20 هرماً في الحيطة الليبية ... «تحف» يجهلها العالم

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الأحد، ٨ يونيو/ حزيران ٢٠١٤
جريدة الحياة
منصور بوشناف


«كان الليبيون القدامى، يدفنون موتاهم كما يفعل الإغريق، أي ممددين على ظهورهم، باستثناء النسامونيس (سكان سرت)، فهم دفنوهم جالسين القرفصاء، وحرصوا على أن يكون الإنسان جالساً عند خروج الروح حتى لا يموت وهو مستلق على ظهره». هذا ما قاله هيردوتس بعد تجواله في ليبيا في القرن السادس قبل الميلاد، في كتابه الرابع، أو «الكتاب الليبي»، من دون أن يذكر الحكمة من هذا الدفن.

ولكن هذه الطريقة في الدفن لم تقتصر على سكان سرت، كما يشير هيردوتس، بل كانت شائعة في مقابر جرمة بالجنوب وفي بعض مناطق غرب ليبيا. الدفن جلوساً، كما يشير هيردوتس وكما تنتشر آثاره عبر الصحراء الليبية، يأخذ القبر فيه شكل النصب أو الهرم الصغير «حيث يكون عريضاً من الأسفل ويضيق في الأعلى ليضم الرأس، يأخذ باختصار شكل المثلث». وشكل المثلث أيقونة ليبية دائمة الحضور على مدى عشرة آلاف سنة ماضية، من رحلة الليبيين عبر التاريخ، فقد كان التكوينَ الأساسي لرسم الإنسان في لوحات فناني ما قبل التاريخ الليبيين، مع الدائرة التي نقلت شكل الرأس البشري، ليدخل المثلت بعد ذلك في أيقونات المعبودة تانيت الليبية»، حيث ترسم بمثلثين ودائرة، لينتقل بعد تلك الرحلة إلى النسيج الليبي، فنجده في السجاد والبسط الليبية وأيضاً في حلي النساء.

شواهد القبور لم يكن المدفونون جلوساً بحاجة إليها، فقد كان القبر المنتصب باتجاه السماء شاهداً ممتازاً على وجود ميت هنا وعلى تطلعه باتجاه الآخرة، على عكس قبور المدفونين جلوساً، احتاجت القبور الأخرى إلى شواهد فنصب الجرمنت شواهد على شكل «يد أو خميسة» من الحجر. وبنى سكان التخوم كما سماهم الرومان في ما بعد في المنطقة الممتدة من مزدة غرباً وحتى بونجيم شرقاً المسلات العالية كشواهد وتمجيد للميت، وتنتشر هذه المسلات حتى الآن عبر أودية بني وليد وأشهرها مسلات المردوم المطلة على وادي «إيليس».

المعتقدات الليبية في الموت والبعث والآخرة تتجلى قبل عصر الكتابة في الدفن وأيضاً في التحنيط الذي يعود تاريخه إلى نحو 5500 سنة وهو عمر المومياء الليبية. طرق الدفن التي أشرنا إليها أخذت تتطور نتيجة لتطور معتقدات تخص الموت والبعث طورها الليبيون القدماء ووصلت إلى بناء الأهرام.

كانت جرمة، كما يشير هيردوتس في كتابه الرابع، مدينة صحراوية مزدهرة تسيطر على طرق التجارة بين البحر المتوسط وأفريقيا، وكانت في ذلك الوقت احد مراكز تجارة العبور المهمة، ونتيجة لذلك الازدهار الاقتصادي ازدهرت الحياة الثقافية وتطورت طرق التدين وطقوسه وترسخ الاعتقاد بالقيامة واليوم الآخر وعودة الموتى في حياة أخرى.

من أبرز تجليات هذا الاعتقاد كان بناء الأهرام لتخليد الموتى وضمان سلامة أبدانهم حتى يوم القيامة. وبنى الجرمنت لملوكهم أهراماً كثيرة هي بالتأكيد ليست بعظمة أهرام مصر، ولكنها بنيت للغرض والدافع الديني ذاته. ويصل عمر هذه الأهرام إلى نحو ثلاثة آلاف سنة، أما عددها فعشرون.

وفي «الحيطة»، التي تبعد نحو 20 كيلومتراً عن جرمة ينتصب عشرون هرماً ليبياً كاملاً، هي مقصد سياحي ومكان أثري مهم، خصوصاً لدى الجيل الجديد، لما تمثله من إرث تاريخي.

بنى الأهرام الليبية مواطنون بأساليب ومواد بناء ليبية خالصة. بنيت بالطين والقليل من الحجر وبطريقة «ضرب الباب» كما عرفت في ليبيا حتى ستينات القرن الماضي، وهي تقضي بعجن الطين وتخميره ووضعه في لبان، ويصب الطين بين كل حجرين ويدك بقوة ويترك حتى يجف ويتماسك البناء. لينتقل البنّاؤون بعد ذلك إلى الحائط الآخر... هكذا كانت تبنى البيوت ويقوم بذلك كل الجيران والأقارب ويسمى هذا العمل الجماعي التطوعي «الرغاطة».

وشيّد بناة الأهرام الليبية أهرامهم على ذلك النحو، وقد تأخذ الأهرام شكل المثلث الذي قدسه الليبيون قروناً طويلة، ويصل ارتفاعها، كما البيوت، إلى أربعة أمتار، وتحت كل هرم القبر أو غرفة الدفن.

عشرون هرماً هي ما تبقى من أعمال بناة الأهرام الليبيين في الحيطة قرب مدينة جرمة عاصمة الجرمنت في الجنوب الليبي، قد لا يعرفها العالم ولا حتى الليبيون.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)