قالوا عن صلاح الدين الأيوبي : شهادات من الشرق والغرب، الدكتور محمد مؤنس عوض (مصر)، تاريخ وتراث

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ١٤ فبراير/ شباط ٢٠١٥
جريدة الحياة
محمد فوزي رحيل


صلاح الدين في كلام أهل الشرق والغرب


من الطبيعي أن يهتم المؤرخون بالقامات الكبيرة في أممهم، ومن ثم يسعون إلى الكتابة عنها، إشادة بإنجازاتها وحرصاً على تخليد ذكراها، رداً لجميلها وحرصاً على أن تكون قدوة للأجيال الآتية، ومن هنا كثر التأليف عن الأعلام في كل بلاد العالم. ومن المألوف أن يصدر مؤلف كتاباً عن قامة من هذه القامات الشامخة، لكن أن يكتب مؤلف واحد عدداً من الكتب والدراسات عن العَلَم نفسه، فهذه ظاهرة جديرة بالدراسة، وهذا ما قام به الدكتور محمد مؤنس عوض، حين اهتم ببطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي، فقد ألف عنه عدداً من الكتب منها: «صلاح الدين بين الحقيقة والأسطورة»، ثم زار قبر صلاح الدين ودوَّن انفعالاته وانطباعاته عن هذه الزيارة في كتاب «رحلتى إلى صلاح الدين»، ولم يكتف بذلك، بل قرر إبراز أخلاق الفروسية الحقة التي تحلى بها صلاح الدين بإجماع أهل الشرق والغرب، فكتب «صلاح الدين الأيوبي فارس عصر الحروب الصليبية»، ثم قرر أن يجمع في صعيد واحد كل ما أُلف عن صلاح الدين فكتب «صلاح الدين الأيوبي بيبلوغرافيا كرونولوجية» جمع فيها جُلَّ ما كُتب عن صلاح الدين بمختلف اللغات، وبعد كل هذا رأى أنه لم يوف الرجل حقه، فألف كتاباً جديداً صدر حديثاً عن دار «الكرز» في القاهرة بعنوان «قالوا عن صلاح الدين الأيوبي: شهادات من الشرق والغرب».

بذل المؤلف جهداً مشكوراً في الاطلاع على عدد كبير من المؤلفات الشرقية والغربية حتى تكتمل مادة هذا الكتاب، الذي ضم عدداً ضخماً من الشهادات، الى جانب حرصه الكبير على عدم إثقال الكتاب بالتحليلات والمناقشات، ومن ثم اكتفى بإيراد الشهادات مع شرح بسيط لأهم محتوياتها وما نخرج به منها من دلالات عظيمة الفائدة. وكان غرض المؤلف من هذا التبسيط الذي بذل فيه الجهد الكبير، أن تتسع دائرة المستفيدين من الكتاب، فلا يقف عند عيون الأكاديميين لكن يسهِّل الاطلاع عليه من قبل عامة المثقفين حتى تعم الفائدة. ونظراً الى ضخامة عدد الشهادات وضيق رقعة المقال فسوف نتعرض لنماذج من هذه الشهادات، شرقية وغربية، قديمة وحديثة.

استفتح المؤلف بشهادة الأديب والكاتب العماد الأصفهاني، الذي كان من المقربين من صلاح الدين وتولى ديوان الإنشاء في عهده، وهذا الديوان يعادل وزارة الخارجية في أنظمة الحكم المعاصرة. وقد أشاد الأصفهاني في شهادته عن صلاح الدين، بأنه ترك كثيراً من الأولاد: سبعة عشر ولداً وبنتاً واحدة، ومع ذلك لم يشغل باله بجمع المال لهم، بدليل أنه ترك في خزائنه عند وفاته ديناراً واحداً وستة وثلاثين درهماً، أما ما دخل خزانته من أموال مملكته الواسعة التي ضمت مصر والشام واليمن والحجاز، فقد أنفقها جميعاً في الجهاد وأغراضه. وهذه الشهادة درس قاس لحكام عصرنا الذين استحلوا أموال شعوبهم فحجزوها لأنفسهم في خزائن البنوك بالبلايين، ونسوا أن التاريخ يحكم على الحكام بالأعمال لا بما جمعوه من الأموال. وهذا الدرس تعضده شهادة الأديب المعاصر أمين معلوف، صاحب كتاب «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، الذي قال: «وإذا كان صلاح الدين قد فتح القدس فما ذاك لأجل المال ولا حتى الانتقام. لقد سعى على الأخص إلى القيام بما يفرضه عليه ربه ودينه. وانتصاره أنه حرر المدينة المقدسة من نير الغزاة من غير حمام دم ولا تدمير ولا حقد، وسعادته هي أن يستطيع السجود في هذه الأمكنة التي لولاها لما استطاع مسلم أن يصلي فيها». إذن كانت حروب صلاح الدين ذات أهداف سامية وغايات رفيعة جديرة بالتقدير، وهذا الأمر لم يتناطح فيه عنزان، إلا من حقد على صلاح الدين بسبب تصفية الدولة الفاطمية المتداعية في ذلك الوقت.

