السبت، ٢٤ فبراير/ شباط ٢٠١٨
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
«فنون عصر النهضة» لثروت عكاشة: ثلاثية عربية للانفتاح على حضارة العالم
هل تعرفون ما هو الأمر الأغرب المتعلق بالثلاثية الضخمة التي كرّسها الكاتب والسياسي المصري الراحل ثروت عكاشة لفنون عصر النهضة الإيطالية؟ فخامة الكتب الثلاثة؟ عدد صفحاتها؟ كونها تصدر بلغة وبيئة قلما احتفلتا بذلك الحيز التاريخي الجغرافي الذي تحتفي به؟ بل حتى بكون الثلاثية فريدة من نوعها في لغة الضاد وغير معهودة؟ أو كونها تسهب في الحديث عن الكاتدرائيات والرسوم والمنحوتات الدينية المسيحية في بيئة مسلمة لم يتجاوز الاهتمام بهذه الأمور نخبتها الفنية أو الفكرية؟ أم يا ترى فخامة وندرة الصور الأيقونية التي تشغل حيزاً كبيراً من قرابة الألفي صفحة التي يتكون منها هذا العمل النادر في عالم النشر والقراءة العربي؟. الحقيقة أن كل ما سبق يمكن أن يشكل إجابات ممكنة عن السؤال الذي طرحناه أول هذا الكلام. لكنه ليس الجواب الشافي بالنسبة إلينا، وذلك بالتحديد لأن الجواب يوجد في مكان آخر تماماً، قد لا يكون مرتبطاً بكل ما ذكرناه. الجواب الذي يخطر في بالنا نحن هو أن الطبعة التي بين أيدينا من هذه الثلاثية، والتي تعود إلى العام 2011 هي الطبعة الثالثة لكتاب كانت طبعته الأولى صدرت بدءاً من أواخر سنوات الثمانين. أجل ثلاث طبعات لكتاب بالكاد كان يمكن أن نتصور طبعة واحدة له يباع منها بضع مئات من النسخ ليدخل بعدها المكتبات العامة والمتاحف- فالكتاب بأجزائه الثلاثة جدير بهذا الدخول ومن الباب العريض-، ثم يُنسى إلا من قبل الباحثين في الموضوع وهم قلة في عالمنا العربي، كما نعتقد. لكن الواقع قلب الآية تماماً وجعل للكتاب ثلاث طبعات كل واحدة منها أكثر فخامة وأناقة من الثانية، خلال عدد لا بأس به من السنين، ليجعل فنون عصر النهضة وضروب عمرانه وتاريخه والتحليل المسهب لعلاقة كل تلك الأبعاد الحضارية بالظروف السياسية التي نمت في ظلها، ماثلة في ألوف البيوت والمكتبات العربية. ترى، وبغض النظر عن تساؤلاتنا حول منطقية هذا الأمر في عالم القراءة العربية، هل ثمة من مصير مشابه لكتاب مشابه في البلدان «المتحضرة» نفسها في أوروبا أو أميركا؟
نطرح هذا السؤال بالطبع انطلاقاً من معرفتنا أن كتباً فنية موسوعية من هذا الطراز بالكاد تعرف أسواقاً واسعة الانتشار حتى في البلدان المعنية بها بصورة مباشرة. ونكتفي هنا بهذا القدر من «المقارنة» لننتقل إلى الكتاب نفسه. ومنذ البداية لا بد من الإشارة الدالّة إلى أن «فنون عصر النهضة» لم يكن كتاباً عارضاً في مسار مؤلفه الذي، كما نعرف، كان ضابطاً في الجيش وثائراً في حركة 52 المصرية ثم سفيراً لبلاده في روما بعد مناصب ديبلوماسية أخرى في باريس وغيرها، ومن ثم وزيراً للثقافة، ومناضلاً في سبيل إدخال مصر زمن العالم وإنقاذ آثارها، ومع هذا لا تشغل الألفا صفحة من القطع الموسوعي الكبير جداً التي يتألف منها هذا العمل، سوى جزء بسيط من نتاج، يشرح فيه الكاتب ويحلل ويستعرض مسيرة الإبداع الإنساني من مسار كتابي تضم لائحته عشرات الكتب والموسوعات المؤلفة والمترجمة التي يتوجها مشروع «العين تسمع والأذن ترى» الذي يتألف من نحو عشرين مجلداً ضخماً يشرح فيها المؤلف ويحلل ويستعرض تاريخ الإبداع الإنساني بدءاً بالفنون الفرعونية والسومرية وصولاً إلى القرن العشرين مروراً بالفنون الإسلامية والهندية و... طبعاً فنون عصر النهضة في المجلدات الثلاثة التي نتحدث عنها هنا.
طبعاً لا يمكن هذه العجالة هنا أن تقف عند تفاصيل هذا العمل الموسوعي الضخم، بل إن السرد الكتابي عاجز عن هذا أصلاً، بالنظر إلى أن الثلاثية ليست مجرد سرد تاريخي لما حدث في العصر النهضوي، بل هي تمر، فصلاً بعد فصل، وصفحة بعد صفحة، كشريط سينمائي تتضافر فيه الكلمة مع الصورة - وأحياناً مع صور كبيرة مطوية في ثنايا الكتاب-، لتقدم ذلك المشهد البانورامي الذي يحتفل بالمعماريين، ولا سيما من خلال تشريح إنجازاتهم في مجال تشييد الكاتدرائيات والقصور والمباني العامة والخاصة، كما يحتفل بالنحاتين متوقفاً عند البارزين منهم شارحاً أسرار منحوتاتهم رابطاً إياها بحركية المجتمع، خالصاً في نهاية المطاف إلى الرسامين الذين هم دائماً الأشهر والأكثر شعبية، والذين من طريق أعمالهم تمت تلك النقلة المدهشة، تحديداً خلال القرون التي يتناولها عمل ثروت عكاشة، من إنجاز اللوحات للكنائس والقصور إلى حقبة باتت فيها اللوحات أكثر دنيوية وإنسانية.
