القبل”، كانت قد وقعتْ في غرامه منذ أن راقصها ليلة رأس السنة. وعلاوة على ذلك، فإن ضوء القمر الإستوائيّ التي استحمّت به لتوّها، تفاصيل جمالها اللاذعة، اهتياج العواطف التي أشعلتها عذريتها المتخيّلة، وتصفيق المعجبين الحار المنبثق من قاعة كادت أن تكون ممتلئة، كل ذلك قد سبّب لشارب ديمون تلك الوخزة التي جعلتْ من مارينا عرضة لهجومه. كما أنها كان لديها، أيضاً، ما يكفي من الوقت لتبديل ملابسها قبل المشهد التالي، الذي بدأ بمقدّمة طويلة لعرض قدّمته فرقة باليه قد استقدمتْها خدمات سكووت، الذي جلب الراقصين الروس بمقطورتيْ نوم، من بيلوكونسك – إيستوتي الغربيّة. في وسط بستان باهر، وقف بستانيّون مرحون، يرتدون، ولسبب غير معروف، الزيّ الجورجيّ، وكانوا يلتهمون التوت البريّ بشراهة، بينما كان هنالك عدة عذروات شابات، لا يقلّن شناعة عن الشبّان، يرتدين الـ"شوفار sharovars “*(أحدهم قد ارتكب خطأً، وردت تلك الكلمة على نحو مشوّه عند الإعلان عن الفرقة، فاستُبدلتْ بـساموفار samovar*) وكنّ مشغولات بقطف الخطمى والفول السوداني من أغصان أشجار الفاكهة. وعند إشارة ديونيسوسيّة* خفيّة، انغمسوا جميعاً، ضمن ذلك العرض الجذل ذي الأخطاء المسببة للفوضى، في رقصة عنيفة تُدعى كورفا أو الكرة المزيّنة بالشرائط. أما فيين، الذي عاد مع وخزة خفيفة في عانته، والذي دسّ ورقة نقديّة في جيب الأمير (ن) ذي الأنف الأحمر، فقد تهاوى فوق مقعده.
فاتته ضربة قلب ولم يأسف لتلك الخسارة الجميلة، عندما دخلتْ مارينا المشهد راكضة بفستانها الورديّ وسط البستان، متوهّجة ومذعورة، وقد حصلتْ على هتاف وتصفيق المشاهدين، الذين كان ثلثهم تقريباً مستأجَراً، لتصرف الانتباه عن أخطاء الحمقى ولكن الظريفين، ممثلي شعوب لايسكاــ أو إيبيريا*. لم يعرْ ديمون فيين انتباهاً للقاء الجميلة مع البارون (أو)، الذي وصل متهادياً من زقاق جانبيّ، بذيل سترته الأخضر ومهمازيّ حذائه، إذ أنه كان لا يزال مأخوذاً بسقوطه الموجز في هاوية الواقع، المحفورة بين ومضتين وهمتيْن زائفتيْن. ودون أن ينتظر نهاية المشهد، خرج من المسرح مسرعاً تحت ندف الليل الكريستاليّ الهشّ، نحو منزله القائم في الحيّ المجاور، لترتيب عشاء فخم. وعند وصوله، كانت رقائق الثلج تلمع فوق معطفه. وعندما ذهب لجلب عشيقته الجديدة بمزلقته ذات الأجراس المجلجلة، كان المشهد الأخير من باليه الجنرالات القوقازيين، والسندريلات المتحوّلات قد انتهى بشكل مفاجئ، أما البارون (أو)، بذيل سترته الذي أصبح الآن أسوداً، وقفازاته البيضاء، فقد كان جاثماً فوق خشبة خالية، ممسكاً بالخفّ الزجاجي، الذي تركته أنثاه الهاربة، التي لم تنجح معها عروضه المتأخرة. وكان المستأجَرون يصفقون متعبين وينظرون إلى ساعاتهم، عندما كانت مارينا بعباءتها السوداء، قد انسلّت في حضن البجعة، مزلقة ديمون.
