الإثنين، ١٩ فبراير/ شباط ٢٠١٨
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
«صلاح الدين وعصره» لمحمد فريد أبو حديد : التاريخ ممجّداً
كان من المبكر لأوانه بالتأكيد، عند بدايات الربع الثاني من القرن العشرين، مطالبة المؤرخين المسلمين والعرب بأن يكونوا موضوعيين أو محايدين في روايتهم لأحداث التاريخ. بل أن مثل هذه المطالبة كانت غير منطقية على الإطلاق بالنظر إلى أن كتابة التاريخ، في نصوص «علمية» أو في شكل روائي، كانت بالنسبة إلى هذا النمط الرائد والمجتهد من الكتّاب، أشبه بخوض معركة شديدة الصعوبة لها أكثر من ساحة ومن هدف. فكيف إذا كان للمعركة عنوان مضمون: صلاح الدين الأيوبي؟ ففي تلك الآونة، كانت المنطقة العربية، الخارجة لتوها من ربقة الاحتلال العثماني، والداخلة منذ فترة يسيرة في دوامة الاحتلالات والانتدابات والوصايات الغربية، الإنكليزية بالنسبة إلى مصر، تمور بالتغيّرات التي انطلاقاًَ منها سوف يُبنى مستقبل «الأمة» التي كانت تتكون نظرياً، ولكن بالطبع انطلاقاً من صياغات تاريخية لا يفوتها في بعض الأحيان أن تلوي عنق الواقع، كي ترسم للمستقبل المنشود خطاً مستقيماً يمكن الإرتكان إليه لصناعة مستقبل لمنطقة متجانسة من العالم كان العثمانيون سلبوها معظم مكونات وجودها. وفي هذا الإطار راح الكتاب العرب، لا سيما في مصر وأقل من ذلك في سوريا وما حولها، يعيدون إلى الوجود أبطال التاريخ مسبغين عليهم، وغالبا انطلاقاً من سيرهم الأقرب إلى الصدقية، صفات بطولية تمتزج بالصفات الأخلاقية كتفسير للانتصارات الأساسية التي حققوها. وفي هذا السياق، لا شك أن المكانة الأولى كانت لصلاح الدين الأيوبي، الذي راحت المسرحيات والروايات والكتب التاريخية تصدر عنه بأعداد كبيرة خدمة لحاضر، يتعين أن يتخذه مثلاً أعلى له، مع الحرص أحياناً على السكوت عن أصوله الكردية إلى درجة اختراع جذور عربية له، كما الحرص دائماً على إبراز تلك الحكاية التي تتحدث عن شفائه لعدوه ريتشارد قلب الأسد إظهاراً لحسن خلقه وأريحيته، وذلك مقابل، على سبيل المثال، نسيان مسؤوليته التاريخية عن قمع حرية الفكر مجسّدة في موافقته على إعدام الفيلسوف السهروردي في حلب!.
مهما يكن من أمر لا شك أن كتاب المفكر المصري محمد فريد أبو حديد «صلاح الدين وعصره» الذي صدر في العام 1927، يعتبر الأكثر نموذجية في المجالات التي نشير إليها كافة، فهو من ناحية يبدو مجليّاً في تناوله حياة «محرر بيت المقدس» و «البطل الذي جدّد شباب الأمة» وحقق البطولات وفرض الأخلاق الكريمة مبدأً حربياً لا يلين، ومن ناحية ثانية «يسهو» عن قمع صلاح الدين حرية الفكر ومجابهته الحجة بالسيف. لقد قلناها أعلاه، لم تكن مثل هذه الأمور مطروحة في ذلك الحين. حيث أن حرية الفكر كانت ترفاً إلى درجة أن كتب تاريخ الفكر العربي/ الإسلامي تحفل بحكايات السيوف وهي تقطع رقاب المفكرين وأحياناً داخل المساجد. وبالتالي، لم يكن الأمر مهماً. وهو بقي غير مهم بالنسبة إلى مفكري القرن العشرين. وهذه المرة بالنظر إلى أن كتب التاريخ كانت سلاحاً في معارك أيديولوجية، أكثر منها كتباً علمية. وليس أدل على هذا من أن دار الهلال في مصر، حين أعادت إصدار كتاب أبو حديد في طبعة ثانية في سنوات الخمسين، بعدما رحل الاحتلال الإنكليزي عن مصر وباتت المعركة من جديد معركة ضد الغرب برمته، عنونت الطبعة الجديدة من الكتاب «صلاح الدين الأيوبي: البطل الذي انتصر على الغرب» (!). فهل نقول إن العنوان الجديد لم يبد متنافراً مع الكتاب. وقد لا يبدو متنافراً معه اليوم طالما أن العقلية لا تزال هي هي؟
بيد أن هذا ليس أهم ما في كتاب المفكر والأديب المصري الكبير، الكتاب الذي يبذل كما هو واضح جهداً كبيراً لكي يقدم سيرة أقرب ما تكون إلى الموضوعية، ليس لصلاح الدين وحده بل لزمنه وكذلك للأزمان التي سبقته ومهدت لمجيئه. وتقول الكاتبة المصرية صافيناز كاظم إن أبو حديد أصدر كتابه «ليكون ملتقياً مع التزامه الذي انتهجه على طول رحلته الأدبية، الالتزام بالتعريف بأبطال الجهاد الإسلامي مع أبطال الأمجاد العربية قبل الإسلام مع أبطال العزة المصرية». ولقد قسم المؤلف كتابه قسمين مهّد أولهما لتاريخ صلاح الدين، بادئاً من دعوة الإسلام وجهاده بين الأمم وعلاقته بأمم أوروبا منذ القرن التاسع، وصولاً إلى اندلاع الحملات الصليبية التي كانت سياسة ترتدي مسوح الدين، وجابهها الكثر من القادة العرب المسلمين ففشلوا في مواجهتها أحياناً ونجحوا في أحيان أخرى، ليبقى الأمر على حاله موزعاً بين مكاسب عسكرية ومؤامرات قصور وخيانات، حتى مجيء صلاح الدين الذي سيتمكن في نهاية الأمر من أن يحسم الأمور، كما نعرف، وكما يؤكد لنا التاريخ.