يدرس ثروت عكاشة كل تلك الإبداعات ويتوقف عند تلك المتغيّرات، التي يعتبرها أساسية في تاريخ المجتمعات وليس فقط في تاريخ الفنون، قاسماً ثلاثيته إلى ثلاث حقب أساسية يعرّفها بالتيارات الفنية التي سادت فيها تباعاً: الرينيسانس والباروك والريكوكو. وهو في هذا الإطار لا يفوته أن يربط كل «تيار» بالظروف التاريخية والاجتماعية، وربما أحياناً السياسية، التي وُلد في ظلها. وهو ما يجعل الكتاب في الآن نفسه، نوعاً من تاريخ اجتماعي لأوروبا يتجاوز الحيز الإيطالي الذي يتناوله أساساً لنراه يعرّج على فرنسا وألمانيا والشمال الأوروبي شارحاً مستعرضاً محللاً. ولا يضير هذا السِفر هنا أن يبدو، على سبيل المثال، متناغماً، إن لم نقل شبيهاً بعملين أوروبيين يتناولان الموضوع والحقبة نفسيهما، كتاب السويسري يعقوب رينهاردت عن عصر النهضة، وكتاب جورجيو فازاري الإيطالي عن حياة رسامي النهضة. صحيح أن عكاشة يستند كثيراً إلى هذين المرجعين الأساسيين، كما يفعل كل مؤرخي الفنون والحضارات الذين يغوصون في هذا المجال، ولا سيما منذ القرن التاسع عشر، غير أن ما يميز عكاشة، ويقربه أكثر من إنجازات «مثله الأعلى» أندريه مالرو الأديب ومؤرخ الفن الفرنسي الذي كان صديقاً له كما كان، مثله وزيراً للثقافة في فرنسا الجنرال شارل ديغول في الحقبة التاريخية نفسها تقريباً، هو إطلالته الشخصية ونظرته الذاتية ككاتب عربي مسلم يعلن انفتاحه على حضارة الآخر وتفهّمه لها، من دون أن ينسى جذوره. ومن هنا تتميز نظرته إلى الحضارة الإيطالية والأوروبية في شكل عام، بتلك الأصالة الشرقية كما بتلك الموسوعية التي كثيراً ما عُهدت في الكتابة التراثية العربية. فبعد كل شيء، كان ثروت عكاشة يعرف أنه إنما يكتب لقارئه العربي، ما يصعّب مهمته ويجعلها أكثر رهافة ودقة. ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى أنه ربح رهانه، وما المقروئية الواسعة التي حظي بها الكتاب سوى خير دليل على هذا.
مهما يكن، وكما أشرنا قبل سطور، لا بد من التأكيد مرة أخرى هنا، على أنه لئن كان ثروت عكاشة قد استعرض في أجزاء كتابه حياة وأعمال أصحاب تلك الأسماء الكبيرة في الفنون النهضوية رابطاً إياها بالظروف التاريخية التي أنتجت في ظلها، فإن ما نتج من هذا كله إنما هو تاريخ يحدد المؤلف صورته الإجمالية في المقدمات الوافية التي جعلها لكل جزء من الأجزاء والتي استعرض فيها الأوضاع السياسية في كل جزء من ذلك الحيز الجغرافي التاريخي، من صراع وحروب وضروب تنافس اقتصادي، غير ناسٍ العلاقات التي كانت حواضر العالم الأوروبي، والإيطالي بصورة خاصة، تقيمها مع مناطق شرق المتوسط، أي المناطق العربية، تناحراً أو تجارة أو ما بين هذا وذاك، متوقفاً عند التأثيرات والمؤثرات المتنوعة، ودائماً من منطلق وحدة الوجود الإنساني. وهو على أي حال المنطلق الذي حكم أصلاً مشروعه الضخم والذي يمكن اعتباره بعد كل شيء واحدا ًمن أكبر وأهم المشاريع الفكرية الحضارية التي أنتجها فرد عربي - بل حتى مجموعة من الأفراد أو المؤسسات العربية - في القرن العشرين وربما في الأزمان كافة. وقد يحق لنا أن ننطلق من هذا التأكيد لنتساءل اليوم وبعد سنوات من رحيل ثروت عكاشة، وخارج إطار أولئك الألوف من الأفراد الذين يقتنون كتبه ويفخرون باقتنائها وربما قراءتها، عما قدمناه نحن لهذا المفكر الكبير، ولماذا تراه مغيباً اليوم عن حياتنا الفكرية، ولا سيما التلفزيونية العربية، بدلاً من أن تحضر فيها أعماله في شكل أو آخر، تلك الأعمال التي يمكن من خلالها مقارعة أفكار التطرّف وكراهية الآخر والغياب عن العصر والغربة عن العالم.
من المؤكد أن في الأكثر من ستين عملاً كتابياً إبداعياً أنجزها ثروت عكاشة خلال حياته، وعلى رغم مهماته السياسية والثقافية الهائلة، والصراعات والمعارك التي اضطر لخوضها في كل مهمة قام بها، في هذه الأعمال خميرة مدهشة لعشرات الأعمال الإبداعية التي يمكن أن تنطلق منها لتصب في مستقبل عربي يلوح لنا دائماً أنه قابل لذلك على رغم كل شيء... فهل من مستجيب؟
ابراهيم العريس
جريدة الحياة
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.