كيف ساهمت الجدّات في تطوّر البشرية ؟

, بقلم محمد بكري


موقع رصيف 22


موقع رصيف 22
الجمعة 6 مارس 2020
ايليج نون - صحافية لبنانية


"يا ستّي يا ختيارة"... كيف ساهمت الجدّات في تطوّر البشرية ؟



يصادف يوم 8 مارس من كل عام يوم المرأة العالمي، وهي مناسبة تهدف للاحتفاء بإنجازات النساء، والحثّ على القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، من أجل عالم أفضل للجميع.

وفي هذا اليوم بالتحديد، يتم الاحتفاء بالمرأة الثائرة والمتمردة، التي تسعى جاهدة لكسر جميع القيود الاجتماعية، بهدف أن تحرر نفسها أولاً، أن تمارس حريتها وتطالب بأبسط حقوقها، كما يتم الاحتفال لاحقاً بعيد الأم، وبعده بعيدي الأب والطفل، ولكن روزنامة الأعياد تكاد تكون ناقصة، إذ سقط سهواً تخصيص يوم للجدات اللواتي يبدو أنهنّ لعبن دوراً حاسماً في عملية التطور البشري.

فرضية الجدة

يبدو أن مهمّة جدّة “ليلى” كانت أكبر من مجرّد حمايتها من الذئب...

لسنوات كافح علماء الأنثروبولوجيا وعلماء علم الأحياء التطوري لشرح انقطاع الطمث، وهي المرحلة التي لا نتشارك نحن البشر بها مع أقاربنا الرئيسيين، مثل الشمبانزي والغوريلا.

ورداً على السؤال الذي يخطر على بال الكثيرين: لماذا يكون من المفيد بالنسبة للإناث فقدان القدرة على إنجاب الأطفال، رغم قدرتهنّ على العيش لعقود من العمر؟ كشفت دراسة نشرت في مجلة royal society publishing، أن الجواب هو الجدّات، إذ يبدو أن المساهمة التي تقدمها الجدّات أكثر أهمية مما يدركه معظم الناس.

وفي هذا الصدد، قالت كريستن هوكس، عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة يوتا، إن الجدّات شكلن “الخطوة الأولى لجعلنا على ما نحن عليه”.

وفي العام 1997 تحدثت هوكس عن “فرضية الجدّة” وهي النظرية التي تشرح انقطاع الطمث، من خلال الإشارة إلى القيمة التطورية غير المقدرة للجدّات.

وبحسب هوكس، فإن الجدّات ساعدن في تطوير “مجموعة كاملة من القدرات الاجتماعية التي هي الأساس لظهور السمات البشرية الأخرى، بما في ذلك الترابط الزوجي، الأدمغة الأكبر، تعلم مهارات جديدة والميل للتعاون”.

واللافت أن الدراسة التي أجرتها كريستن هوكس مع عالم الأحياء الرياضية بيتر كيم من جامعة سيدني، وعالم الأنثروبولوجيا جيمس كوكسوورث، استخدمت المحاكاة الحاسوبية لتقديم دليل رياضي لفرضية الجدّة.

ساعدت الجدّات في تطوير “مجموعة كاملة من القدرات الاجتماعية التي هي الأساس لظهور السمات البشرية الأخرى، بما في ذلك الترابط الزوجي، الأدمغة الأكبر، تعلم مهارات جديدة والميل للتعاون

وبهدف اختبار قوة هذه الفكرة، قام الباحثون بمحاكاة ما يمكن أن يحدث لعمر مجموعة من الرئيسيات الافتراضية، في حال تم إدخال انقطاع الطمث والجدّات كجزء من البنية الاجتماعية.

ففي العالم الواقعي، تعيش قرود الشمبانزي الأنثى حوالي 35 إلى 45 سنة في البرية، ونادراً ما تبقى على قيد الحياة بعد سنوات الحمل.

وفي عملية المحاكاة، كرر الباحثون ذلك، إلا أنهم قدّروا أن 1% من السكان الإناث لديهنّ استعداد وراثي للعيش فترات العمر كالإنسان وانقطاع الطمث.

وقد اتضح أنه على مدار حوالي 60000 سنة، قامت أنواع الرئيسيات الافتراضية بتطوير القدرة على العيش لعقود بعد الإنجاب، بالإضافة إلى البقاء على قيد الحياة حتى الستينيات والسبعينيات من العمر، وفي نهاية المطاف، 43% من السكان الإناث البالغات أصبحن من الجدّات.

ولكن كيف تساعدنا الجدّات على العيش لفترة أطول ؟

بحسب الفرضية المذكورة أعلاه، يمكن للجدات المساعدة في جمع الأغذية وإطعام الأطفال قبل أن يقمن بإطعام أنفسهنّ، بالإضافة إلى تمكين الأمهات من إنجاب المزيد من الأطفال.

واعتبرت الفرضية أنه من دون وجود الجدّات، إذا قامت مثلاً الأم بإنجاب طفل جديد وكان لديها طفل آخر عمره سنتان، فإن احتمال بقاء الطفل على قيد الحياة أقل بكثير، لأن البشر، وعلى عكس الثدييات الأخرى، ليسوا قادرين على إطعام ورعاية أنفسهم فوراً بعد الفطام، بحيث يتعيّن على الأم أن تكرس وقتها للاهتمام بالمولود الحديث على حساب الطفل الأكبر، غير أن الجدّات قادرات على حل هذه المشكلة، عن طريق تقديم الدعم والقيام بدور مقدمي الرعاية التكميلية.

