يأتي هذا الكتاب ضمن سلسلة “ارتياد الآفاق” والتي تهدف إلى بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية، من خلال تقديم كلاسيكيات أدب الرحلة، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتّاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يومياتهم وانطباعاتهم، ونقلوا صوراً لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه، قريبة وبعيدة، لا سيما في القرنين الماضيين اللذين شهدا ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية لدى النخب العربية المثقفة، ومحاولة التعرّف على المجتمعات والناس في الغرب.
بالإضافة إلى ذلك فإن هذه السلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم تهدف إلى الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكل عن طريق الرحلة، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرّحالة، والانتباهات التي ميّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار.
فأدب الرحلة، على هذا الصعيد، يشكل ثروة معرفية كبيرة، ومخزناً للقصص والظواهر والأفكار، فضلاً عن كونه مادة سرديّة مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون تتجول وأنفس تنفعل بما ترى، ووعي يلم بالأشياء ويحللها ويراقب الظواهر ويتفكر بها.
والرحلة التي يروي هذا الكتاب تفاصيلها هي رحلة صحافي عربي لبناني رائد، بكل ما للعلم والريادة من معان ودلالات وإيحاءات وما فيها من آثار الاكتشاف والإنارة والتسامي. هذا الصحافي هو جرجي زيدان الرجل النهضوي الذي أثارته قضايا النهضة واستحوذت على اهتمامه وهذا ما دفعه للدخول في خضمّ الجدل القائم بين رجال الفكر والقلم في مصر حول استحقاقات التحديث لمواجهة تحديات العصر، ودفعه هذا أيضاً لترك الدراسة والاتجاه إلى العمل في الصحافة، ليجعل منها منبراً مفتوحاً يعبّر من خلاله عن آراءه ومواقفه.
ولعل رحلته إلى أوروبا التي يجمع هذا الكتاب تفاصيلها جاءت تتويجاً لجهوده السابقة في مجال التأليف، وكأنه حينما عقد العزم على القيام بها، كان يحسُّ بدنو الأجل، فسارع إلى تنفيذها وتدوين نتائجها بدقة لا مزيد عليها، ليقدم للقارئ العربي صورة أمينة لتجربة الغرب الحضارية لعلّها تغريه باستلهامها، واقتفاء أثرها للخروج من حالة التخلف والركود التي رانت على العقول والقلوب لعدة قرون.
لم تكن رحلة جرجي زيدان إلى أوروبا سنة 1912 رحلة استجمام واستمتاع بقدر ما كانت رحلة علمية مبرمجة، تجشم القيام بها في آخر العمر ليكتب وصفاً مفصلاً ودقيقاً عن أحوال المدينة الغربية ممثلة بكل من فرنسا وإنكلترا اللتين تجسدان خلاصة هذه المدينة في جانبيها المادي والمعنوي، في الوقت الذي كانت تتطلع فيه عيون الشرقيين إلى الخروج من ربقة التخلف، والسير في ركاب الأمم المتمدّنة.
