الأربعاء، ٦ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٧
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
«يا طالع الشجرة» لتوفيق الحكيم: عبث ... لكن على الطريقة المحلية
«المحقق: متى اختفت سيدتك بالضبط؟ - الخادمة: ساعة عودة السحلية إلى حجرها. – المحقق: تقصدين المغرب؟ - الخادمة: لم أبصر الشمس تغرب – المحقق: ومتى تعود السحلية إلى حجرها؟ - الخادمة: عندما يظهر سيدي من تحت الشجرة. – الخادمة: ومتى يظهر سيدك من تحت الشجرة؟ - الخادمة: عندما تنادي عليه سيدتي... – المحقق: ومتى تنادي عليه سيدتك؟ - الخادمة: عندما يرطب الجو في الجنينة... – المحقق: ومتى يرطب الجو في الجنينة؟ - الخادمة: عندما تقول له سيدتي ذلك؟ - المحقق: ومتى تقول له سيدتك ذلك؟ - الخادمة: عندما أفرغ من عملي هنا وأتأهب للعودة إلى منزلي...».
بهذا الحوار الذي يدور بين مفتش الشرطة الذي أُخبر أن زوجة مفتش تذاكر القطار بهادر قد اختفت، وبين خادمتها، يفتتح توفيق الحكيم واحدة من آخر المسرحيات التي كتبها، لكن أيضاً واحدة من أكثر المسرحيات العربية غرابة، «يا طالع الشجرة» المسرحية التي عبثاً نبحث في عنوانها أو في حواراتها أو حتى أحداثها عن أي منطق يفوق ما في عنوانها من «منطق». هي مسرحية كتبها الحكيم عام 1962 في عزّ الحقبة التي ظهرت فيها انطلاقاً من باريس أهم مسرحيات ما سُمّي بـ «مسرح العبث» أو «اللامعقول» (بيكيت، يونسكو آداموف...) فصار ذلك المسرح على الموضة في طول العالم وعرضه. وكان منطقياً أن يتبع الحكيم ذلك التيار، هو الذي كان يتابع كل ما يحدث في مناخ الثقافة العالمية.
لكن توفيق الحكيم لم يبد مجانياً أو «متغرّباً» في سلوكه ذلك السبيل بدءاً من «يا طالع الشجرة» ثم «بنك القلق» و «الطعام لكل فم» وغيرها. فهو، كما قال، إذا كان على اطلاع على ذلك الجديد المسرحي الذي وُلد في الغرب ضمن سياق حراك تجديدي في العديد من الفنون، آثر عند عودته إلى بلده بعد غياب أن يبحث عن جذور مشابهة إنما أكثر التصاقا بالشعب والأرض المصريين، في التراث المحلي. وهو يقول عن هذا، في تقديمه لـ «يا طالع الشجرة»: «... بعد عودتي إلى بلادي (...) أخذت أتأمل فنون شعبنا... وإذا بي أجد الأرض الحقيقية التي احتوت معدن هذا الفن الحديث كله. فإذا كانت السمة الظاهرة في الفن الحديث، هي التعبير عن الواقع بغير الواقع، والالتجاء إلى اللامعقول واللامنطقي في كل تعبير فني، وابتداع التجربة في الوصول إلى إيقاعات ومؤثرات جديدة، فإن كل ذلك قد عرفه فنّاننا الشعبي القديم على أرض بلادنا منذ القدم. (...) فهو قد زاول السريالية وما فوق الواقعية قبل أن يخطر هذا المذهب للأوروبيين على بال. ويكفي أن ننظر إلى تلك الصور المرسومة على بيوت حيطان الحُجّاج، أو على صفحات ألف ليلة وليلة (...). لقد أدرك هذا الفنان بالسليقة هذه المنطقة الغنية العميقة، من مناطق التعبير الفني قبل أن يدركها الفنان الغربي ويضع لها المذاهب (...). وهذا هو السبب الذي دفعني إلى أن اكتب اليوم هذه المسرحية. فنحن أولى من غيرنا باستلهام أساليبنا الشعبية في الاتجاهات الفنية المختلفة...».
للوهلة الأولى قد يبدو هذا الكلام تبسيطياً بل تبريرياً، غير أن تفحّصه عن قرب، وتحديداً على ضوء الاطلاع على تلك المسرحيات التي كتبها الحكيم انطلاقاً منه، لا سيما أشهرها «يا طالع الشجرة»، سيقول لنا أن المسألة أكثر عمقاً وأن الحكيم إنما كان يفتح طريقاً لحداثة عربية ترتبط بالأصالة بعُرَى لا تنفصم. وليس ثمة أدنى شك في أنه نجح يومها في الرهان الذي خاضه، حيث نعرف أن مشاهدة تلك المسرحية علّمت، ولو نخبة من المتفرجين، كيف تتعاطى مع الفن، ليس فقط من منطلق البحث عن المضمون والرسالة، وهما لا يغيبان عن أي حال عن مسرحيات الحكيم «اللامعقولة»، بل من منطلق المتعة الجمالية والتعاطي مع أشكال متجددة من الفن، وصولاً إلى دخول زمن العالم، ونعرف أن كثراً من كتاب المسرح وغير المسرح سرعان ما ساروا على خطى الحكيم إنما غالباً من دون الوصول إلى المستوى الإبداعي الذي وصل هو إليه، لا سيما في «يا طالع الشجرة».
