الإثنين 07-01-2019
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
«قصر الحمراء» الغرناطي : صورة لحضارة ورمز لجبروت
ينقل الباحث الفرنسي جان هيبوليت عن الفيلسوف الألماني هيغل تفسير هذا الأخير لعظمة واستثنائية الفنون العمرانية الإغريقية ولا سيما منها ما يتعلق بتفاني المواطنين في بناء المدن وزخرفتها والعناية بكل تفاصيل التفاصيل فيها، من دون أن يهتم أيّ من أولئك المواطنين بأن يخلّد التاريخ اسمه، فيقول أن المواطن إنما كان يشعر بأنه أنجز وحقّق ذاته في المدينة التي يعتبرها الاستمرار المنطقي المتحدث عن مروره في هذه الحياة الدنيا. ويكاد هذا القول يبدو متطابقاً مع ذلك القول الذي أُثر عن السينمائي جان رينوار حين تحدّث عن بناة الكاتدرائيات الكبرى في مدن العصور الوسطى من الذين لم يبق للتاريخ أثر لاسم من أسمائهم وكانت مكافأتهم أن خُلّدت الأعمال العمرانية الكبرى التي ساهم كل واحد منهم في تشييدها. ولعل في إمكاننا تذكّر شيء من هذا القبيل بالنسبة الى الحضارة العربية/ الإسلامية، في كل مرة يطالعنا فيها أثر عمراني كبير من الآثار التي بقيت من تلك الحضارة. فالحقيقة أنه لئن أبقى لنا التاريخ على أسماء وذكر مؤلفي الكتب وناظمي الأشعار ومبتدعي الفنون الموسيقية وصانعي الأفكار وأمثالهم، فإنه نادراً ما كان يترك لنا شيئاً من ذكر كبار العمرانيين، وبالتالي صغارهم. ومع هذا، فإن تلك الصروح تبقى الأكثر حضوراً في الحياة العامة والأكثر جدارة بأن يحكى عن أولئك العباقرة الذين شيدوها... ومن بين تلك الآثار العمرانية العظيمة التي بقيت حتى اليوم شاهدة على تلك المآثر العمرانية الكبرى يمكننا دائماً أن نتوقف بالطبع عند ذلك القصر المنيف الذي لا يزال شامخاً حتى اليوم في الأندلس الإسبانية يُحدّث ملايين الزائرين سنوياً عن روعة تلك الحضارة التي مرّت ذات يوم من هنا: الحضارة الأندلسية العربية.
وما نتحدث عنه هو في غرناطة اليوم، أشهر القصور الأندلسية، والموقع الذي يزوره القادمون الى إسبانيا أكثر من أي موقع آخر. وهو في الوقت نفسه أشهر وأعظم ما خلفته الحضارة الإسلامية في الأندلس من آثار عمرانية: القصر الذي يقف شامخاً في المدينة الأندلسية العريقة شاهداً على تقدم تلك الحضارة التي بنته ذات يوم، وشاهداً أيضاً على الفنان حين يختفي وراء فن حسبه منه أن يوجد وأن يبقى بعدما يندثر هو وتزول ذكراه. وفي هذا ما يذكّر، كما أشرنا أوّل هذا الكلام، ببناة المدن الإغريقية في العصور الغابرة، وببناة الكاتدرائيات الكبرى في العصور الوسيطة. ففي الحالات الثلاث معاً نعرف أن الفن نفسه يبقى فيما يختفي مبدعوه. فاليوم يكاد يكون من المستحيل أن نعرف اسم المهندس المعماري - أو المهندسين العديدين - الذي أنشأوا قصر الحمراء موضوع حديثنا هنا. لكننا نعرف بالطبع أسماء الحكام الذين أمروا بإنشائه وأنشئ في عهدهم وطُوّر وحُسِّن في عهد خلفائهم، ليشهد مؤامرات القصور والصراعات على العروش وجبروت السلطة والسقوط الأخير في نهاية المطاف. وذلك هو قدر هذا النوع من المشاريع.
ومن الواضح أن جزءاً أساسياً من القيمة التاريخية لهذا القصر الغرناطي الأندلسي ترجع الى واقع انه بُني في وقت متأخر جداً من عمر الحضارة الأندلسية في إسبانيا. في زمن كانت فيه تلك الحضارة قد شارفت على الغروب. وفي وقت كانت معظم المدن قد سقطت اذ استعادها ملوك إسبانيا المسيحيون، بما في ذلك قرطبة. وكان ان أضحت غرناطة الحاضرة والقلعة القوية، وآخر معقل للمقاومة الإسلامية. ومن هنا من البديهي أن يكون بنو الأحمر الذين كانوا يحكمون غرناطة أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، قد شاؤوا ان يعبروا تعبيراً واضحاً عن قوتهم وقدرتهم، بعد، على البقاء، فكان أن أمروا ببناء ذلك القصر المنيف والغريب، الذي يجمع أبهى مفاهيم الفن بأعتى مظاهر القوة، ويوالف - تشكيلياً - بين ذروة ما وصل اليه العمران العربي الذي كان وصل الأندلس قادماً من أحضان الدولة الأموية قبل أن يواصل التغلغل الى ما فيها من تقدم عمراني، آتياً هذه المرة مما كان العمرانيون ينجزونه خلال العصر العباسي في تجلياته الأولى على الأقل. وذلك، في تمازج خلاق مع الإضافات البربرية الآتية من الشمال الافريقي، ليتحد كل هذا في إسبانيا ذات الحضارة العمرانية العريقة الرومانية الجذور والفسيغوتية الهوى.