لقد أراد صاحب الرحلة أن يبين ما يَحْسُنُ أو يقبح من عوامل تلك المدينة بالنظر إلى طبائعنا نحن العرب وعاداتنا وأخلاقنا. فاختار أهم العناوين التي تقاس بها المدنيات ليقدم للقارئ العربي وصفاً أميناً لما يندرج تحتها من تفصيلات تعتمد على الإحصاء الدقيق المسند إلى السجلات. فبدأ بالتعريف بنظام الحكم في كلا البلدين، ثم تطرق إلى الأمور التي تهمّ القارئ العربي الذي يتطلّع إلى تحدي مدينة الغرب في نهضته المعاصرة، فيصف العمران، والمدن، ونظامها الدقيق، ونظافة شوارعها، وأسواقها، ومتاحفها، ومعابدها، ومكتباتها، وآثارها، وحياة الناس فيها، وما توافقوا عليه من عادات في اللباس، والطعام والشراب. ولا يفوته أن يحصى الثروات في كل بلد، والحالة الاقتصادية، ثم الحالة العلمية، وأسماء الجامعات والكليات في كل بلد، وأعداد طلبتها، وتاريخ تأسيسها. ثم يصف حال المرأة في أوروبا عامة وفي فرنسا وإنكلترا خاصة، وما أحرزته من تقدّم في نيل حقوقها في التعليم والعمل، وحرية التصرف التي قد تصل إلى حدّ الشطط في بعض الأحيان. إن الحديث عن الجوانب المادية في حضارة الغرب لم يشغل صاحب الرحلة عن الالتفاف إلى الجوانب المعنوية وبخاصة الأخلاق المصاحبة لهذه الحضارة، فذكر طباع الناس في كل بلد، وما يمتاز به كل شعب عن الآخر، كما وازن بين فن التمثيل في فرنسا ومثيله في مصر وبين وجوه الاختلاف...
جُرجي زيدان: مفكر لبناني، يعد رائد من رواد تجديد علم التاريخ، واللسانيات، وأحد رواد الرواية التاريخية العربية، وعلم من أعلام النهضة الصحفية والأدبية والعلمية الحديثة في العالم العربي، وهو من أخصب مؤلفي العصر الحديث إنتاجًا.
ولد في بيروت عام ١٨٦١م لأسرة مسيحية فقيرة، ورغم شغفه بالمعرفة والقراءة، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب الظروف المعيشية الصعبة، إلا أنه اتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وقد عاود الدراسة بعد ذلك، وانضم إلى كلية الطب، إلا أنه عدل إكمال دراسته فيها، وانتقل إلى كلية الصيدلة، وما لبث أن عدل عن الدراسة فيها هي الأخرى، ولكن بعد أن نال شهادة نجاح في كل من اللغة اللاتينية والطبيعيات والحيوان والنبات والكيمياء والتحليل.
سافر إلي القاهرة، وعمل محررًا بجريدة الزمان اليومية، انتقل بعدها للعمل كمترجم في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة عام ١٨٨٤م، ورافق الحملة الإنجليزية المتوجهة إلى السودان لفك الحصار الذي أقامته جيوش المهدي على القائد الإنجليزي «غوردون». عاد بعدها إلى وطنه لبنان، ثم سافر إلى لندن، واجتمع بكثير من المستشرقين الذين كان لهم أثر كبير في تكوينه الفكري، ثم عاد إلى القاهرة، ليصدر مجلة الهلال التي كان يقوم على تحريرها بنفسه، وقد أصبحت من أوسع المجلات انتشارًا، وأكثرها شهرة في مصر والعالم العربي.
كان بالإضافة إلى غزارة إنتاجه متنوعًا في موضوعاته، حيث ألَّف في العديد من الحقول المعرفية؛ كالتاريخ والجغرافيا والأدب واللغة والروايات، وعلي الرغم من أن كتابات زيدان في التاريخ والحضارة جاءت لتتجاوز الطرح التقليدي السائد في المنطقة العربية والإسلامية آنذاك والقائم على اجترار مناهج القدامى ورواياتهم في التاريخ دون تجديد وإعمال للعقل والنقد، إلا أن طرحه لم يتجاوز فكرة التمركز حول الغرب الحداثي (الإمبريالي آنذاك)، حيث قرأ التاريخ العربي والإسلامي من منظور استعماري (كولونيالي) فتأثرت كتاباته بمناهج المستشرقين، بما تحمله من نزعة عنصرية في رؤيتها للشرق، تلك النزعة التي أوضحها بعد ذلك جليًّا المفكر الأمريكي الفلسطيني المولد إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق».
رحل عن عالمنا عام ١٩١٤م، ورثاه حينذاك كثير من الشعراء أمثال أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافظ إبراهيم.