أما شيخ مؤرخي مصر والإسلام تقي الدين المقريزي، فقد مدح في صلاح الدين كثيراً من الصفات، مثل التواضع والصبر وقوة الاحتمال والورع، وقبل كل ذلك الكرم الذي فاق بمراحل كرم حاتم الطائي، إذ يقول: «لم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به وصاحبه ملازم في طلبه.. وكان ورعاً، رأى يوماً العماد الكاتب يكتب من دواة محلاّة بالفضة فأنكرها، وقال هذا حرام، فلم يعد يكتب منها عنده. وكان لا يصلي إلا في جماعة، وله إمام راتب ملازم، وكان يصلي قبل الصبح أربع ركعات إذا استيقظ، وكان يسوي في المحاكمة بين أكبر الناس وبين خصمه، وكان شجاعاً في الحروب، يمر في الصفوف وليس معه إلا صبي». وقارئ كلام المقريزي يجده واضحاً من دون لبس. لا يحتاج إلى أي شرح، لكن نشير إلى ما جاء في العبارة الأخيرة من تجواله بين صفوف القوات، وهو أمر بالغ الخطورة من حيث إنه القائد العام للجيوش الإسلامية، ومع ذلك لم يكن ينفصل عن أصغر جنوده، ولا يضع بينه وبينهم حواجز، بحيث إنه كان يتفقد الجيش من دون حراس، وهذه شجاعة تقترب من حد التهور، لأنه كان من السهل أن يتنكر أي جاسوس أو من يريد السلطان بسوء بين الصفوف ويصيبه إذا أراد، لكن إيمان صلاح الدين الجازم بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له جعله يتحرك بين جنوده الذين يثق بهم من دون خوف أو وجل.

وتتفق المؤرخة الفلسطينية هادية دجاني شكيل مع من شبَّه فتح صلاح الدين القدس بالفتح العُمَرِي، حين تقول: «قابل المؤرخون فتحه هذا بالفتح العمري ، كما قابلوا فتحه بمعجزة الإسراء والمعراج، وعدُّوه الفتحَ الثاني للقدس الجغرافية، والفتح الثالث للقدس الجغرافية والروحية معاً».

