السبت 05 مايو 2018
جريدة الحياة
خالد بريش
مخطوطتان جديدتان لأحمد فارس الشدياق
سال حبر كثير حول المفكر والشاعر والأديب المجدد أحمد فارس الشدياق (1219– 1304 / 1804– 1887)، وتفاصيل حياته، ومؤلفاته. ولكن يبقى ذلك غير كافٍ أمام تلك العبقرية، الفذة التي مما لا شك فيه أنها تركت أثراً مهماً على الثقافة والأدب، لا ينكره إلا جاحد. وخصوصاً أنه في كل يوم تكشف لنا الأيام صفحات جديدة من تاريخه، وذخائر علمه التي لم تلق إلى يومنا هذا العناية، والدراسة التي تستحقها في وطن العصبيات المذهبية والطائفية.
مع العلم أن الشدياق هو العبقري الوحيد الذي ادعت طوائف الوطن انتماءه لها، وتوحد الوطن يوم دفنه في جنازته. أوليس هو الذي صلوا عليه في المسجد، ثم في الكنيسة...؟
في صناديق المخطوطات القديمة في مكتبة باريس الشرقية، كان ينام مخطوطان سُجلا تحت بند اللغة العربية. ولكونهما يعودان إلى القرن التاسع عشر، فإنهما لم يشدا الانتباه إليهما. لأن هذه المرحلة شهدت تقدما في الطباعة بالحرف العربي، وبدأ فيها التخلي عن التأليف، والنسخ اليدوي. ولسبب آخر وهو أن المخطوطين عبارة عن نسخ، وتجميع لمواد لغوية وتاريخية، وليسا مؤلفين مستقلين بالمعنى الصحيح للكلمة.
هذا ونقرأ في دفتر الحيازة الخاص بالمكتبة، أنهما وصلا إلى رفوف المكتبة بالشراء من إحدى المكتبات التي كانت تتاجر بفرائد الكتب والمخطوطات في باريس. ولا ندري إن كانا وصلا إليها من خلال شرائها مكتبة الكونت الدحداح...؟ أو لكتب الشدياق نفسه من حفيدته الوحيدة روز، ابنة ابنه سليم، التي آلت إليها ثروة أبيها المادية والعلمية من مخطوطات والده. وقد أبت في بداية الأمر التخلي عنها لذويها من آل الشدياق، أو إلى غيرهم، وخصوصاً أنها كانت بخط جدها...؟
المخطوط الأول
يحمل المخطوط الأول رقم Mss. ara 44 ويتألف من ورقتين حافظتين، و135 ورقة، من ضمنها 3 ورقات بياض في الآخر. بخط نسخي مشرقي، متأنق، متسق، جميل، مع مشق، وتفحيم لبعض الحروف. والمتن بالأسود والأحمر الباهت، الذي لم يستخدم كثيراً. على ورق أوروبي حديث، مقاس 205 X 135، حوت الورقة ما بين 22 و23 سطراً، مع تعقيب في الزاوية اليمنى السفلى. أما التجليد فهو أوروبي كرتوني حديث، مغطى بورق مجزع (أبرو)، أخضر زيتي، و«بيج». وكعب جلدي زيتي بقواطع مذهبة. وزوايا الغلاف الخارجية بجلد زيتي، دون الأطراف. وقد حوى المتن تصويبات، واستطرادات، وملاحظات في الهوامش بالخط ذاته. وأضيفت أرقام متسلسلة على الخدِّ الأيمن، أمام المسائل، والمصطلحات، والمفردات. وهي بالأسود الباهت قليلاً، ما يعني أنها أضيفت بقلم آخر في ما بعد. وكذلك أثبت الناسخ علامات الإعراب على المصطلحات، والمفردات التي يذكرها، وعلى أوزانها الصرفية.
يبدأ المتن في الورقة folio 1-v بالبسملة، ثم يليها «وبه أستعين وبعد فهذه فوائد عثرت بها في أثناء المطالعة فأحببت أن أقيدها هنا وبالله التوفيق». وينتهي المتن بلا خوارج، ولا حَرْد، فقط بتوقيعه: «قد جمعه فارس الشدياق».
المخطوط الثاني
يحمل المخطوط الثاني رقم Mss. ara 435، ويتألف من ورقتين حافظتين، و 70 ورقة. بخط نسخي مشرقي، متأنق، متسق، جميل، مع إشباع، ومشق لبعض الحروف. تحوي الورقة ما بين 25 و26 سطراً. بالأسود والأحمر الغامق للعناوين، ورؤوس المسائل. مع تعقيب في الزاوية اليمنى السفلى. الورق أوروبي حديث، مقاس 211 X 134. بتجليد حديث كرتوني، مغطى بورق مجزع (أبرو)، بني وأسود وأبيض. وكعب جلدي بني فاتح أمْلس. حوى المتن تصويبات في الهامش، واستطرادات، وملاحظات بخط المتن ذاته.