موقع العربي الجديد الإلكتروني
2 يونيو 2018
الصفحة : ثقافة
حكيم عنكر
رحلة جرجي زيدان.. بحثاً عن مفاتيح نهضة العرب في دنيا الغرب
في سنة 1912، سيقوم جرجي زيدان برحلة إلى أوروبا، انطلاقا من مصر. كان هدف الرحلة أن تكون علمية وليس استجمامية، ولكنه برغم ذلك، سيجد الرحالة نفسه وقد اندهش بالبشر والعمارة والنظام في المدن الأوروبية التي زارها، حتى وإن كان سؤاله القبلي الإجابة عن إشكالية: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟
ولا يخفى في هذه الرحلة، ميل جرجي زيدان للفرنسيين، وتقديره لهم، من حيث تشديده على أهمية حملة نابليون في الارتقاء بمصر و"تمدينها"، والتي في اعتقاده زرعت أولى “بذور الحداثة”.
قد يكون في ما ذهب إليه زيدان من ميل فرنسي بعض الصحة، لكن حملة نابليون لم تكن في البداية والمنتهى حملة علمية، بل كانت اجتياحا عسكريا، ولم تكن المدافع تنفث الورود بدل البارود.
يقول قاسم وهب، محرر الرحلة وكاتب مقدمتها: “مما لا شك فيه أن لحملة نابليون آثارا إيجابية نجمت عن ذلك الاحتكاك القسري بين الغرب والشرق من جانب نابليون الذي كان يحلم بالسيطرة على العالم، وإخضاعه لصولجانه بالقوة القاهرة، وهذه الآثار إنما هي من باب تأثير الغالب في المغلوب. فكيف يمكن أن نسلك بكل ذلك فضلا؟ ولو عاصر زيدان ما فعلته فرنسا بالشرق في ما بعد، لأعاد النظر في هذه التسمية”.
أهداف واضحة
يوضح زيدان دوافع الرحلة وخلفياتها، حين يقول في مفتتحها: “قضينا صيف هذا العام في أوروبا بين فرنسا وإنكلترا وسويسرا، وتنقلنا في أهم مدائنها، فزرنا مرسيليا وليون وباريس ولندن وكمبردج ومنشستر وأوكسفورد وجنيف ولوزان وإفيان. ودرسنا أحوالها، وتفقدنا متاحفها ومكاتبها وآثارها. وتوخينا النظر على الخصوص في ما يهم قراء العربية من أحوال تلك المدنية التي أخذنا في تقليدها منذ قرن كامل ونحن نتخبط في ما يلائم أحوالنا منها. وسننشر في ما يلي خلاصة ما بلغ إليه الإمكان من الدرس. ونقتصر من ذلك على ما يهم القارئ الشرقي من حيث حاجته إلى تحدي مدنية أولئك القوم في نهضته هذه، ونبين ما يحسن أو يقبح من عوامل تلك المدنية بالنظر إلى طبائعنا وعاداتنا وأخلاقنا”.
وقد أغفل زيدان في رحلته، متعمدا، ذكر التفاصيل الذاتية، المتعلقة بالأمكنة، والرحيل والنزول ومكابدات السفر، مما هو مألوف ذكره في كتب الرحالة التي على هذه الشاكلة.
لكنه خصص حيزا مهما لوصف باريس ومدن فرنسية ومؤسساتها السياسية والأمنية والعلمية من مدارس ومعاهد عليا وجامعات وازدهار ما يسميه بالتعليم الصناعي، إلى جانب التعليم الأدبي والفني والجمالي. بالإضافة إلى ما ترصده الدولة من ميزانيات كبيرة لكل هذه التخصصات. فهو يقف برهة ليقارن بين التعليم في فرنسا والتعليم في مصر، ليصل إلى حقيقة سريعة أن بناء النهضة العربية لا يمكن أن يتم إلا بإصلاح تعليمي، لأنه لب كل نهضة كيفما كانت وأنى كانت.
