ليالي نجيب محفوظ في شبرد، إبراهيم عبد العزيز (مصر)، نقد مؤسسة “بتانة” للنشر، القاهرة، 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 25-10-2017
المدن - ثقافة
شريف الشافعي


محفوظ وأسرار “الحرافيش”


يا أخي هذا الزمن غريب، هؤلاء البنات أين كنّ عندما كنا في سنوات الشباب؟!"


تنبع قيمة الصالون الأدبي، وطبيعته ومكانته، من قيمة صاحب الصالون، الذي يمثل الشخصية المحورية فيه.

حقيقة آمن بها نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911 - 30 أغسطس 2006)، بقدر إيمانه بالناس، على أنه لم يحضر صالونات غيره من مشاهير الأدباء، فلم يلحق صالون مي زيادة، ولم يحضر نهائيًّا صالون العقاد، إذ كان يعيش في هذا الوقت منكمشًا، مستغرقًا في أعماله، لا يزور أحدًا.

كثيرة وزاخمة هي صالونات نجيب محفوظ، تعددت وتنقلت على مدار حياته من موضع إلى آخر باختلاف الظروف الاجتماعية والملابسات السياسية وظروفه الصحية، على أن ما يميزها كلها أنها بمثابة مقاهٍ عامة مفتوحة، وكل شخص من الحاضرين يقول ما يريد بغض النظر عن مركزه وعلاقته بالأدب.

“أحب هذا الشكل من الصالونات والمناقشات الأدبية”، هكذا يقول نجيب محفوظ في صفحات السِّفر الضخم “ليالي نجيب محفوظ في شبرد”(*)، الصادر مؤخرًا للكاتب إبراهيم عبد العزيز(**)، وهو كتاب موسوعي بمثابة تأريخ استقصائي لصالون نجيب محفوظ في هذا الفندق خلال السنوات الأخيرة من عمره، وتفاصيل ما كان يدور فيه من أحاديث ومناقشات ومزح و"خناقات" بين محفوظ وزائريه من مصر وخارجها، فضلًا عن أعضاء شلة “الحرافيش”، وآراء وتعليقات محفوظ على العديد من القضايا في الأدب والفكر والسياسة والشأن العام والخاص.

أراد مؤلف “ليالي شبرد” لكتابه أن يأتي مبسطًا، خاليًا من التعقيد، لكأنه ترجمة أمينة لروح الصالون، إذ تغلف التلقائية والمرح والفكاهة أحيانًا، جدية ما يقدمه صاحب الصالون وضيوفه من مناقشات ساخنة، تحفل بالأسرار وتفجر المفاجآت، ويبقى “التشويق” عنوانًا دائمًا لفصول الكتاب القصيرة أو “لياليه”. فهو يتضمن 122 ليلة من ليالي الصالون، يكاد ينقلها المؤلف بحذافيرها ومشاغباتها للإبقاء على ما فيها من “حيوية”، تلك السمة الأبرز التي تحمي صالونات محفوظ من القولبة. فهو الرجل الذي وصف صالونات أخرى كثيرة لا تعجبه، لأدباء لاحقين، بأنها فقدت قيمتها وتأثيرها، لأنها “أصبحت نوعًا من المنظرة الاجتماعية”.

منذ العام 1945، ونجيب محفوظ على صلة وثيقة بالصالونات والمقاهي والحرافيش والناس، ولم تنقطع جلساته الأسبوعية في “مقهى الأوبرا” (مقر صالونه الأول صباح كل جمعة) حتى العام 1962، بسبب التدخلات والتقارير الأمنية. وتعددت صالونات محفوظ بعد ذلك في أمكنة مختلفة، من أبرزها: نادي القصة، مقهى سفنكس، مقهى ريش، مقهى لاباس، كازينو قصر النيل، مقهى ركس، مقهى عرابي، مقهى الفيشاوي، مقهى قشتمر، مقهى سي عبده، مقهى علي بابا، وغيرها.

وبعد محاولة اغتياله في العام 1994، ولأسباب صحية وشُرطية أيضًا (تأمينية في هذه المرة)، عرف نجيب محفوظ طريقه إلى مقاهٍ ملحقة بالفنادق، منها: مينا هاوس بالهرم، شبرد بالتحرير، سوفيتيل بالمعادي، هليوبوليس في مصر الجديدة.