وطبعاً ليس في الإمكان تلخيص هذه المسرحية وأحداثها، بخاصـــة أن لا أحداث حقيقية مترابطة فيها. فالزوجة التي تختفي ويُحقَّـــق بشأن اختفـــائهـــا ستعـــود بعد أن يُسجن زوجها بتهمة قتلها ودفنها تحت شجرة الحديقة. ولـــن يصطلح في الحياة شيء حتى حين يعود إلى قتلها هذه المرة حـــقاً وتختفي جثتها ليمتلئ المسرح بعد ذلك بضجيج الاحتفال بميلاد طــفل وصفير قطار وأطفال ينشدون الأغنية التراثية «السريالية» المعنونة «يا طالع الشجرة»...
لن يكون من الظلم لأحد أن نقول إن الحياة الثقافية والفكرية العربية لم تعرف في القرن العشرين كاتباً ومفكراً يضاهي توفيق الحكيم في ريادته وتنوع كتاباته وعمق اطلاعه وصواب القسم الأكبر من آرائه الفكرية والفنية والاجتماعية، وصولاً إلى آرائه السياسية. فالحال أننا إذا فكرنا اليوم بطروحات توفيق الحكيم كافة وفي المجالات كافة، على ضوء التطورات الراهنة التي لطالما كان هو قد حذّرنا منها ومن مغبة الانزلاق فيها من دون وعي منا بذلك، اكتشفنا لم أن هذا الرجل كان دائماً على حق، وكم أن حياتنا الفكرية العربية ظلمته حين كانت تخطئه مرة بعد مرة، فيما هو هادئ صامت يتأمل بابتسامته الهادئة وصلابته الرواقية، منتظراً أن يأتي يوم يكتشف فيه المتسرعون الدائمون أنه حتى حين كان يبادر إلى إطلاق آراء وأحكام كانت تبدو في لحظتها هرطوقية، كان دائماً واعياً بما يقول، متبصراً بما يحدث، سابقاً عصره ومفكري عصره بمراحل.
عندما رحل توفيق الحكيم عن عالمنا في عام 1987، كان الوقت لا يزال أبكر من أن يكشف لم كان ذلك الرجل على حق، لهذا لم يعدم الأمر من يهاجمه ويذكر بمواقفه «الرجعية» و «الاستسلامية». لكن في مقابل قلة من الناس لم تتذكر من توفيق الحكيم سوى مواقفه السياسية وآرائه «المزعجة» التي كان يطلقها خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته، أدركت الأكثرية العربية والمصرية على وجه الخصوص مدى الخسارة الحقيقية التي يمثلها رحيل ذلك الكاتب المسرحي والروائي، والمفكر الاجتماعي والسياسي، والرائد الفكري، الذي كان في كل ما كتب وفعل، ابنا باراً من أبناء ثورة 1919، وجزءاً أساسياً من ذلك التيار الفكري الوطني الليبرالي الذي عرفته الحياة الفكرية العربية خلال فترة ما بين الحربين، وكان تياراً أنتج قمماً في الأدب والفكر ووضع أسساً لا تزال حياتنا الفكرية اليوم عاجزة عن تجاوزها.
ولد توفيق الحكيم في الإسكندرية عام 1898، وكان أهله يريدون له أن يدخل سلك القضاء. أما هو فإن اكتشافه لفن المسرح وهوايته قراءة الكتب منذ وقت مبكر، دفعاه في اتجاه ذلك الأديب والمفكر الذي سيكونه لاحقاً. ولئن كان والده قد بعث به ليدرس الحقوق في السوربون في فرنسا، لتهريبه بعيداً من شلل المسرح التي كان قد بدأ يرتادها، فإنه في فرنسا أمعن في التوغل في الحياة الفنية والأدبية، واتخذ قراره النهائي بأن يجعل الأدب مهنته وحياته، إلى جانب عمله المتقطع في سلك القضاء.
كان توفيق في العشرين، حين كتب مسرحيته الأولى «الضيف الثقيل» ملمحاً فيها إلى الاستعمار البريطاني، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن الكتابة طوال أكثر من ستين عاماً أنتج خلالها بعض أهم المسرحيات التي عرفها الأدب والمسرح العربيان، من «براكسا» إلى «أهل الكهف» ومن «الأيدي الناعمة» وصولاً طبعاً إلى «يا طالع الشجرة» و «الطعام لكل فم» وأنتج بعض أهم الروايات مثل «عودة الروح» و «عصفور من الشرق» (وهما عبارة عن سيرة ذاتية مواربة له)، كما خاض السيرة الذاتية في شكل مباشر في كتب مثل «زهرة العمر» و «سجن العمر». وكتب نصوصاً تتراوح بين الرواية والسيرة الذاتية مثل كتابه الأشهر «يوميات نائب في الأرياف» وتأمل الكون والحياة والوجود والإنسان في أعماله كافة، لكن بخاصة في كتب مثل «عودة الوعي» و «حمار الحكيم» و «عصا الحكيم» و «من البرج العاجي». والحكيم الذي استلهم التراث العربي، استلهم كذلك التراث اليوناني في أعمال مثل «الملك أوديب»، ومسرح العبث في «يا طالع الشجرة».
ترجمت أعمال توفيق الحكيم إلى عدد من اللغات، وعُرف بعض أهم نصوصه عالمياً على نطاق واسع. ونال تكريمات عدة كان أبرزها في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، واعتبر على الدوام رائداً في العديد من المجالات، لا سيما كتابة الرواية والمسرحية.
إبراهيم العريس
جريدة الحياة
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.