عربدا، سافرا، تشاجرا، ثم عاد كل منهما إلى الآخر ثانية. في الشتاء التالي، بدأ يشك في إخلاصها له، لكنه لم يتوصل لتحديد خصمه. في منتصف مارس، وخلال غداء عمل مع خبير فني، طويل نحيل، يرتدي سترة قديمة الطراز، يملك روحاً لا مبالية ومهارة محببة في التجارة، ثبّت ديمون نظارته الأحادية أمام عينه، فتح حافظة مسطحة وأخرج منه لوحة مرسومة بتقنية Pen and Wash* وقال إنه يعتقد (لم يكن متأكداً في الحقيقة، ولكنه كان يتمنى أن يحظى حكمه ذاك بالإعجاب) أنها عمل غير معروف يعود لصاحب الموهبة الرقيقة بارميجيانينو*. أظهرتْ اللوحة فتاة عارية تجلس بشكل جانبي فوق دعامة يكللها اللبلاب، وترفع قليلاً يدها التي تحمل تفاحة أشبه بالدرّاق، وقد كانت محرّضاً إضافياً لمكتشفها لاستذكار مارينا، عندما خرجت ملهوفة من حمام الفندق لتردّ على الهاتف، وجثمت عارية فوق ذراع كرسي، كتمت صوت المتصل، وتوجهت إلى حبيبها بسؤال، لم يتمكن الأول من فهمه جيداً إذ أن خرير الماء في حوض الاستحمام قد أغرق همسها. اكتفى البارون دونكسي بالنظر إلى الكتف المائل، وآثار بعض النباتات الرقيقة المرتعشة، كي يؤكد تخمين ديمون. اشتهر دونسكي بكونه لا يظهر أية إشارة تدل على عاطفة جمالية في وجود محبيّ التحف؛ ومع ذلك، فإنه هذه المرة قد وضع عدسته المكبرة جانباً، التي كان يخفي بها انطباعاته كما لو أنها قناع، ثم سمح لعينيه، مع ابتسامة متعة مرتبكة، أن تهيم علناً لتداعبا التفاحة المخملية، ونمشات الجسد العاري الذي تعرّش فوقه الطحالب. هل كان السيد فيين ليبيعها له حالاً؟ أرجوك يا سيد فيين! لكن السيد فيين لم يفعل. على سكونكي* ( أحد ألقاب البارون) أن يفخر بنفسه اعتباراً من اليوم، لأنه كان ومالك اللوحة، الوحيدان اللذان تسنى لهما تأملها عن سابق دراية. أعادها إلى قمقمها الخاص؛ ولكن بعد أن انتهى من كأس الكونياك الرابع، طالب البارون (دو) بنظرة خاطفة أخيرة. كان الرجلان ثمليْن إلى حدّ ما، وتساءل ديمون في سره ما إذا كان ذاك التشابه الضئيل ما بين حورية عدن والممثلة الشابة، التي لا شك قد سبق لزائره أن رآها فوق الخشبة تؤدي دورها في مسرحية أوجين ولارا أو لينور رافين (كلاهما قد واجها نقداً لاذعاً من قبل شاب”مثير للاشمئزاز غير قابل للرشوة") كان أو يمكن له أن يكون، عرضة لتعليقه. لم يعلّق بكلمة: عادة ما تتشابه الحوريات من هذا النوع بسبب الوضوح المشترك بين عناصرهن الأساسية، فالتشابه بين الأجسام الشابة لحوريات الماء، ما هو إلا براءة خادعة ومرايا مضللة ذات وجهين، هذه قبعتي، قبعته أقدم، ولكنهما من ذات متجر القبعات في لندن.
في اليوم التالي، كان ديمون يتناول الشاي في فندقه المفضل مع سيدة بوهيمية لم يسبق له أن رآها ولم يفعل لاحقاً (كانت ترغب في توصية منه بغرض حصولها على وظيفة في قسم الأسماك وزهور البيوت الزجاجية في متحف بوسطن)، ثم فجأة قاطعتْ خطابها الفصيح لتشير إلى آكوا ومارينا أثناء عبورهما ردهة الفندق بحذر، بكآبتهما المألوفة، وفراء الثعالب فوق كتفيهما، يتبعهما دان فيين مع كلب الداشهاند، وقالت: “كم هو غريب هذا الشبه بين الممثلة وحواء فوق الساعة المائية في لوحة بارميجيانينو الشهيرة”.
