مقال صحفي

معارك المسلمين البحرية وجزر البحر الأبيض المتوسط

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت ٢٨ ديسمبر (كانون الأول) ٢٠١٣
جريدة الحياة
أنيس الأبيض


كانت بداية معارك المسلمين البحرية في استيلائهم على كريت وقبرص وبعض الجزر المجاورة، بعد ذلك بدأوا يتجهون إلى غزو إسبانيا. سبق ذلك هجومهم على المراكز البيزنطية في كل من البحرين الأيوني والأدرياني. ولم يقف طموح العرب المسلمين عند ما فتحوه من الجزر والبلدان والحصون في أوروبا، بل تعدوها إلى ما وراء ذلك.

فالتاريخ يحدثنا أنهم استولوا على ولايات عدة من جنوب إيطاليا وكانوا يطلقون على أراضي إيطاليا البر الطويل أو الأراضي الكبيرة، فأخذوا (فلوريه) واستولوا على (طارنت) و (باري) و (ريو) وغيرها من بلاد (لمبارديا) و (أبوليه). كانت الأجزاء الحيوية من أراضي (أبوليه) و (فلوريه) تعد من أراضي الدولة البيزنطية واحتفظت الثلاث دوقيات الواقعة على البحر التيراني، وهي (جايتا ونابولي وأمالفي) باستقلالها فلم يكن لإمارة (نيفتو) سلطان عليها، وهي مرتبطة بالاسم بالدولة البيزنطية، واضطرت دوقية (نابولي) لدفع مطامع أمراء (نيفتو) عنها إلى أن تحالف المسلمون في صقلية عام 835 ميلادية واستمر هذا التحالف حتى عام 900.

استقرت أقدام العرب المسلمين في إسبانيا، وفي صقلية وغيرها من جزر البحر المتوسط. وحاولوا الاستقرار على سواحل البحر المتوسط في إيطاليا وفرنسا، واستطاعوا أن يكونوا إمارة مستقلة على سواحل إقليم بروفانس، وازدادت قوتهم بما كان يصل إليهم من الإمدادات من بلاد الأندلس وأفريقيا وجزيرة صقلية، وتمكنوا بذلك من إقامة المعاقل والحصون فوق المرتفعات المشرفة على خليج (غريحو) جنوب إقليم (بروفانس) وفي غابة (فراكسنيت). ومن ثم أطلق على هذه الدولة العربية الفراكسينئة. ولم يلبث هؤلاء العرب أن ألفوا سكنى الجبال والغابات والأحراش. بدأ تفوق العرب المسلمين حينما نجحوا في استعمال الحراقات وهي السفن التي تقذف بلهب النفط، ما مكنهم من مقاومة النار الإغريقية التي يستخدمها البيزنطيون، بدأ الهجوم العربي الإسلامي بالاستيلاء على (برنديزي) عام 838 بأسطول من عرب كريت أو شمال أفريقيا أو منهما معاً، وقام من البندقية أسطول مكون من ستين قطعة حربية للدفاع عن هذا الإقليم، ولكنه عانى أهوالاً شديدة قرب (كروتوني) على خليج (طارنت) حيث حطمه المسلمون تماماً. ومن (بالرم) عاصمة جزيرة صقلية قام العرب المسلمون بغزو إيطاليا الشرقية فاحتلوا (برنديزي) عام 838، كما احتل عرب صقلية (طارنت) عام 840 وهي قاعدة بحرية مهمة في بحر الأدرياتيك، وكان من نتائج انهزام البندقية، وتأسيس حكومة عربية إسلامية جديدة في (باري) واستيلاء عرب كريت على (طارنت) أن تعرض البحر الأدرياني لغارات الأساطيل العربية الإسلامية.

خاف البنادقة على تجارتهم ودفعهم الإمبراطور البيزنطي تيوفيل إلى قتال العرب المسلمين، فجهزوا أسطولاً مؤلفاً من ستين مركبا، أقلع إلى صقلية والتقى بالأسطول العربي الإسلامي أمام (طارنت) فهلك معظم البنادقة وأسر من بقي على قيد الحياة، وتقدم المسلمون بأسطولهم إلى الجزء الشمالي من بحر الأدرياتيك وهاجموا (الماسيا) واجتازوا البحر وهاجموا (أنكونا) وأسروا عدداً كبيراً من أهلها وغنموا عدداً كبيراً من سفن البنادقة.

في حديثه عن هذه الأحداث ذكر المؤرخ ابن الأثير أن أسطول المسلمين سار إلى (فلوريه) وفتحها، ولقوا أسطول صاحب القسطنطينية مهزوماً، فكان فتحاً عظيماً. ويقصد ابن الأثير بفلوريه الجزء الذي يسمى اليوم شبه جزيرة سالانتينا وهو الجزء الجنوبي من (أبوليا) وفيه (طارنت وبرنديزي).