وبالتالي، في هذه الفرضية وفي المحاكاة الحاسوبية، فإن عدد الإناث القليلات اللواتي تمكنّ في البداية من العيش إلى سن ما بعد انقطاع الطمث، ساهمن في زيادة احتمالات بقاء أحفادهنّ على قيد الحياة، ونتيجة لذلك، فإن الجدّات نقلن طول العمر إلى الجينات، وعليه تطور عمر الجنس البشري على مدى آلاف الأجيال.

ولكن لماذا تطورت الإناث بشكل يسمح لهنّ بالإباضة لمدة 40 سنة فقط في هذه الحياة الطويلة؟

لاحظت كريستن هوكس وأنصار النظرية، أنه من دون انقطاع الطمث ستستمر النساء المسنّات في عيش الأمومة عوضاً عن التصرف كجدات، وسيظل جميع الأطفال معتمدين اعتماداً كلياً على أمهاتهم للبقاء على قيد الحياة، لذلك بمجرد وفاة الأمهات الأكبر سناً، فمن المحتمل أن يموت الكثير من ذريتهم الصغار أيضاً.

من وجهة نظر تطورية، من المنطقي بالنسبة للإناث الأكبر سناً أن يساهمن في زيادة معدل البقاء على قيد الحياة للمجموعة، بدلاً من استهلاك المزيد من الطاقة على حياتهنّ الخاصة.

وقد ذهبت هوكس أبعد من ذلك، إذ اعتبرت أن العلاقات الاجتماعية التي تتماشى مع الجدّات يمكن أن تكون قد ساهمت في نمو الدماغ وغيرها من السمات التي تميز البشر، شارحة ذلك بالقول:”إذا كنتم أطفال شمبانزي، غوريلا أو صغير إنسان الغاب، فإن أمكم لن تفكر في شيء سوى فيكم، ولكن إذا كنتم طفلاً بشرياً، فإن والدتكم لديها أطفال آخرون بحاجة لرعايتها، وسيكون هناك اختيار للاعتناء بكم (هذا الأمر ليس موجوداً بين القرود) ولحثها على اختياركم تقولون: “أمي! أعيريني أنتباهك!”.

من دون انقطاع الطمث ستستمر النساء المسنّات في عيش الأمومة عوضاً عن التصرف كجدات، وسيظل جميع الأطفال معتمدين اعتماداً كلياً على أمهاتهم للبقاء على قيد الحياة، لذلك بمجرد وفاة الأمهات الأكبر سناً، فمن المحتمل أن يموت الكثير من ذريتهم الصغار أيضاً

ونتيجة لذلك، أضافت هوكس، أن الجدّات “أعطيننا نوع التنشئة الذي يجعلنا أكثر اعتماداً على بعضنا البعض اجتماعياً، وعرضة لجذب انتباه بعضنا البعض”.

وهذا التوجه، بحسب هوكس، قاد إلى زيادة حجم الدماغ جنباً إلى جنب مع طول العمر وانقطاع الطمث.

وكان قد تم تقديم تفسير واحد لهذه الفرضية من قبل جورج س. وليامز، الذي كان أول من افترض أن انقطاع الطمث قد يكون شكلاً من أشكال التأقلم أو التكيّف، بحيث اعتبر وليامز أنه في مرحلة ما، يصبح من الأفضل للمرأة إعادة توجيه جهودها لزيادة دعم النسل الحالي، مشدداً على أن الأمهات الأكبر سناً يجب أن يتوقفن عن إنتاج ذرية جديدة والتركيز على الموجود، وبذلك يتجنبن عوامل الخطورة المرتبطة بالإنجاب في عمر متقدم.

في كل الأحوال تبقى “نظرية الجدّة” غير مؤكدة نهائياً، ولكن الأدلة الرياضية تعمل كدعم مهم لها، وهذا يمكن أن يساعد علماء الأنثروبولوجيا على فهم التطور البشري بشكل أفضل، ويجب أن يعطينا سبباً آخر لشكر جداتنا، سواء كنّ على قيد الحياة أم لا.

عن موقع رصيف 22

حقوق النشر

تم نقل هذا المقال بهدف تربوي وبصفة غير تجارية بناء على ما جاء في الفقرة الثانية من الفقرة 5 من شروط استخدام موقع رصيف 22 الإلكتروني على الموقع الإلكتروني “رصيف 22” :

... علماً أن الموقع يحترم، بالقدر الذي نقتبس فيه المواد من حين لآخر من مصادر أخرى بغية دعم مختلف التفسيرات والمؤلفات الواردة في هذا السياق، حق الآخرين في “الاستخدام العادل” للمواد التي يتضمنها الموقع؛ وبناءً على ذلك، فإنه يجوز للمستخدم من حين لآخر، اقتباس واستخدام المواد الموجودة على الموقع الإلكتروني بما يتماشى مع مبادئ “الاستخدام العادل”.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)