كل هذا نجده مجتمعاً في بناء ذلك القصر المنيف والبهيّ، الذي يسمى أيضاً «القلعة الحمراء»، والذي وصل الى ذروة إنشائه أيام يوسف الأول ومحمد الخامس. وكان يوسف أول من أمر بإنشاء القصر في مكان كانت تشغله قلعة أموية قديمة على مرتفع مجاور لوسط غرناطة. ثم تلاه محمد الخامس الذي، بعدما أنجز بناء قصر أبيه، اذ توفي هذا قبل اكتماله، انصرف الى بناء قصر مجاور له. وهذان القصران يشكلان اليوم ذلك المجمع الذي يحفل بآيات الفن العمراني ولكنه يعبّر في الوقت نفسه عن أبدع تجليات الفن الزخرفي.
مهما يكن من الأمر، فإن بناء وتطوير «الحمراء» يُنسب اليوم الى محمد الخامس الذي كان يلقب بالغالب، فهو الذي وسع من مساحة القصر القديم الذي قام على أنقاض القلعة، وهو الذي سمح للبناة والمهندسين بوضع التماثيل وبالإغراق في زخرفة كان بعض المتزمتين يرى ان لا ضرورة لها، ونعرف أنهم لا يزالون يفعلون حتى اليوم! ولقد واصل خلفاء الغالب تطوير القصر من بعده، حيث انه، خلال القرنين الأخيرين من عمر الدولة الأندلسية، تحول المكان الى ذلك القصر الذي نعرفه الآن بأجنحته المتعددة. والقصر في الحقيقة، وكما أشرنا، قصران، يقوم كل واحد منهما من حول فناء مستطيل تتوسطه، على الطريقة العربية التقليدية، بركة. وأشهر الفنائين، بالطبع، فناء الأسود الذي استقى اسمه من تماثيل لأسود تبدو وكأنها تحمل بركة الماء على ظهورها. وحول ذلك الفناء، كما حول الفناء الشهير الآخر، فناء الريحان، يقوم القصر المؤلف أساساً من طابقين، الأول للزوار والاستقبالات والأعلى للحياة الخاصة للخلفاء من شاغليه. ومن الملاحظ كيف أن القاعات جميعها محاطة بجدران مزينة بأرقى وأجمل ما توصل اليه الفن الأندلسي من نقوش ومنمنمات وجدرانيات تبدو في معظم الحالات مثل قطع «دانتيلا» مشغولة بكل دقة. ومن الواضح أن معظم تلك النقوش والرقوش تقوم من حول كتابات هي في جزئها الأكبر آيات قرآنية وحكم.
والحال أن هذا الثراء في الزينة هو الذي جعل الكاتب جون د. هوغ يقول: «لعل ما يلفت النظر حقا هنا هو إن هندسة هذا المبنى العظيم، ينتهي بها الأمر الى الإمّحاء أمام عظمة الزخرفة. حيث يبدو لنا ان النحاتين هنا قد أبدعوا فناً يكاد يكون في رهافته فناً انثوياً، ويكاد يلوح في أعين الزائرين وكأنه حلم غير مادي. غير ان هذا الكمال الفني الذي نراه هنا انما يبدو، تأكيداً، وكأنه واقف عند حدود الانهيار – أو هذا ما استوحاه عدد من الكتاب المحدثين من الذين في لحظات تأملهم لهذا الصرح العمراني المهيب، لم يفتهم أن يلاحظوا كيف أنه يبدو في نهاية الأمر وكأنه من ذلك النوع من الفنون «الختامية» التي يمكن النظر اليها على انها «آخر وأكمل تعبير عن ثقافة وحضارة هما في طريقهما الى الزوال نهائياً من ذلك المكان».
وليس هذا الافتراض خطأ، ذلك ان هذا القصر ظلّ يُطوَّر ويزدهر حتى لحظة سقوط غرناطة في نهاية القرن الخامس عشر، أمام زحف ملوك إسبانيا وجيوشهم. والمؤسي ان هؤلاء، حين تمكنوا من طرد آخر الأندلسيين في العام 1492، التفتوا أول ما التفتوا، الى قصر الحمراء، فإذا بالملك الإسباني شارل الخامس يأمر برمي الاثاث الذي وجده موزعاً في داخله؛ كما أمر بتهديم العديد من القاعات والجدران، ليُحلّ محلها قاعات صممها ونفذها المهندس بيدرو دي ماشوكا خلال الربع الأول من القرن التالي، وذلك على النمط النهضوي الايطالي. ومنذ ذلك الحين توالت التبديلات والتغييرات، الجذرية أحياناً، على قصر الحمراء. غير ان هذا كله لم يتمكن من إزالته من الوجود، بفناءيه وقاعاته التي تكاد كل واحدة منها تروي حكاية مجد وسلطة: من فناء الأسود الذي كان آخر إشارة الى عظمة تلك الحضارة، الى قاعة السفراء، الى قاعة آل بني سراج، الذين تقول الحكاية ان أبا عبدالله، آخر ملوك غرناطة، دعاهم الى قصره، مولماً لهم في تلك القاعة بالذات، ثم أمر بقتل زعمائهم، فقتلوا ذبحاً.
جريدة الحياة
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.