وفي كل ذلك، لا يخفي إعجابه بالحضارة الغربية ومنتجاتها وفنونها و"تقنيتها"، من ذلك إعجابه الشديد بنوع المسرح الفرنسي، ولعله يقصد به الكوميديا الفرنسية، التي تفجرت منها أهم النصوص النقدية للحياة الاجتماعية والسياسية، يقول “ليس المراد أن نصف المراسح التمثيلية، فإن لدينا منها أمثلة حسنة في مصر والإسكندرية، وإن كانت أقل مما في باريس، فإنها تشبهها، حتى كثيرا ما تعرض فيها روايات فرنساوية يمثلها أجواق من باريس. لكن رأينا على مراسح التمثيل في باريس وغيرها من المدائن الكبرى في فرنسا وسويسرا ضربا من التمثيل الانتقادي يسمونه في اصطلاحهم REVUE ويريدون به انتقاد العادات والأخلاق والآداب على المراسح في شكل بين الجد والهزل يلذ للمشاهد، لأنه يتعلق على الخصوص بالأمور الجارية التي يتحدث بها الناس”.
النظام.. لبّ المسألة
لكن أهم ما أذهله هو حس النظام وتجليه في الواقع اليومي للفرنسيين، وهو نظام يحكمه القانون والأخلاق، ويجعل من الحياة المدنية تخضع له، ولشروطه وأعرافه، ومكتوبه أيضا، يقول “وقد استلفت نظرنا على الخصوص أن باريس مع تزاحم الأقدام فيها لا يتنازع الركاب في المسابقة إلى الترمواي أو الأومنوبيس، ولا يسمح لأحد بالوقوف بين الركاب إذا لم يكن له مجلس فارغ. ولا يجسر أحد على الركوب في غير دوره”.
وفي لندن، سيسجل الالتزام نفسه بالنظام، حيث وضعوا للناس موقفا مستطيلا، يدخله الركاب أزواجا، أوله عند محطة القطار وآخره في الشارع، وبالتالي لا مجال للفوضى أو هتك الصفوف المتراصة المنتظرة، كما يحدث في البلاد العربية.
وهذا ينطبق على محطات الترمواي كما على المرافق الأخرى التي يؤمها كثرة من الناس مثل المسارح، وليس هناك مجال “لبلاش تذكرة”، كما هو في مصر في تلك الفترة، حيث يجري التحريض على سرقة مقنعة للشركات يساهم في ذلك المواطنون عن جهل.
الإعلان.. رأس مال التجارة
الثقافة الاستهلاكية في الغرب في مجملها قائمة على الإعلان، فلا بيع ولا شراء ولا تجمع بدون الإعلان عنه والإشهار له في الصحف أو في المحلات والمواضع الخاصة بذلك. والإعلان قد يصبح أهم من التجارة نفسها. هذا ما رصده زيدان من جولته الأوروبية، يكتب: “وإنما يطلب من صاحب السلع أن يستلفت الأذهان إلى بضاعته وهذا هو السبب في اهتمام الإفرنج بالإعلان، حتى أن أحدهم إذا همّ بإنشاء تجارة أو صناعة أعد رأس مال بالإعلان قبل رأس مال البضاعة”.
لا نعدم في رحلة زيدان إلى أوروبا، الحس الساخر للكاتب، وهو يلجأ إليه عندما يعقد المقارنات في ما يخص العادات الاجتماعية التي تؤثر على مشاريع إحداث نهضة في البلاد العربية، وعلى رأسها مصر، ومن بين تلك المقارنات، حين يتوقف عند انضباط الفرد الأوروبي وعنايته الفائقة بقيمة الوقت. فلا يوجد زمن مهدور، كما هو الحال في بلاد العرب، وهذا الزمن المهدور هو الذي يؤدي إلى تأخرنا وتقدم الغرب، في مختلف المجالات، سواء ما يتعلق بالحياة اليومية، أو بمسار الإدارات وفضاءات العمل، وفي كل ما يتصل بأمور تسيير شؤون الدولة ومؤسساتها العلمية والأمنية والثقافية.