ويشكل ذلك الجهد الذي بذله صلاح الدين، بالطبع متن القسم الثاني من كتاب محمد فريد أبو حديد، الذي مهما كانت نواقصه أو «سهواته» يبقى من أفضل النصوص التي كتبت في ذلك الحين عن ذلك المنقذ. وربما يعود الفضل في ذلك، إلى أسلوب المؤلف ولغته الجزلة وسلاسة تعاطيه مع روايته لتاريخ كان من أكثر العارفين بمدى حاجة كتابته إلى لغة تكون من الأريحية ما يمكّنها من أن تجاري أريحية الشخصية التي تتحدث عنها. فبعد كل شيء، كان أبو حديد واحداً من أكبر أدباء النصف الأول من القرن العشرين في مصر هو الذي عرف كيف يصفي، حتى لغته العلمية- ولا نتحدث هنا عن لغته الأدبية التي كانت مصفّاة وتجديدية أصلاً- من أي جفاف علمي كان يطبع هذا النوع من الكتب في ذلك الحين.
مهما يكن من أمر، لعل أسوأ ما كان يمكن أن يحدث لمحمد فريد أبو حديد المولود في حي عابدين القاهري في العام 1893، أن يرحل عن عالمنا قبل أيام من هزيمة حزيران عام 1967 فيغيب والناس لاهون عنه بتحضيرات الحرب المقبلة وضجيجها. ولربما كان هذا من حسن حظه أيضاً إذ مات دون أن يعيش تلك الهزيمة الكبرى، هو الذي تغنى كثيراً بانتصارات الماضي، ومجّد أمة ما كان يخيّل له أنها يمكن أن تُهزم في زمنه على تلك الشاكلة البشعة. وهو كان يعتبر من أكثر الأدباء المصريين وطنية وعروبة، وتركزت أعماله بصورة خاصة على فكرة بعث الأمجاد العربية، حتى وإن كان من غير المنصف أن نقول إن الأيديولوجيا طغت تماماً على كتاباته. فهو كان ذا اهتمامات واندفاعات تربوية وأدبية لا مراء فيها، وكان واحداً من ألمع الكتاب الذين ظهروا في مصر في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وكان واحداً من أبناء ثورة 1919 التي رفدها باكراً بكتابه الأول «صحائف من الحياة» الذي يعده مؤرخ الرواية المصرية عبد المحسن طه بدر، واحدة من الروايات الرائدة في تاريخ هذا النوع الأدبي في مصر.
ومع هذا فإن دراسة أبو حديد الجامعية كانت في مجال الحقوق التي انصرف إليها بعد دراسة أولى في دمنهور ثم الإسكندرية قبل أن يلتحق بمدرسة المعلمين العليا لينتقل منها إلى الحقوق التي نال إجازتها في العام 1924. أما الكتابة فقد خاضها كواحد من رواد كتابة الرواية التاريخية، على خطى جرجي زيدان، فأصدر أربعة عشر رواية من هذا النوع ، كانت خاتمتها «أنا الشعب» التي أصدرها بعد عام من قيام ثورة 1952 ليعلن فيها انتماءه إلى تلك الثورة التي عرفت كيف تكرمه وصولاً إلى منحه جائزة الدولة التقديرية في العام 1964. ولقد كرمته الدولة يومها لكونه روائياً ولكن كذلك لكونه مؤرخاً هو الذي إلى جانب روايات له اشتهرت بخوضها التاريخين العربي والإسلامي (مثل «زنوبيا ملكة تدمر» و «الملك الضليل أمرؤ القيس» و «أزهار الشوك» و «آلام جحا» و «الوعاء المرمري»)، أصدر عدداً من المسرحيات، وكتباً تاريخية على غرار كتابه عن صلاح الدين وكتابه الآخر في سير الرجال الكبار والذي خصصه لـ «السيد عمر مكرم»، خصوصاً الكتاب الذي عبر فيه عن فعل إيمانه بالعروبة تحت عنوان «أمتنا العربية» ليكون كتاباً يستنجد فيه بالتاريخ ليثبت سؤال الهوية العربية وأسس الوحدة....
أما بالنسبة إلى كتابه، الذي نحن في صدده هنا، فلا بد أن نذكر، نقلاً عن الكاتبة صافيناز كاظم التي تعتبر من أقرباء محمد فريد أبو حديد، وهو كان خالها على الأرجح، ما تقوله من أن «قيمته تكمن في تناوله الصريح والصادق تحليل واستعراض هزائم صلاح الدين ومتاعبه قبل التعرض لانتصاراته وتفوّقه الذي لم يكن ليبلغه دونما خبرة من تعب، ومعاناة وصدّ وعنت...»
ابراهيم العريس
جريدة الحياة
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.