ملحمة المغازي الموريسكية، صلاح فضل (مصر)، دراسات دار الربيع في القاهرة - 2019

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الحادية والثلاثون - العدد 9584 - الثلاثاء 25 حزيران (يونيو) 2019 - 22 شوال 1440 هـ
إبراهيم عبد المجيد - روائي من مصر


ملحمة المغازي الموريسكية… بضاعتنا رُدت إلينا


هذا كتاب لصلاح فضل بعنوان «ملحمة المغازي الموريسكية» من إصدار دار الربيع في القاهرة، دفعتني إليه معرفتي بدقة وعلمية دراسات صلاح فضل، لكن هذا لم يكن وحده. لقد ظللت لوقت طويل لا أرى معنى لاعتبار ضياع فلسطين مثل ضياع الأندلس، فالبكاء على الأطلال يعني الرضا بالحاصل. هذا من الناحية السياسية. أما من الناحية الأدبية فكنت وما زلت غير مقتنع بمن يكتبون أن الواقعية السحرية وفدت إلينا من روايات أمريكا اللاتينية. والسبب أن كتّاب أمريكا اللاتينية أنفسهم يعترفون بسحر الحكايات العربية، وعلى رأسها «ألف ليلة وليلة» وهذه المحلمة «ملحمة المغازي الموريسكية» التي لخصت الملاحم العربية السابقة، سواء في الشعر العربي أو في الحكايات. ومن ثم أقبلت على الكتاب، فالموريسكيون ومن شكلوا ما عُرف بالمرحلة الموريسكية التي بدأت بعد سقوط غرناطة آخر مدائن الاندلس عام 1492، هم أنفسهم ملحمة، فضلا عن إبداعهم وما خلفوه من حكايات. الكتاب ليس عويلا عليهم ولا نواحا لكنه دراسة علمية رصينة، بدون أي عصبية فقد حولوا تاريخهم تحت وطأة الهزيمة ومحاكم التفتيش في ما بعد إلى مجموعة من الأناشيد الملحمية، واستوحوا من تاريخ الملاحم العربية ما يصنع ماضيا قويا في مواجهة الحاضر، فكانت هذه الملحمة التي يقوم فيها علي ابن أبي طالب بدور البطولة.

لم يكن الأمر تشيعا لكن كان استلهاما للحكايات الشعبية الأقوى التي تعطي الروح قدرة على الاستمرار، هذه الملحمة التي كُتبت بلغة أعجمية لكن بحروف عربية في الشكل المعروف بـ»الألخميادو» توضح حقيقة بدهية بلغة صلاح فضل، إن هذا لم يحدث طفرة بل كان استقطارا لعصير العصور، ومحصلة ناضجة لكروم معتقة خلال أجيال طويلة. ومن ثم قبل أن يصل الكاتب إلى الملحمة وترجمتها، يقف طويلا أمام تاريخ الموريسكيين ومراحل الدولة الإسلامية في الأندلس. يشغل هذا نصف الكتاب الذي يقع في ثلاثمئة وخمسين صفحة تقريبا، ولا يمكن إيجازه، لكن على الجملة تتميز الدولة الإسلامية في الأندلس بمرحلتين تتقاربان في الطول، وتختلفان في الاتجاه. الأولى تبدأ مع الفتح العربي للأندلس عام 711 ميلادية لحوالي أربعة قرون، حتى سقطت كبرى العواصم الأولى ـ طليطلة ـ عام 1085. وبعدها المرحلة الثانية حتى سقوط غرناطة عام 1492.

في المرحلة الأولى تشكلت أقلية مستعربة من الإسبان حافظوا على عقائدهم وعاداتهم وتشريعاتهم وفي المرحلة الثانية أخذ المد المسيحي يُلقي ظلاله على شبه الجزيرة الأيبيرية فظهرت الجماعات الإسلامية «المُدَجّنة» التي عاشت في المجتمعات المسيحية محافظة على شريعتها القرآنية، في البلاد التي كانت تنتقل من الحكم الإسلامي إلى المسيحي مثل، طليطلة وسرقسطة ولشبونة وبلنسية وقرطبة وإشبيلية ثم غرناطة في النهاية. وبعد أن وقعت شبه الجزيرة الأيبيرية كلها في قبضة ملوك قشتالة وأراجون الموحدة، ظهرت مشكلة الأقلية الموريسكية، أي منذ عام 1492 حتى طردهم نهائيا عام 1610. هي طائفة لم تكف عن التمرد والثورة واستخدمت كثيرا نظام التقية عند الضعف، إذ كانت تبدي العادات المسيحية، وتقيم طقوسها وعاداتها الإسلامية سرًا، وهكذا وجد المستعربون خلال الحكم الإسلامي مصطلح يقابله المدجنون خلال الحكم المسيحي، ويأتي معنى الموريسكيين منطبقا على المدجنين في مرحلة تاريخية تالية، وبالذات بعد سقوط غرناطة.

فالموريسكيون ومن شكلوا ما عُرف بالمرحلة الموريسكية التي بدأت بعد سقوط غرناطة آخر مدائن الاندلس عام 1492، هم أنفسهم ملحمة، فضلا عن إبداعهم وما خلفوه من حكايات.