المخطوط عبارة عن نقل حرفي من «كتاب اليتيمة في النسب»، الموجود في الجزء الثاني من كتاب «العقد الفريد»، لابن عبد ربه. ويبدأ المتن في الورقة folio 1-v بقوله «قال أحمد بن محمد بن عبد ربه قد مضى قولنا في النوادب والمراثي...». ونجد في حرد المتن معلومات مهمة عن تاريخ انتهائه من النسخ، والنسخة التي ينقل عنها، وأين كان ساعة انتهائه من النسخ. فيذكر في folio 70-r ما نصه: «تم هذا الجزء بحمد الله وعونه بتاريخ عاشر شهر أيار (مايو) سنة 1847 على يد العبد الفقير إلى ربه الرزاق فارس الشدياق في جزيرة مالطة من نسخة محررة بقلم الفاضل العلامة الشيخ محمد عياد الطنطاوي».
وسوف ينصب اهتمامنا على المخطوط الأول الذي هو عبارة عن فوائد، ونكت، واستطرادات نحوية، وصرفية. بالإضافة إلى بعض الحكايات، والطرف، على شاكلة الكشكول. ولكون الثاني عبارة عن نسخ لمادة لا تقدم قيمة علمية، أو تاريخية مهمة، إلا في حال دراسة التعقيبات وتحليلها، والتعليقات التي في الهوامش، وكذلك أساليب النسخ، وتطور المخطوطات في تلك الفترة من الزمن.
خلا المخطوط الأول من سَرْلوْحة، وقيود، أو حُرود، تظهر لنا تاريخه، وسنة كتابته. إلا من قيد وحيد على الورقة folio 1-r يقول فيه: «قد جمعه فارس الشدياق/ قد تملكه بالشراء من جامعه سنة 1857 في لندن رشيد الدحاح». ويُظهر هذا القيد لفظ البيع، وتاريخه، ومكانه، واسم المشتري، وهو الكونت رشيد الدحداح (1813- 1889)، الذي كانت تربطه بالشدياق صداقة قوية، وكان أحد مسعفيه مادياً، إذا ما ضاقت به الأمور. ونستدل من التاريخ أنه باعه بعد انتهائه من أشهر كتبه «الساق على الساق فيما هو الفارياق»، بمدة وجيزة، الذي طبع في باريس عام 1855م..
أسئلة حول المخطوطين
لم تكن الحياة بالنسبة إلى الشدياق سهلة وفي متناول اليد، فقد كان يعيش في معاناة، وضنك، معظم حياته. مع أنه كسب في مرحلة من مراحل حياته مالاً كثيراً، وذلك عندما استدعاه إليه أبو العباس أحمد بن مصطفى باشا، باي تونس (1806 – 1855). وأرسل له فرقاطة حربية، أقلته مكرماً من مارسيليا إلى تونس. فقال يومها: «لعمري ما كنت أحسب أن الدهر ترك للشعر سوقاً ينفق فيه ولكن إذا أراد الله بعبد خيراً لم يعقه عنه الشعر ولا غيره». وبقي في تونس فترة، اعتنق خلالها الإسلام، وتسمى بأحمد، وتكنّى بأبي العباس، وتولى خلالها تحرير «جريدة الرائد التونسي».
ثم استدعاه عام 1853 م. السلطان العثماني عبد المجيد الأول (1823– 1861)، إلى إسطنبول التي بقي فيها فترة، أنعم عليه خلالها بالأوسمة والنياشين والألقاب، فأنشأ في عام 1860 م. صحيفة الجوائب، التي غدت في مرحلة من مراحلها مصدراً مهماً من مصادر أخبار الباب العالي، واعتمد عليها السفراء والقناصل الأجانب في استقاء الأخبار والمعلومات. ثم أنشا في عام 1870 م. مطبعة الجوائب، التي كان لها الفضل في طباعة كم كبير من الكتب العربية، والدور الريادي في نشر الثقافة والمعرفة.
أمضى الشدياق في الآستانة عدة سنوات، كريم الكف، مفتوحاً بيته لكل أصدقائه ومعارفه، فكانوا يجتمعون عنده، ويرجعون إليه إذا ما ضاقت بهم السبل. غير أنه كان عالماً مثقفاً، ينشد حريته في المقام الأول، فغادر اسطنبول، وعاد إلى أوروبا. فعاش مبذراً محباً للبذخ، والمجون، مما أوقعه في العوز، ومد اليد إلى أصدقائه. وفي قوله في خوارج متن المخطوط الثاني: «الفقير إلى ربه الرزاق»، ما يفيد بأنه نسخه ليبيعه ويرتزق به.
