ترجمة

يوميات الحصار العثماني للقسطنطينية كما رواها أطبّاء Traduction

, بقلم محمد بكري

السبت ٨ سبتمبر/أيلول ٢٠١٢
جريدة الحياة
عمرو عبدالعزيز منير


جريدة الحياة


يوميات المسافرين ومدوَّناتهم الشخصية تشكل في الثقافات الأخرى مكتبة قائمة في ذاتها، وتعتبر كتب اليوميات من أمتع المؤلفات وأكثرها رواجاً على اختلاف قيمتها الأدبية، وتنوع الموضوعات التي طرقها كتابها.

فأدب اليوميات، على هذا الصعيد، يشكِّل ثروةً معرفيَّةً كبيرةً، ومخزناً للمشاهد والقصص والوقائع والملاحظات، فضلاً عن كونه مادة سرديّة شائقة تحتوي على الطريف والغريب والمُدهش مما التقطته عيون ترصد وأنفسٌ تنفعل بما ترى، ووعي يُلِمُّ بالأشياء ويحلِّلها ويراقب الظواهرَ ويتفكَّرُ فيها. هكذا جاءت يوميات حصار العثمانيين للقسطنطينية حتى فتحوها عام 1453م كما رواها الطبيب والجراح البندقي نيقولو باربارو أحد أفراد الأسر النبيلة في مدينة البندقية وأحد الشهود العيان، الذي يجعلك تشعر كأنك مع حكّاء يمتلك طريقة ساحرة ومدهشة، عفوية وبسيطة في رصد تفاصيل مشهد الحصار العثماني للقسطنطينية على شكل يوميات تبدأ مع وصول الطبيب إلى القسطنطينية للمشاركة في الدفاع عنها وتمر بأيام الحصار القاسية وتنتهي عند اللحظات التي فر فيها هذا الطبيب بعدما اقتحم العثمانيون المدينة بعد ثلاثة أشهر من الحصار المضني. وبطريقة أخاذة ومدهشة تُسلبك إرادتك وتمسك بتلابيبك ولا تتركك إلا بعد أن تنتهي من قراءة يومياتها التي اقتربت من المئتي صفحة، ساعتها فقط تُدرك أنك أمام نص ترجم بحرفية مدهشة وبعين مترجم يعرف أهم مفاتيح عبقرية النصوص التراثية تساعده على الإمساك بتلابيب القارئ حتى آخر كلمة في النص على رغم صرامته العلمية، وهي ميزة تجلت بوضوح في يوميات الحصار العثماني للقسطنطينية.

وعلى رغم عشرات الكتب التي كتبت حول موضوع الفتح العثماني للقسطنطينية، فإن رواية الشاهد العيان لهذا الحادث التاريخي الفذ تبقى لها جاذبيتها التي تقف بك على طبيعة الوعي بالذات والآخر الذي تشكَّل من طريق اليوميات، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الكاتب، والانتباهات التي ميَّزت نظرته العدائية إلى العثمانيين وحروبهم والناس والظواهر والأفكار.

نجح نيقولو باربارو إلى حد كبير من طريق الحذف والإيجاز وعدم الاستطراد في اللغة والتكثيف والتقطير في استخدام اللغة المدببة نحو الهدف، ووصف شخصيات الحصار وأحداثه ورصد لنا سكان القسطنطينية ومشاعرهم المتباينة وأحزانهم، وقلقهم، وتوجسهم، ومعاناة النساء والأطفال، كأنها شريط سينمائي يمر أمام عين القارئ، وذلك بلغة بسيطة، موحية، مؤثرة، متدفقة، جذلة وموجزة لنرى كيف نقل إلينا الكاتب أحد مشاهد الحصار المرير، ونجح في تصويره بحرفية ومهارة عاليتين، وجعله ماثلاً أمام عين القارئ كأنه صورة سينمائية: «في الثامن والعشرين من أيار/ مايو، وبعد حلول الظلام بساعة، بدأ الأتراك إيقاد نار هائلة في معسكرهم، أكبر من تلك التي قاموا بإيقادها في الليلتين السابقتين وأكثر سعيراً، وكان صراخهم وصياحهم أعلى من أن تستطيع قلوب المسيحيين تحمله، إضافة إلى صراخهم قاموا بإطلاق القذائف بأعداد كبيرة من المدافع والبنادق، وقذفوا بأحجار لا حصر لها، حتى بدا لنا أن ما يحدث لهو الجحيم بعينه. استمرت هذه الصرخات الهستيرية حتى منتصف الليل، عندما خبت النيران...». هذا اللون من اليوميات سرعان ما اختفى تاركاً مكانه لأعمال البحث الفكري والكتابات الأيديولوجية الصارمة في حمأة صراع سياسي واجتماعي محتدم مع الآخر. ومعه غفا نيقولو باربارو واختفت اليوميات، ولم تعد الكتابة في هذا الميدان تشكل ظاهرة تاريخية تمكن الإشارة إليها.