يصف لنا الكتاب كيف كانت الحياة شاقة لهم، وكيف ارتحلوا إلى شمال إفريقيا في المغرب وتونس، بل وكيف ارتحل بعضهم إلى القارة الأمريكية الجديدة، وكيف صارت محنتهم الدينية مع التحول المسيحي، ثم كيف صارت محنتهم ومحنة المسيحيين أنفسهم مع محاكم التفتيش في ما بعد. كيف كان حرق وإعدام الكتب العربية، وما القليل الذي نجا منها، وكيف كان التركيزعلى حرق الكتب الدينية وكيف مع محاكم التفتيش لم تعد هناك ثقة فيهم، فمن قبل كان المنتصر المسيحي يعاملهم كما تعامل المسلمون معهم بعد الفتح، إذ يقرّون لهم بالسلامة والبقاء على عاداتهم، بل كانوا يكتفون أحيانا بحراسة المدن عسكريا لا إبادة أهلها ولا الاعتداء على ممتلكاتهم، أي الأمن والأمان نفسه الذي كان قد منحهم إياه الفتح الإسلامي، حتى تغير كل شيء مع محاكم التفتيش، التي أضرت بالجميع، مسلمين تنصروا أو لم يتنصروا، ومسيحيين. وهكذا نمضي حتى نصل مع صلاح فضل إلى ملحمة المغازي التي كُتبت بحروف عربية وبلغة أعجمية. ويقدم لذلك بكيف كان تراثهم معروفا، أو ما ينتجونه من حكايات وملاحم حتى أن ثرفانتس حين قال إنه وجد دون كيخوتة عربيا كان يقصد موريسكيا، وهم الذين أثرت كتاباتهم حتى بعد دون كيخوتة في الحركة الرومانتيكية الفرنسية، وعلى رأسها فيكتور هوغو صاحب ديوان «الشرقيات». وكذلك على إنكلترا وغيرها، مستندا إلى كتب ودراسات عربية وإسبانية وأوروبية لا تحتمل التأويل، حتى نصل إلى الملحمة التي نعرف من دراسته لها كيف تطورت الملاحم العربية بعد ظهور الإسلام، فصار للبطل مرجع ديني ونفحة إلهية، ويمكن أن يتجلى له جبريل أو الملائكة، بعد أن كانت الملاحم العربية ترتبط بالقبيلة. ويمكن في الملاحم الجديدة أن يتخيل البطل الرسول الكريم والبطل هنا هو علي بن أبي طالب عليه السلام، وكيف أن ذلك انتقل إلى ملحمة مثل ملحمة «السيد» القشتالية، فالجهاد في سبيل الله نهايته الجنة، وفي هذه الملحمة ـ السيد – وغيرها فالأمر كذلك، بل امتد إلى الحروب الصليبية التي رفعت الشعارات نفسها. ويقدم صلاح فضل نصوصا واضحة من الملاحم الأجنبية، تؤكد ما يقول، ففي كتاب «المغازي» يتكرر وعد محمد النبي الكريم للمجاهدين بالجنة، وفي ملحمة «السيد» القشتالية نجد المطران دون خيرونيمو، وهو يرتل القداس يقول «من يمت منكم مقاتلا وجها لوجه غفرت له ذنوبه، وتسكن روحه مستقرة في جوار الله»، أو كما يقول مخاطبا البارونات «أؤكد لكم حقيقة مهمة، مفتوحا ستجدون الفردوس المقدس وهناك تجلسون جوار الأبرار». وفي أنشودة رولان كما في كتاب «المغازي» تصعد روح الكونت بعد موته إلى السماء «بيدين مضمومتين مضى إلى نهايته، وبعث له الرب ملاكيه كيروبين وجبريل المقدس، ورفعا إلى الفردوس روحه».

وكما يبدو بطل الملاحم العربية ذا بلاغة ـ علي بن أبي طالب، أو عنترة أو الزير سالم مثلا ـ يكون بطل الملاحم القشتالي ويظهر ذلك في ملحمة «السيد» واضحا، وكما تتكرر صيحة علي بن أبي طالب في كتاب «المغازي» «أنا علي بن أبي طالب أسد بني غالب» يتكرر نظيرها في ملحمة السيد أو أنشودة رولان وفي قصائد قشتالية نجد الكونت فرنان جونثاليث يهتف «أنا الكونت. شدوا عليهم أيها القشتاليون وأوسعوهم جرحا وتنكيلا» الأمر نفسه في استحضار النساء فعنترة يذكر عبلة «ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني ….» وفي كتاب «المغازي» خلال حصار المدينة وغزوة الخندق يطلب علي من النبي أن يبعث إليه بفاطمة الزهراء والصبايا الأربعين من حِسان قريش كي يصعدن على جدار المدينة ويشاهدونه أثناء القتال. وفي ملحمة «السيد» نرى مثل القول «فأمر زوجته وبنتيه بأن يصعدن إلى القصر، إلى برجه السامق ليرين كل الخيام»، وهكذا يمضي صلاح فضل في المقارنة، إلى مساحات الخيال العظيمة في ملحمة «المغازي» والمستقى في معظمه من ملاحم عربية سابقة فيعيدني إلى ما قلته كثيرا، وهو أن العجائبية التي أتت إلينا من الأدب الأمريكي اللاتيني إنما هي بضاعتنا ردت إلينا. ويحتاج الأمر إلى دراسات في كيف تطورت الأخيلة العربية عبر التاريخ. والسلام.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)