ذهب زيدان إلى أوروبا، لا ليستمتع بجمال طبيعتها، ولا ليحكي عن غرائب رحلته، ولكن القصد من هذه “السفرة” فهم المجتمع الغربي والوقوف على أسباب نهضته، ومحاولة إيجاد الحلول لأسباب فشل العرب في الدخول إلى “زمن النهضة”.
لكن رغم الطابع “الرسمي” للرحلة، فإن زيدان لم يمنع نفسه من أن تتسرب إلى رحلته الكثير من الانطباعات والملاحظات، التي هي وليدة انبهار الوافد الجديد بالبيئة غير المعتادة في فرنسا وإنكلترا وسويسرا.
ولعل السؤال الذي يبرز جليا: هل استطاع زيدان من خلال رحلته هذه، المحدودة في الزمان والمكان، أن يكشف سر عطب العرب ومفتاح تفوق الغرب؟ وهل عاد إلى مصر التي انطلق منها، بمشروع نهضوي متكامل قدمه إلى السلطات الحاكمة في تلك الفترة؟ أم أن ما سجله مجرد قشور لا ترقى إلى فهم الميكانيزمات التي يشتغل بها العقل الأوروبي، والتي بوّأته بعد مسار طويل من الصراع والتجريب والمحاولة، إنجاز قفزته التاريخية ومشروعه الحضاري.
ولذلك نجده يستخلص بعض النصائح، أو ربما هي خارطة طريق، قد تبدو مبادئ عامة، أو ساذجة، لا تذهب إلى جوهر سؤال النهضة الأوروبية.
خارطة طريق
صدر كتاب يضم الرحلات الثلاث التي قام بها زيدان إلى كل من الآستانة، وأوروبا وفلسطين، في مجلد واحد، تحت عنوان “الرحلات الثلاث: الآستانة – أوروبا – فلسطين” وهو من تقديم محمد علي فرحات، ضمن سلسلة “طي الذاكرة”، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. نقصر الحديث هنا عن كتابه “رحلة إلى أوروبا”، لما له من أهمية في فهم علاقة العربي بالآخر، الأروربي على وجه التدقيق. فرغم الطابع “الرسمي” للرحلة، فإن زيدان لم يمنع نفسه من أن يتسرب إلى رحلته الكثير من الانطباعات والملاحظات، التي هي وليدة انبهار الوافد الجديد بالبيئة غير المعتادة في فرنسا وإنكلترا وسويسرا.
ولعل السؤال الذي يبرز جلياً: هل استطاع زيدان من خلال رحلته هته، المحدودة في الزمان والمكان، أن يكشف سر عطب العرب ومفتاح تفوق الغرب؟ وهل عاد إلى مصر التي انطلق منها، بمشروع نهضوي متكامل قدمه إلى السلطات الحاكمة في تلك الفترة؟ أم أن ما سجله مجرد قشور لا ترقى إلى فهم الميكانيزمات التي يشتغل بها العقل الأوروبي، والتي بوأته بعد مسار طويل من الصراع والتجريب والمحاولة، إنجاز قفزته التاريخية ومشروعه الحضاري. ولذلك نجده يستخلص بعض النصائح، أو ربما هي خارطة طريق، قد تبدو مبادئ عامة، أو ساذجة، لا تذهب إلى جوهر سؤال النهضة الأوروبية. ومنها يحاول أن يجترح مفاتيح تُمكّن العرب من تحقيق نهضتهم، واللحاق بالركب الحضاري، الذي يبتعد كلما تعطلت أدوات النهوض مسافات ضوئية كبيرة.
