جريدة المدن الألكترونيّة
السبت 01-06-2019
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي
لغز علاء الدين
<article5220|cycle|docs=6279,6280,6281,6282,6283,6284>
مع إطلاق فيلم “علاء الدين” الجديد على شاشات السينما في العالم، عاد الحديث عن أصول هذه القصة “العربية” التراثية التي شغلت البحاثة، وبات للقصة راوٍ سوري من حلب يُدعى حنا دياب، ابتكرها ونقلها إلى العالم الفرنسي أنطوان غالان الذي أفتتن بقصص “ألف ليلة وليلة” ودأب على نشرها في مطلع القرن الثامن عشر.
في عام 1701، اقتنى أنطوان غالان مخطوطة من العصر المملوكي تضم مجموعة من قصص “ألف ليلة وليلة” بواسطة صديق له من حلب، لقاء مبلغ أربعة ريالات. شرع العالم الفرنسي في ترجمة هذه القصص، وبدأ في نشرها تباعا في سلسلة من الكتب. صدر الجزء الأول من هذه السلسلة في 1704، وحصد نجاحا كبيرا، فتوالت الإصدارات التالية في السنوات التالية حتى 1717. هكذا خرجت “ألف ليلة وليلة” من الظلمة إلى النور في صيغتها الفرنسية في سلسلة من اثني عشر جزءا راجت رواجا عظيما وبلغت العالم الأوروبي الواسع. ضمت هذه المجموعة قصصا لا نجد لها أي أثر في المخطوط العربي الذي شكّل أساسا للترجمة الفرنسية، منها قصة علاء الدين التي عرفت شهرة كبيرة منذ صدورها، وباتت واحدة من أشهر قصص ألف ليلة وليلة.
توالى ظهور علاء الدين في القرن التاسع عشر من خلال عدد كبير من الإصدارات، وتحول منذ تلك الحقبة إلى شخصية مسرحية لها جمهورها الواسع في فرنسا كما في بريطانيا. وانتقل سريعا إلى الشاشة مع بداية عصر السينما، فظهر في فيلم فرنسي بعنوان “علاء الدين والمصباح السحري” في 1901، وظهر ثانية في فيلم آخر بعنوان مشابه بعد خمس سنوات، وشكّل هذان الشريطان بداية لانطلاقته المستمرة على الشاشة الفضية. من عالم الكتاب، إلى خشبة المسرح، إلى شاشات السينما، تكرر ظهور علاء الدين في وجوه متعددة في سائر أنحاء العالم، إلا ان ظهوره الأول ظلّ سرّا حيّر أهل الاختصاص الذين دأبوا على دراسة قصص “الليالي العربية” وتحديد مراحل تكوينها.
نقع على حكاية علاء الدين في مخطوطتين من محفوظات المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس. تحمل المخطوطة الأولى اسم الراهب الباسيلي السوري ديونيسوس شاويش الذي طُرد من فرنسا إثر الثورة عام 1789، وتحمل الثانية اسم الراهب العكاوي الشويري الأصل ميخائيل الصباغ، المتوفي عام 1816. كذلك، نقع على حكاية علي بابا في مخطوط يتيم من محفوظات المكتبة البودلية في اوكسفورد، وهو من توقيع يوحنا بن يوسف وارسي، وهو على الأرجح اسم “معرّب” لمستشرق فرنسي من تلاميذ البارون سيلفستر دي ساسي. كان ديونيسوس شاويش من أوائل الذين حاولوا استتمام كتاب ألف ليلة وليلة. بعده، جاء ميخائيل الصباغ بنسخة قال إنه نقلها عن مخطوط نُسخ في بغداد عام 1115 للهجرة، وسرت حيلته على الجميع إلى أن أثبت العلامة العراقي محسن مهدي أن النسخة البغدادية المزعومة ما هي سوى نسخة لفّقها الناسخ في باريس من مصادر مختلفة. في الخلاصة، اتّضح ان أقدم نسخ قصة علاء الدين العربية ما هي إلا نسخ مستحدثة تبعت رواية أنطوان غالان وليس العكس، وبقي السؤال المحيّر: من ابتكر شخصية علاء الدين؟
في الواقع، نجد بداية الإجابة على هذا السؤال في دفتر اليوميات التي كتبها أنطوان غالان بين 1646 و1715. في 17 آذار/مارس، يقول العالم الفرنسي إنه قصد زميله الرحّالة بول لوكا في منزله ليرد له الميداليات التي أخذها منه منذ ثمانية أيام، وتحدّث هناك مع “حنّا، ماروني من حلب”. وفي 25 آذار/مارس، يقول انه ذهب صباحا لزيارة بول لوكا الذي كان يتهيّأ للخروج، فبقي “مع السيد حنا، ماروني من حلب”، وحكى له “السيد حنا بعض الحكايات العربية الجميلة جدًّا”، ووعده بأنه سيقوم بتدوينها وإرسالها له. هكذا بدأ التعاون بين غالان و"السيد حنّا"، وكانت ثمرته كما يتّضح من هذه اليوميات ست عشرة حكاية نُشر منها اثنتا عشرة في آخر أربع أجزاء من سلسلة الترجمة الفرنسية لألف ليلة وليلة، وكانت أولى هذه الحكايات حكاية علاء الدين التي انتهى السيد حنّا من سردها في 5 أيار/مايو 1709، كما يروي غالان الذي نشرها تباعًا في الجزأين التاسع والعاشر من سلسلته.