فإذا انتقلنا إلى المعسكر الغربي، فنرى كثيراً من الشهادات الناصعة المشيدة بالسلطان صلاح الدين، خصوصاً في قضية الأسرى وتسامحه معهم إكراماً لنسائهم وزراريهم، ومن ذلك ما ذكره المؤرخ الصليبي أرنول المعاصر لصلاح الدين، إذ قال: «اجتمع كثير من النساء اللواتي دفعن الجزية وذهبن للسلطان يتوسلن قائلات إنهن أما زوجات أو أمهات أو بنات لبعض من أسر أو قتل من الفرسان والجنود، ولا عائل ولا سند لهن الآن ولا مأوى، ورآهن يبكين فبكى معهن تأثراً وشفقة، وأمر بالبحث عن الأسرى من رجالهن وأطلق الذين وجدهم منهم وردهم لنسائهم. أما اللواتي مات أولياؤهن، فقد منحهن مالاً كثيراً جعلهن يلهجن بالثناء عليه أينما سرن، ثم سمح السلطان لهؤلاء الذين منحهم الحياة والحرية وأغدق عليهم نعمه، بأن يتوجهوا مع نسائهم وأولادهم إلى سائر إخوانهم اللاجئين في مدينة صور». كما نجد أن المؤرخ البيزنطي نيكتاس خونياتس الذي شاهد بأم عينيه سقوط القسطنطينية في يد الصليبيين عام 1204م وما فعلوه بهذه المدينة العريقة من سلب ونهب وهتك أعراض نسائها، حتى راهبات الأديرة لم يسلمن من هذا الفعل الفظيع، هذا المؤرخ حين يتحدث عن صلاح الدين ودخوله على رأس المسلمين القدس، تختلف نبرته وتعتدل لهجته ويقول: «المسلمون أكثر رحمة من الصليبيين، فعندما استعادوا بيت المقدس عاملوا اللاتين بلطف ورقة، وحافظوا على حريمهم، ولم ينتهكوا، ولم يدنسوا على الإطلاق قبر المسيح، وحرصوا على عدم دفن موتاهم بجواره». هذه الشهادة الغربية تؤكد ما ذكرناه من نبالة وطهارة مقصد المسلمين حين دخلوا القدس بقيادة صلاح الدين، لا همَّ لهم إلا استعادة مقدساتهم من دون الاعتداء على المحتلين، ولو فعلوا ما لامهم أحد، فلا تنسى صفحات التاريخ حمامات الدم التي امتلأت بدماء المسلمين حين اقتحم الصليبيون القدس عام 1099، وبالتالي شكَّلَ فعلُ صلاح الدين حين استعاد المدينة صدمة نفسية عميقة للأوربيين جميعاً، وهو ما جعل مؤرخ سقوط الإمبراطورية الرومانية إدوارد جيبون، يشيد بصلاح الدين ويمتدح تواضعه وتقشفه حين يقول: «كان متواضعاً لا يعرف البذخ ولا يرتدي إلا العباءة المصنوعة من الصوف الخشن، ولم يعرف إلا الماء شرباً، وكان متديناً قولاً وفعلاً، يشعر بالحزن لعدم تمكنه من أداء فريضة الحج، لأنه كان منهمكاً في الدفاع عن دين الإسلام»، وهذه الشهادة تشير الى جانب رائع في حياة صلاح الدين، وهو تقديم مصالح الأمة على مصالحه الشخصية، فعلى رغم تدينه وتقواه إلا أن مصلحة الأمة تغلب على مصلحته الشخصية، فلم يتمكن من أداء فريضة الحج بسبب خوفه على ما حقق من إنجازات، منها توحيد مصر والشام في دولة واحدة أثمرت استعادة القدس ومعظم المناطق التي احتلها الصليبيون في فلسطين. أما عن مكانة صلاح الدين في نفوس عامة المسلمين، فيؤكد المؤرخ الفرنسي كلود كاهن أن صلاح الدين كان الشخصية الشعبية الأكثر تقديراً لدى عامة المسلمين خلال عصر الحروب الصليبية، وهي المكانة التي لم ينلها نور الدين محمود، وهو أستاذ صلاح الدين وممهد الطريق لما حقق من إنجازات.

وعن مكانة صلاح الدين الأسطورية في أوروبا، يقول المؤرخ الروسي ميخائيل زابوروف إن «الرقة النسبية التي أبداها القائد العسكري صلاح الدين الأيوبي بعد الاستيلاء على القدس كانت، في ما كانت، سبباً لتزيين تاريخ صلاح الدين في الغرب في ما بعد بشتى الأساطير التي تطري شهامته غير العادية، أما في الواقع، فإن اعتدال صلاح أملته الاعتبارات السياسية، ذلك أنه كان عليه أن يضم أراضي دول الصليبيين إلى قوام الدولة المصرية، ولم يكن من شأن شراسة الظافر إلا أن تسيء إلى هذه القضية». وعلى رغم أن زابوروف يسعى إلى إظهار أن صلاح الدين تسامح لاعتبارات سياسية، إلا أن الدكتور محمد مؤنس يدحض هذا التفسير بقضية مبادرة صلاح الدين بإرسال الفاكهة والثلج وطبيبه الخاص لريتشارد قلب الأسد حين جرح في قتاله مع المسلمين أثناء الحملة الصليبية الثالثة. وتساءل المؤلف: «هل هذا اعتدال أم إنسانية بحتة؟». ويعجب المؤرخ البريطاني هاملتون جب بصلاح الدين أيما إعجاب، إذ يرى في عهده نقطة فارقة في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، حين يقول: «يشكل عهد صلاح الدين أكثر من مجرد حادثة عابرة في تاريخ الحروب الصليبية، فهو يمثل إحدى تلك اللحظات النادرة والمثيرة في التاريخ البشري... استطاع صلاح الدين أن يتغلب على جميع العقبات لكي يخلق وحدة معنوية برهنت أن لها من القوة ما يكفي القول للوقوف بوجه التحدي من الغرب».

والحقيقة أن المطالع للكتاب لا يمل من متابعة هذه الشهادات الشرقية والغربية عن صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولعل مطالعة هذه الشهادات تكشف لنا عن سر اهتمام الدكتور محمد مؤنس بصلاح الدين الذي كتب عنه الكثير وأتوقع أن يكتب عنه في المستقبل أكثر، لعل هذه الكتابات تجد من حكام العرب والمسلمين من يقدرها ويقتدي بما شرحته وسوف تشرحه من صفات رائعة تحلى بها صلاح الدين وجعلته يفتن الشرقيين والغربيين فيهيمون إعجاباً به وبأخلاقه التي مثلت قمة الفروسية الإسلامية في عصر الحروب الصليبية.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)