"حسنات" الغرب
يوصي زيدان باتباع عدد من “الحسنات” الموجودة في مدنيات أوروبا، في فرنسا أو غيرها، واقتباسها والاستفادة منها، ويقر أيضا بأن هذه “الحسنات” لا تخفي وجود “سيئات”، وجب تجنبها والابتعاد منها، وهي في مجملها دينية وثقافية وتقاليد وسلوكات اجتماعية تتنافى مع “المعتقد الديني” لغالبية العالم العربي المسلم. والحسنات التي يدعو زيدان إلى اتباعها، يبسطها، بالترتيب، ولا شك أن للترتيب هنا، دلالة فارقة، وهي كالتالي: معرفة الواجب، تليها، المحافظة على الوقت وصدق المواعيد، ثم تهذيب أخلاق العامة بالتربية الصحية، يتبعها تعليم المرأة وتثقيفها، وترقية التعليم والتوسع في الآداب، والعمل والجد.
ويحذر من سيئات الغرب، ويحددها في: الإفراط في الحرية واستخدامها في غير موضعها، ما يخالف الحشمة المشرقية، على أن نأخذ من العلم والتربية القدر الملائم لعاداتنا، تجنب الفتور في الدين والمجاهرة بالكفر، لأنهما أساس الخراب. هذه هي خارطة الطريق التي اقترحها زيدان، وهو يقوم برحلته إلى أوروبا سنة 1912، وهو تاريخ حاسم، على المستوى الأوروبي، وفي الجانب العربي، ففي هذا التاريخ، أصبحت الحركة الاستعمارية أكثر شراسة، حيث بدأ الاحتلال الفعلي لعدد من دول الشمال الأفريقي ولبلدان المشرق العربي، كان أبرزها شراسة التغلغل الفرنسي في تونس والمغرب والجزائر، ومحاولات إيجاد موقع قدم في سورية ولبنان، وتحرك الإنكليز صوب الجزيرة العربية، وهيمنة الإيطاليين على ليبيا، بحيث بدا معها العالم العربي، بعد تراجع النفوذ العثماني، وكأنه رقعة شطرنج مضيئة.
السوريون في باريس
في مختتم وصفه لباريس ومعالمها وآثارها وما تحفل به من مؤسسات كبيرة ومهمة، يتوقف بنا زيدان، عند الحضور العربي في هذه المدينة، ويجب هنا أن نستحضر أننا نتحدث عن سنة 1912، تاريخ زمن الرحلة. وأول ما يلفت الانتباه أنه حضور ملموس وفي مناح مختلفة من مفاصل المجتمع والاقتصاد.
يكتب: “ونختم وصف باريس ومتحفها وأحوالها بما شاهدناه فيها من تقدم السوريين في التجارة والأدب والفنون الجميلة. لقينا فيها عشرات من أصحاب المتاجر، وقد جاروا الفرنساويين بالتجارة، ولهم منزلة رفيعة بين علية القوم وأحرزوا ثقة أصحاب المعامل والمصارف. ولأكثرهم معاملات واسعة مع الشرق والغرب، وأكثر اشتغالهم مع سوريا وأميركا الشمالية والجنوبية يبعثون إليها السلع من مصنوعات باريس على اختلاف أصنافها.
فمن البيوت التجارية السورية في باريس محلات رحيم، وبو شديد، وشحادة، وسليمان، ودقرت، وشقير، وبركة، وداود، وجاسر إخوان ودوماني، ومانوك، وقزي، وبيجاني، وشخيري، وزوين، ويانسوني، وحوس”فرع لمحل صيدناوي" وغيرها من البيوت التي تتعاطى أصناف من التجارة. وقد اختص بعضهم بتجارة المجوهرات أشهرهم: كساب، ونصبة، وأبو أحمد.