حطم الأسطول العربي الإسلامي أسطولاً بيزنطياً مكوناً من أربعين سفينة تجاه ساحل (أبوليا)، وقد حركت هذه الخسائر القسطنطينية لبذل جهد بحري جديد، فأرسلت أسطولاً كبيراً من الشرق إلى (سرقوسة) عدته 300 سفينة، وعبر هذا الأسطول مضيق مسينا، والتقى الأسطولان العربي الإسلامي والبيزنطي تجاه الساحل الشمالي لصقلية، وانتصر العرب المسلمون انتصاراً حاسماً، وفقد البيزنطيون مئة سفينة. وغزا العرب المسلمون روما مرتين الأولى عام 846 وضربوا الحصار عليها فارتاع البابا سرجيوس واهتز الشعب الروماني رعباً، وبادر الإمبراطور لويس الثاني ملك الفرنجة بإرسال حملة لقتال الغزاة العرب المسلمين، وجهزت ثغور (نابولي وأمالفي وجانيا) حملة بحرية لقتال المسلمين، ما اضطرهم لرفع الحصار بعد أن اقتتلوا مع جند الإمبراطور وسفن الثغور الإيطالية وعادوا مثقلين بالغنائم والأسرى.

أما الغزوة العربية الثانية لروما فكانت عام 870 وقد نجحت نجاحاً تاماً. وأرسل البابا يوحنا الثامن إلى شارل الجسور وبيزنطة ومدن أمالفي وجانيا ونابولي ملتمساً لنفسه ولأملاكه الحماية، فلم يظفر إلا بنجاح ضئيل، وذلك لأن القسطنطينية لم تطمئن إلى تقرب البابا من الكارولنجيين، ولأنها كانت مشغولة بأمر صقلية وبلاد الشرق، أما شارل الجسور فلم يكن لديه أسطول. وحلف مدن كمبانيا لم يرغب في معاداة أصدقائه العرب المسلمين، ولذا لم تستطع الكنيسة في وسط إيطاليا أن تضمن الحماية إلا بعد دفع إتاوة مقدارها 25 ألف قطعة فضية للعرب المسلمين كما ذكر أرسيبالد لويس.

خلال القرن العاشر كانت غارات العرب المسلمين من إيطاليا وإسبانيا تمتد عبر ممرات الألب إلى وسط أوروبا. ويذكر فيليب حتي في كتابه «تاريخ العرب»، أنه في جبال الألب عدد من القصور والأسوار يذكر أدلاء السياح أنها ترجع إلى عهد غزوات العرب، ولعل بعض أسماء الأماكن السويسرية مثل (Gaby) و (AlJaby)، لعلها جابي الخراج، في دليل (بديكر) عن سويسرا ترجع إلى أصل عربي.

في عام 986 أغارت القوات العربية الإسلامية على (فلوريه) ثانية ومدينة (جراتشه) و (كوسنزا) ثم هاجموا المناطق القريبة من (باري) عام 988، ثم زاد ضغط العرب المسلمين بعد هزيمة البيزنطيين أمام الأساطيل الفاطمية العربية قرب الشواطئ السورية. وفي عام 1002 أخذ المسلمون ينتشرون داخل إيطاليا في غارات واسعة النطاق، فاحتلوا باريب عام 1003 ثم راحوا يغيرون على البحر التيراني عام 1004 فهاجموا مدينة (بيزا) واستولوا على مدينة (كوسننرا). وبموت الإمبراطور أوتو الثالث وانشغال بيزنطة في حروبها مع البلغار لم يكن في هذه المناطق قوة تصد غارات العرب المسلمين، ولذا أغاروا على (بيزا) وأمست إيطاليا مثلما كانت أواخر القرن التاسع، الصيد السهل للعرب المسلمين. اعتبرت غارات العرب المسلمين على جزيرة صقلية ثم استيلاؤهم على جزيرة كريت عام 827 بداية عهد جديد في البحر المتوسط .

انتقلت الجزر المهمة في البحر المتوسط إلى أيدي العرب المسلمين، وكان لهذا الانتقال انعكاسات مهمة على القوى البحرية في البحر المتوسط، نتيجة للسيطرة معظم الوقت على جزيرة كريت شرقاً وصقلية ومالطة في الوسط، وجزر البليار غرباً، ثم على جزيرتي سردينيا وقبرص المحايدتين، ولم يبقَ هناك سوى طريق واحد بعيد من خطر القواعد العربية الإسلامية في البحر والبر وهو الطريق الموصل بين البحر المتوسط وبين البندقية، عبر مياه البحرين الأيوني والأدرياني. وحتى هذا الطريق ظل مغلقاً مدة ثلاثين عاماً لوجود قواعد عربية إسلامية في مدن باري وطارنت، واستمرت الحال كذلك إلى عام 875. هكذا، سيطرت على مداخل البحر الضيقة جزيرة أو قاعدة أمامية واقعة في قبضة العرب المسلمين، فمثلاً سدت جزيرة كريت مدخل بحر «إيجه» وسدت جزيرة صقلية ومونت جادليانو مدخل البحر التيراني، وسدت جزر البليار وفراكسنيت العربية خليج «ليونز» وأصبحت الشعوب العربية الإسلامية كما يذكر المؤرخ الأميركي أرسيبالد لويس سيدة البحر المتوسط ومالكة زمام طرق التجارة الدولية فيه.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)