وتعود بداية الجلسات المحفوظية في مقهى فندق شبرد إلى مطلع العام 2003، وفق تدوينات الكاتب إبراهيم عبد العزيز، الذي أراد لمقدمة كتابه أن تكون أيضًا خزانة أسرار لأديب نوبل، انطلاقًا من اعترافاته وحكاياه التي تلصص عليها مؤلف “ليالي شبرد”، سواء في صالون الفندق، أو في لقاءات أخرى جمعته بمحفوظ.

ومما يسرده عبد العزيز في مقدمته أن محفوظ “دفع نفقات مئتي حاج من ماله الخاص لغير القادرين من محدودي الدخل على أداء تلك الفريضة”، أما السبب فهو “التعويض عن تلك الفريضة التي لم تتيسر له سبل أدائها في الوقت المناسب لصحته وقدرته”.

هو سر شخصي بسيط، لكنه يقدم إجابات عن تساؤلات كثيرة بشأن موقف مؤلف “أولاد حارتنا” من الأديان، ومن الإيمان. ويحكي المؤلف أيضًا: “لا يفوت نجيب محفوظ والسيدة زوجته عطية الله، حرصًا على قيمة التضحية، أن يذبحا بقرة وكبشين ليأخذ كل محتاج نصيبه”.

وإلى سر آخر، يتعلق هذه المرة بعلاقة محفوظ بالآخرين، إذ يروي عبد العزيز أن محفوظ ظل حريصاً طوال حياته على ألا يسيء إلى أحد، حتى لو أساء إليه الآخرون، إلا إذا تعدّت الإساءة حدود الأدب، كما فعل ذات مرة مع الناقد صبري حافظ، حين تورط في مهاجمة محفوظ في مجلة “الأقلام” العراقية، ثم حينما حصل محفوظ على جائزة نوبل في العام 1988، اتصل به ليهنئه، فقال له محفوظ: “تشتمني ثم تهنئني؟!”، وأغلق السماعة في وجهه.

وعن موقف مشابه، يحكي المؤلف أن سليمان فياض كتب مقالًا عن رواية “حضرة المحترم” لمحفوظ في صحيفة “كتب جديدة”، وقال في الرواية رأيًا لا يسر، مفاده أن نجيب محفوظ يسلي نفسه أحيانًا لمجرد الكتابة وينفخ روحًا في قصة قصيرة لتكون رواية، ولسوء الحظ حضر رئيس التحرير جلسة محفوظ وأعطاه نسخة من الصحيفة في حضور صاحب المقال، فقرأه محفوظ. وفوجئ سليمان فياض بمحفوظ يلتفت إليه قائلًا وهو يطوي الصحيفة تحت مرفقه على المنضدة: “دا نقد؟ إنت قليل الأدب!”. وهنا ابتسم فياض، وقال: “مقبولة منك يا عم نجيب”، ولزم الصمت. وطلب محفوظ قهوة لفياض، ثم دعاه ليجلس بمقابله، وقال له: “إنسَ ما قلت”، فقال فياض بدهشة: “وأنت؟”، فقال محفوظ: “نسيت الأمر كله”.

ويستعرض كتاب “ليالي شبرد” شهادة للكاتب عادل كامل، صديق محفوظ الذي توقف عن الكتابة مبكرًا بعد روايته “مليم الأكبر”، ويوضح عادل (أحد أعضاء شلة الحرافيش) أن الحرافيش منهم الأصليون المعروفون (نجيب محفوظ، محمد عفيفي، عادل كامل، صلاح جاهين، توفيق صالح، أحمد مظهر “صاحب تسمية الحرافيش”)، ومنهم الأسماء التي لا يعرفها الكثيرون: “أحمد زكي مخلوف، أمين الدهبي، د.محمد إبراهيم السيد، ثابت الذهبي، بهجت عثمان”.

على طريقة الكادرات السريعة، تأتي لقطات “ليالي شبرد”، لبطلها الدائم هو العم نجيب محفوظ، ومن حوله الأصدقاء والزوّار والجمهور والأحداث والوقائع التي يحكيها أو يعلق عليها. في ليلة 27/4/2003، سُئل محفوظ عن مدى استحقاق يوسف إدريس جائزة نوبل؟ فقال: “إبداعه لا يؤهله لها”، وعلق أحد الحاضرين: “لقد حصل على جائزة صدام حسين، واعتبرها جائزة نوبل”، وهنا قال محفوظ ما يحتمل أكثر من تأويل: “ما دام أخذها، تبقى أكبر من نوبل”.