وعلى رغم أهمية هذا الحادث الفذ في تاريخ المسلمين، فإن ستاراً من النسيان – وربما التناسي - أُسدل على هذا الحدث الذي لا يعرف تفاصيله ومقدماته ونتائجه كثير من المسلمين من العامة والمثقفين. وبسبب تطورات التاريخ الثقافي السلبية في أنحاء العالم الإسلامي ظل هذا الحدث أسير إطار الانحيازات الغربية ضد المسلمين وتاريخهم.

ومع أن إسلامبول (اسطنبول) ظلت قاعدة العالم الإسلامي طوال قرون عدة؛ فإن ما أطلقه المؤرخون الغربيون من «اشاعات تاريخية» عن العثمانيين لقي آذاناً فارغة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي عندما أرادت الدول الغربية – أثناء صراعها الطويل مع العثمانيين الذين تقدموا في أوروبا تقدماً أفزعها ولم تره من دولة إسلامية من قبل – فعمدت عبر معاهد الاستشراق والجامعات الأوروبية إلى دراسة هذا العدو العملاق – أي العثمانيين – لذلك نشأت دراسات العثمانيين في أوروبا، عدائية للإسلام وبالتالي للعثمانيين؛ بغية فهم الدولة العثمانية لتقويض دعائمها، حتى يرتاح الغرب ويسود الشرق.

في الوقت الذي تاقت فيه الشعوب الأوروبية إلى الاستماع الى قصة سقوط القسطنطينية بآذان صاغية، ووصلت إلينا مصادر عدة حول ذلك الحدث، لا يوجد مصدر تاريخي أكثر تفصيلاً وحبكة تاريخية من هذا المصدر الذي كان مؤلفه يعمل على إحدى سفن أسطول البندقية، إذ كانت سفينته تشارك في أعمال الدفاع عن المدينة، فقام بتدوين أحداث الفتح أولاً بأول واحتفظ بيومياته حتى عاد إلى مدينته الأم البندقية في تموز (يوليو) 1453م ليعيد كتابتها من جديد... بعد أن دوّن كل الأحداث العسكرية بين الجانبين العثماني والبيزنطي منذ الثاني من آذار (مارس) 1452م حتى التاسع والعشرين من أيار 1453م، ونجحت سفينته في الفرار بعد سقوط القسطنطينية وعادت إلى البندقية.

ويمكننا أن نلاحظ، من خلال تحليلنا ليوميات باربارو، أنه لم يكن مؤرخاً محترفاً كالمؤرخين البيزنطيين المعاصرين للحدث نفسه بقدر امتلاكه موهبة السرد ووصف الحدث بأدق تفصيلاته. ونلحظ أن المؤلف قام بهذا العمل لنفسه لأنه لم تتوافر لنا أية معلومات تفيد بأنه كان ينوي تقديم يومياته في صورة تقرير للبحرية البندقية أو إلى الدوج والسناتو في مدينة البندقية.

كان نيقولو باربارو يدرك جيداً حجم الخطر العثماني، وكان يدرك أيضاً مغزى سقوط القسطنطينية في يد السلطان محمد الفاتح، ولهذا فقد امتلأ كتابه بالكثير من عبارات السخط والكلمات الحانقة على الأتراك. وعكس باربارو في كتابه خوف الأوروبيين من الخطر العثماني المتصاعد في مقابل الضعف البيزنطي المتزايد، وتجلى ذلك في حديثه عن السلطان العثماني محمد الفاتح الذي كنَّ له باربارو، وللعثمانيين عموماً، كراهية عميقة، إذ يمكن في هذا الصدد إلقاء الضوء على رؤية تركيا لدورها الجديد في المنطقة، وهو دور نستطيع أن نسميه بدور القوة «فوق الإقليمية الفاعلة»super regional power.

كما تبدو في يوميات باربارو بعض الأفكار الخاطئة عن الإسلام، مثل ما ذكره عن توجه المسلمين بالصلاة تجاه محمد (ص) وغير ذلك مما يشي بضعف ثقافته خارج نطاق الدين المسيحي. على أن الأمر المثير للانتباه حقيقة، هو أنه على رغم كون مهنة باربارو هي الطب والجراحة، فإنه لم يتطرق في يومياته إلى أية أحداث تقترب من تخصصه أو إشارات تفيد بأنه مارس مهنته، سواء على متن السفينة أو على ساحل القسطنطينية، إذ يبدو أنه ككثير من الأطباء الذين غلبت لديهم موهبتهم الأدبية على مهنتهم الإنسانية.

من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي قدمه إلى المكتبة العربية المؤرخ حاتم الطحاوى الباحث المتخصص في تاريخ العثمانيين والذي امتازت ترجمته بأنها الأولى في لغة العرب من ناحية وبسلاسة وبساطة محببتين تكشفان عن جهد كبير بذله المؤرخ الطحاوي في سبيل إخراج صورة حيّة لحدث نادر المثال في التاريخ الإنساني من ناحية أخرى، ولعلها كانت مفارقة ساخرة من التاريخ أن يفقد المسلمون قاعدتهم في الأندلس في أقصى الغرب الأوربي فى السنوات الأخيرة من القرن الذي شهد فتح المسلمين قاعدة المسيحية الشرقية في أقصى الشرق الأوروبي.

عن موقع جريدة الحياة


صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة"الحياة" جريدة عربية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988 .

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)