وبالعطريات محل بشارة ملحمة، وله شهرة واسعة في فرنسا وإنكلترا بما يصنعه من العطريات المعروفة باسمه، وقد نال جوائز السبق في المعارض الصناعية. وعرفنا من الماليين الكونت قريصاني مدير البنك الفرنساوي المصري في باريس وهو من البنوك الكبرى وله فرع في مصر. وقس على ذلك مما يدل على اقتدار شرقي على مجاراة الغربي إذا تساوت الأسباب والوسائل. مما يوجب الفخر أيضا أننا عرفنا في باريس نفسها غير واحد من الأدباء السوريين يجارون أدباء فرنسا في آداب لسانهم يكتبون في أكبر جرائدهم السياسية في أهم المواضيع الحيوية أو يؤلفون الكتب، وينظمون الشعر بالفرنساوية، بما لا يقل عما يفعله أدباء فرنسا أنفسهم. منهم شكري غانم ناظم رواية عنترة، وقد قبل تمثيلها في الأوبرا الفرنساوية. وخير الله خير الله صاحب كتاب “سوريا”، يكتب المقالات السياسية في جردة الطان الشهيرة. والدكتور جورج سمنة له مجلة علمية تصدر بالفرنساوية بباريس اسمها Corresspondences d’Orient وميشيل بيطار مترجم رواية العباسة أخت الرشيد.
وهناك طبقة من أصحاب الفنون الجميلة يشتغلون للإفرنج أنفسهم. منهم موريس نجار يؤلف القطع الموسيقية للأجواق الفرنساوية التمثيلية وهو يرتزق هناك بهذه المهنة. ووديع صبرا من أصحاب المواهب الموسيقية وقد عرفه الباريسيون. وفيليب موراني مصور فني يشتغل بالتصوير في باريس. وغير هؤلاء من الأدباء وأصحاب الفنون الجميلة. وقد اقتصرنا على الشرقيين المشتغلين بالفرنساوية للفرنساويين في باريس.
ونعرف طائفة من المشتغلين بهذه اللغة وآدابها بمصر والشام سنعود غلى ذكرهم في فرصة أخرى، وقد يكون هناك كثيرون لم نطلع على آثارهم أو لم تبلغنا أخبارهم. وإنما أردنا تقرير حقيقة يسر تقريرها كل مشرقي، نعني “أن الشرقيين إذا توفرت لهم الأسباب جاروا أرقى الأمم المدنية”.
عن موقع العربي الجديد الإلكتروني
عن العربي الجديد
العربي الجديد موقع الكتروني وصحيفة يومية تملكها شركة فضاءات ميديا ومقرها لندن. يصدر الموقع باللغتين العربية والإنجليزية. لها عدة مكاتب في عواصم عربية وشبكة مراسلين. تصدر جريدة العربي الجديد في أكثر من طبعة عربية وطبعة دولية.
رحلة إلى أوروبا 1912
هذه الرحلة من بين الأعمال شبه المجهولة لجرجي زيدان اعادتها إلى النور في سلسلة ارتياد الآفاق «تييح للقاريء العربي فرصة الأطلاع على أثر مهم من آثار واحد من ابرز اعلام النهضة العربية.
ولم تكن رحلة جرجي زيدان الى اوروبا سنة 1912 رحلة استجمام واستمتاع بقدر ما كانت رحلة علمية مبرمجة، تجشم القيام بها في آخر العمر ليكتب وصفاً مفصلاً ودقيقاً عن احوال المدينة الغربية ممثلة بكل من فرنسا وإنجلترا اللتين تجسدان خلاصة هذه المدينة في جانبيها المادي والمعنوي، في الوقت الذي كانت تتطلع فيه عيون الشرقيين إلى الخروج من ربقة التخلف، والسير في ركاب الأمم المتمدنة.