ومن أجواء ليلة 8/6/2003، في صالون شبرد، ما أذاعه نجيب محفوظ عن محاولة المتطرفين تطليقه من زوجته السيدة عطية الله، ولم يذكر محفوظ السبب بوضوح، لكن جرى فهم كلامه في سياق أزمة روايته “أولاد حارتنا”، التي ظلت ممنوعة في مصر سنوات طويلة.

أما ليلة 28/9/2003، ففيها يقيّم محفوظ الرئيسين جمال عبد الناصر والسادات، مشيرًا إلى أن التاريخ لن يترك خيرًا فعلاه من أجل الشعب، ويقول: “في رواية”أمام العرش" أعطيت كل واحد حقه على قدر الإمكان، ما يستحقه وما يؤخذ عليه، وقد أدخلتهما الجنة لأنهما عملا أعمالًا عظيمة".

ولا يمانع محفوظ أن يكون رئيسًا للجمهورية إذا عُرض عليه ذلك، وفق ما قاله في ليلة 12/10/2003، إذ سأله سائل: “ماذا سيكون موقفك لو عرض عليك عبد الناصر رئاسة الجمهورية بعد الثورة، كما سبق أن عرضها على أحمد لطفي السيد؟”، فقال محفوظ: “لم يكن يوجد مانع لأكون رئيسًا للجمهورية آنذاك، الأديب المسرحي التشيكي فاسلاف هافل صار رئيسًا لبلاده”.



وفي حقل السياسة أيضًا، يوجه محفوظ انتقادات للرئيس الأميركي الأسبق بوش، في ليلة 9/11/2003، حينما ذكر بوش أن قطر والأردن والمغرب والكويت والبحرين تمثل الدول العربية الأكثر ديموقراطية، متجاهلًا مصر، فعلق محفوظ بقوله: “المصريون طالبوا بالديموقراطية منذ أيام الخديوي إسماعيل، وحققوا الدستور والديموقراطية بعد ثورة 1919، وعاشت مصر تجربة ليبرالية، لكن الأميركيين أنفسهم هم الذين أجهضوها، بتعاونهم مع العسكر، واتفاقهم معهم”.

ويذهب محفوظ في ليلة 22/9/2004، التي حضرت صالونها صحفية يابانية، إلى أن القضاء على الإرهاب في العالم يكون بإقامة العدل، أما الحرب على الإرهاب فهي تقود إلى زيادة الإرهاب، لأنها تأكيد للظلم الواقع على بعض شعوب العالم.

وفي ما يبدو إطلالة شفيفة على المستقبل، أو حلم من أحلام محفوظ القصصية، ما ذكره في ليلة 2/8/2004، بشأن إمكانية أن تجرى انتخابات حرة في مصر، وتأتي بـ"الإخوان المسلمين" لحكم البلاد، حيث قال محفوظ: “أنا ضد الحكم الديني، ولو هناك انتخابات، لن أعطيهم صوتي، فقط أريد انتخابات حرة. الإخوان صاروا حزبًا في الواقع، وهم الذين عملوا أنفسهم حتى صاروا واقعًا، والنحاس باشا كان يعرفهم قبل أن يكونوا حزبًا ويكشفوا عن أنفسهم. قال النحاس لحسن البنا: جمعية دينية أهلًا وسهلًا، لكن ما تشتغلش سياسة”.

ومن قفشات “صالون شبرد”، ما حكاه محفوظ في ليلة 8/7/2004 عن مجموعة من طالبات المدارس الجميلات، اللواتي أحطن به صباحًا لالتقاط الصور، ولكي يكتب لهن أوتوغرافات، فعلق محفوظ في الصالون: “يا أخي هذا الزمن غريب، هؤلاء البنات أين كنّ عندما كنا في سنوات الشباب؟!”.

وفي ليلة 19/9/2004، تسأله الكاتبة صافيناز كاظم عن شلة الأنس وعوامة محمد عفيفي: “كنت شقي يا أستاذ نجيب؟ حصل؟”، فيقول محفوظ: “كلهم كانوا خلابيص!”، فتقول صافيناز مازحة: “كان حقك تؤلف رواية اسمها الخلابيص، بدلًا من الحرافيش!”.

(*) صدر كتاب “ليالي نجيب محفوظ في شبرد” في 1600 صفحة من القطع الكبير عن مؤسسة “بتانة” للنشر، القاهرة، 2017.
(**) إبراهيم عبد العزيز، كاتب وصحافي مصري يعمل في مجلة “الإذاعة والتلفزيون”. من مؤلفاته: “الملف الشخصي لتوفيق الحكيم”، “أوراق مجهولة للدكتور طه حسين”، “رسائل أنيس منصور”، “أيام العمر”.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)