في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 1711، يقول المترجم الفرنسي أنه شرع بالأمس في قراءة “الحكاية العربية للسراج” التي كتبها له حنّا منذ أكثر من سنة، وقد انتهى من قراءتها هذا الصباح، “وها هو عنوان هذه الحكاية: قصة علاء الدين، ابن خياط، وما حدث له مع ساحر إفريقي بسبب سراج”. وفي 15 تشرين الثاني/نوفمبر، يعود ويقول انه باشر ليلا في العمل على “حكاية السراج”. وتوحي هذه الإشارات بأنه استند على نص مكتوب وضعه له حنّا الحلبي. انطلاقا من هذه اليوميات، تمّ الربط بين حكاية علاء الدين وراويها الأصلي حنا الحلبي الذي التقى به غالان في منزل بول لوكا، وهو رحّالة منافس له، عمل لصالح ملك فرنسا ونبلاء بلاطه، عُرف بتجواله في الشرق لجمع المخطوطات والمسكوكات والمجوهرات وما شابه، وقد دوّن كذلك يومياته بين تشرين الأول/اكتوبر 1704 وأيلول/سبتمبر 1708، ولم يأت فيها على ذكر مساعده حنّا دياب الذي رافقه في تجواله.
بقيت يوميات غالان الشاهد الوحيد لعمل حنا دياب إلى أن أعلن البحاث الفرنسي جيروم لنتان في 1993 عن اكتشافه لمخطوط باسم حنا دياب في خزينة الفاتيكان، وتبيّن ان هذا المخطوط يعود إلى مجموعة من 775 مخطوطة أهداها إلى الفاتيكان سنة 1926 قس حلبي من طائفة السريان الكاثوليك يُدعى بولس صباط. نُشرت هذه المذكرات أوّلا في ترجمة فرنسية سنة 2015، ونُشرت بلغتها الأصلية مؤخرا في إصدار من “منشورات الجمل” بتحقيق صفاء أبو شهلا جبران ومحمد مصطفى الجاروش. بعد أن تجاوز السبعين، استعاد عبد القاري أنطون يوسف حنا دياب ذكرياته، وروى بلغة تقارب المحكية حكايته مع بول لوكا ومرافقته له كترجمان في عدد من المدن العربية بين 1707 و 1709، وقد وعده الرحالة الفرنسي بوظيفة في مكتبة الملك في باريس إذا رافقه في رحلته، غير أنه أخلّ بوعده بعد وصولهما إلى باريس، وهذا ما دفعه إلى العودة بمفرده إلى حلب.
للأسف، لا يتحدّث الراوي في مذكراته عن تعاونه مع أنطوان غالان إلا في فقرة قصيرة يتحدّث فيها عن الشتاء القاسي الذي عرفه في باريس سنة 1709، وفيها يذكر غالان بـاسم “الختيار” فحسب. يقول الراوي: “وفي تلك الأيام، صغرت نفسي واتضجرت من السكنه في تلك البلاد. وكان يزورنا كثير اوقات رجل اختيار، وكان موكل على خزانة كتب العربيه وكان يقرا مليح بالعربي، وينقل كتب عربي الى الفرنساوي. ومن الجملة كان في ذلك الحين ينقل كتاب عربي الى الفرنساوي وهو كتاب حكاية ألف ليله وليله. فهذا الرجل كان يستعين فيّ لأجل بعض قضايا ما كان يفهمهم، فكنت افهمه اياهم. وكان الكتاب ناقص كام ليله، فاحكيت له حكايا الذي كنت بعرفهم، فتمم كتابه من تلك الحكايا. فانبسط مني قوي كثير، ووعدني بان كان لي مسألة حتى يقضيها من كل قلبه”.
للأسف، لا يذكر حنا دياب شيئا عن حكاية علاء الدين، غير أنه نقع في مدوّنته على حادثة عاشها في بداية رحلته تقارب في وقائعها هذه الحكاية، كما أشار الباحث بيرنار إيبيرغر.
بحسب هذه الرواية، خلال مرورهما بقرية كفتين، رغب بول لوكا بزيارة أنقاض دير وكنيسة في جبل مجاور، ووجد هناك قبرا عمقه “قامة ومدة يد”، وطلب من أحد الرعاة أن ينزل إلى ذلك القبر، وقال له “دوّر في القبر وايش ما شفت اعطيني إياه”، “فجمع الذي وجده وأعطانا هو، فوجدنا بين الذي قشّه خاتم كبير”. بعدها، قال “الخواجه” للراعي: “جس حيطان القبر”، ففعل، ووجد “طاقة وداخلها سراج شبه جيرون السمّان”، أي شبه سراج تاجر السّمنة.
تستعيد الباحثة كريستيان داميان هذا الفصل، وتضيف معلّقة: “في هذا المشهد، فإن كلًّا من الجبل وشخصية الأجنبي الباحث عن غرض ثمين وإنزال رجل مسكين من أبناء البلد إلى تحت الأرض لتلبية رغبة هذا الأجنبي مهما كلّف الأمر، وكذلك وجود السراج نفسه، كل هذا يبدو وكأنه عناصر من تجربته الحياتية انتشلها حنّا دياب من ذاكرته لتكوين حكاية علاء الدين”.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.