ويطرح المخطوط الأول، كثيراً من الأسئلة أهمها:
– هل كان جمعه لهذه المادة، مقدمة لكتاب في كلمات شاع الخطأ فيها، فبدأ بجمعها مرتبة بأرقام، وذلك ليضمها فيما بعد مؤلف خاص...؟
إن منهجيته في الجمع، وأسلوب وضعه علامات الإعراب، وذكره لاختلاف معاني المفردات، باختلاف مواضع علامات الإعراب، يؤكد ذلك. وأما قوله في المقدمة، الورقة folio 1-v: «فهذه فوائد عثرت عليها في أثناء المطالعة فأحببت أن أقيدها هنا وبالله التوفيق»، لا يتناقض مع ذلك. ولا يفوتنا أن نشير إلى أن ملاحظاته، وتصويباته، التي في الهوامش، وبين السطور، بالأسود وبالأحمر، تفيد رجوعه إلى المخطوط أكثر من مرة، ما يُعزِّز فرضية أنه كان مشروع كتاب مستقبلي، قد تكون حاجته الماسة للمال قد حرمتنا منه.
– أم أنه جمعه على سبيل المعرفة في الشيء، وعشقاً وحباً في اللغة وغريبها، كالمفردات التي على وزن فَعَوْعَل، ومِفْعَال، وإفْعِيل، وفَنْعَليل، وفَعْلِيل الخ...؟ وفي هذه الحالة يكون المخطوط كمرجع خاص به.
أهم ما يكشفه المخطوطان
يكشف المخطوطان أموراً كثيرة، أهمها في اعتقادي، الجانب الاجتماعي الإنساني، الذي يتلخص في معاناته المادية، وحاجته الدائمة إلى المال، مما كان يحوجه إلى نسخ الكتب وبيعها، أو بيع بعض ما في حوزته من كتب نسخها لنفسه. وهو في ذلك ككثير من رجال الثقافة عبر التاريخ، الذين اختاروا الحرية، والعصامية، والعض على الجرح، فلم تشملهم سطور المفكر إدوارد سعيد التي سطرها حول خيانة المثقفين، فعاشوا في بؤس، وعوز، ولكن مع عزة نفس وكبرياء. وقد ألمح إلى ذلك في كتاباته وقصائده منها هذين البيتين:
يَراني الناسُ في كوخٍ حقيرٍ
فيحْتقرونَ مَنْزلتي احْتِقاراً
فهلْ يا قوْمُ عنْدكُمُ المَعَالي
عُلوُّ مَباءَةٍ تَحْوي حِمارا ؟
وهو في ذلك يذكرنا بكثيرين أقصوا عن دائرة الضوء، والهبات، والجوائز. وتشاركوا معه في المعاناة. نذكر منهم أبا الحسن الجزار المصري (601 – 679/ 1204 – 1280)، الذي قال يوماً:
كيْفَ لا أشْكُرُ الجِزارَة ما عِشْتُ حِفاظًا وأهْجُرُ الآدابا
وبِها صارَت الكِلابُ تُرَجِّيني وبالشِّعْرِ كنتُ أرْجو الكِلابا
وفي ما يخص الجانب العلمي، فمن الممكن تلخيص أهمية هذا المخطوط بعدة نقاط:
أولاً: سعة اطلاعه، وتمكنه من اللغة العربية؛ نحواً، وصرفاً، وبلاغة، ومرجعيته في هذه العلوم في زمانه. وصدق فيه ما قيل عنه: «كان دائرة معارف تمشي على الأرض».
ثانياً: أسلوبه، ومنهجيته المتأنية، الدقيقة، التي تتضح في تشكيله للمفردات، ووضعه لعلامات الإعراب، وأيضاً لحرف «ﻫ.» في آخر كل فائدة، أو فقرة، إشارة بانتهائها. وغوصه في بواطن الكتب، باحثاً عن الألفاظ الغريبة، وأوزانها، وتنسيقها، وترتيبها في كراريس، بخط متأنق لكي تكون كتاباً.
ثالثاً: اهتمامه الشديد بما يكتب وينقل. فنرى كيف أنه كان يقوم بالتصويب، والتصحيح في الهوامش التي هي بخطه، ما ينفي عنه تهمة أنه كان لا يصحح كتبه، ولا يعتني بها.
رابعاً: جمال خطه، ومهارته في نسخ الكتب. وهو ما تعلمه من أخيه، وبرع فيه. واتخذه مهنة، حصَّل منها مالاً، ومعرفة. فــكان كلما تــركها واشتـغل بالتجـارة، عاد إليها.
وفي الختام، شكراً للغرب الذي حفظ لنا كثيراً من كتبنا، وتراثنا، ومخطوطاتنا، التي ربما لو بقيت في رحمها، أقصد بلادنا، لاستخدمت في لفافات السندويتش! وأنه آن الأوان لكي يُفتتح مركز للدراسات، يحمل اسمه، ويجمع كتبه ومخطوطاته وآثاره، ويتناول فكره، وكتاباته، وتأثيرها.
جريدة الحياة
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.