“إنها غير شهيرة على الإطلاق”، قال ديمون بهدوء، “ومن المؤكد أنك لم تريها من قبل. وهذا ما لا أحسدك عليه”، أضاف؛ “الدخيل الساذج الذي يدرك أنه ــ أو أنهاــ قد داس في طين حيوات الآخرين، لا بد أن يشعر بالاشمئزاز. هل حصلت على تلك المعلومات من خلال محادثة مع رجل يُدعى دونسكي أو مع أحد أصدقائه؟”
"أحد أصدقائه؟"، تلعثمتْ البوهيمية قليلة الحيلة.
عندما ُوضعت في زنزانة استجواب حبيبها، ضحكت مارينا عارضةً نسيجاً خلّاباً من الأكاذيب. ولكنها بعد أن انهارت، اعترفت. أقسمتْ إن كل شيء كان قد انتهى؛ وإن البارون، بجسد بائس وروح ساموراي، قد رحل إلى اليابان، وإلى الأبد. تبين ديمون من مصدر أكثر ثقة، أن وجهة الساموراي لم تكن إلا إلى الفاتيكان، وإلى منتجع روماني تحديداً، ليعود بعد أسبوع أو أكثر إلى آردفارغ –ماساشوسيتس. وبما أن فيين الحذر كان يفضل قتل رجله في أوروبا (يقال إن عجوزنا العاجز الذي لا يُقهر، غاماليل*، قد منع المبارزات في نصف الغربي من الكرة الأرضية ـــ ربما تكون إشاعة أو نزوة عابرة من رئيس مثالي، لأن كل ما قد قيل لم يأتِ بنتيجة) فقد استأجر أسرع طائرة نفط (petrolplan)، وفاجأ البارون في نيس (المكان الذي بدا مناسباً جداً)، ودخل وراءه إلى مكتبة غونتر، وبحضور صاحب المتجر الإنكليزي الذي حافظ على رباطة جأشه، أو الذي كان ضجراً على الأرجح، قام ديمون بصفع البارون المنذهل بقفاز تفوح منه رائحة الخزامى. تمّ قبول التحدي؛ تمّ اختيار شاهديْن من السكان المحليين؛ اختار البارون السيوف؛ بفعل حركات مسلية كتلك الخاصة بـ"دوغلاس دارتانيان"، سالت كمية كبيرة من الدماء (بولوندية وإيرلندية، أو “غاري ماري” بلغة بارمان أمريكي) التي كانت كافية لتلويث صدريْن شعرانيين، أرضية بيضاء، بضع درجات من الدرج المؤدي إلى حديقة مسورة، كما كانت كافية أيضاً لتلويث مئزر الحلّابة التي تواجدتْ هناك صدفةً، وأكمام قمصان الشاهديْن، السيد الفاتن دي باستروي والكولونيل ــ الوغد ــ سانت آلان، الذي قام بتفريق المقاتليْن اللاهثيْن، وقد مات سكونكي، ليس مباشرة متأثراً بجروحه (كما قالت الشائعات)، ولكن بسبب غرغرينا لاحقة قد أصابت أصغرها، ربما سبّبها لنفسه ، حين وخز فخذه عن طريق الخطأ، وسبّبت بدورها اضطراباً في الدورة الدموية، رغم قليل التدخلات الجراحيّة خلال سنتين لاحقتيْن أو ثلاث، من الإقامة الطويلة في مشفى آردفارك في بوسطن ــــ المدينة التي، وبمحض صدفة، كان قد تزوج فيها صاحبنا عام 1869 من السيدة البوهيمية، والتي هي الآن حارسة القسم البيولوجي الزجاجي في المتحف المحلي.
وصلت مارينا إلى نيس بعد بضعة أيام من المبارزة، ولحقت بديمون في فيلّته آرمينا، وفي نشوة مصالحتهما، لم يتذكر أي منهما تجنب الحمل، وعندها بدأتْ interesnoe polozhenie (القضية المثيرة للاهتمام)، والتي لولاها لم يكن هناك من داع لذكر كل التفاصيل السابقة.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.