لقد أراد صاحب الرحلة ـ على حد قوله ـ أن يبين «ما يحسن أو يقبح من عوامل تلك المدينة بالنظر إلى طبائعنا وعداتنا، واخلاقنا» فأختار أهم العناوين التي تقاس بها المدنيات ليقدم للقاريء العربي وصفاً أميناً لما يندرج تحتها من تفصيلات تعتمد على الإحصاء الدقيق المسند إلى السجلات الرسمية. فبدأ بالتعريف بنظام الحكم في كلا البلدين، فهو في فرنسا جمهوري ينتخب فيه الرئيس لمدة سبع سنوات بأغلبية الأصوات من قبل مجلس الأمة ومجلس الشيوخ، وعليه تنفيذ قرارات وتشريعات هذين المجلسين. وتناط بهذين المجلسين السلطة التشريعية، في حين تكون السلطة التنفيذية بيد مجلس الوزراء، أما في انجلترا فنظام الحكم ملكي مقّيد، وانجلترا من اعرق الأمم في الدستور. والحكم فيها يرجع إلى رأي الأمة التي ينوب عنها مجلس الاعيان والعموم. ان نظام الحكم في البلدين لا مجال فيه للاستئثار بالسلطة، والاستبداد بالشعب، وحرمانه من المشاركة في الشأن العام كما هو سائد في معظم حكومات الشرق.
ثم يتّطرق صاحب الرحلة إلى الأمور التي تهم القاريء العربي الذي يتطلّع إلى تحدي مدنية الغرب في نهضته المعاصرة، فيصف العمران، والمدن، ونظامها الدقيق، ونظافة شوارعها واسواقها، ومتاحفها، ومعابدها، ومكتباتها، وآثارها، وحياة الناس فيها، وما توافقوا عليه من عادات في اللباس، والطعام والشراب. ولا يفوته ان يحصي الثروات في كل بلد، والحالة الاقتصادية، ثم الحالة العلمية، وأسماء الجامعات والكليات في كل بلد، واعداد طلبتها، وتاريخ تأسيسها ثم يصف حال المرأة في أوروبا عامة وفي فرنسا وانجلترة خاصة، وما أحرزته من تقدم في نيل حقوقها في التعليم والعمل، وحرية التصرف التي قد تصل الى حد الشطط في بعض الأحيان.
إن الحديث عن الجوانب المادية في حضارة الغرب لم يشغل صاحب الرحلة عن الالتفات الى الجوانب المعنوية، وبخاصّة الأخلاق المصاحبة لهذه الحضارة. فذكر طباع الناس في كل بلد، وما يمتاز به كل شعب عن الآخر، فالفرنسي نشيط، دؤوب ينهض الى عمله بهّمة وحماسة يحب الجمال، ويميل إلى الاقتصاد في النفقات ويحب الترتيب والنظافة في المأكل والملبس، ويحرص على اداء الواجب، ويعرف قيمة الوقت، ويصدق الوعد، ويفخر بعظماء وطنه ونابغيه، ويعتز بحريته. في حين ان الانجليزي يمتاز بالثبات على الحقيقة، والكبرياء، والانانية، ويعنى بالتربية البدنية والعقلية، ويحافظ على التقاليد، ويمتاز بالصدق والوفاء، والتدين، يحب النظام ويؤدي الواجب دون رقيب. ان الناظر الى المزايا الاخلاقية لكلا الشعبين يرى أن وجوه الاتفاق فيها أكثر من وجوه الاختلاف، كما ان هذا التقدم المادي يصاحبه تقدم معنوي وأخلاقي يدفع بهذه الحضارة إلى الأمام ويحول دون تدهورها وانحطاطها.
ومما يلحظه القاريء لهذه الرحلة حرص كاتبها على الموازنة بين الشرق والغرب في الكثير من المسائل، كالتعليم في فرنسا، ونظيره في مصر، والفرق بينهما من حيث المستوى والانفاق، كما وازن بين فن التمثيل في فرنسا ومثيله في مصر، وبين وجوه الاختلاف، فالفرنسيون يجمعون في فن التمثيل بين الجد والهزل وينتقدون السلبيات ويهتمون بالشئون اليومية لحياة الناس. الجدير بالذكر تلك الموازنة التي عقدها جرجي زيدان بين الاسس الاخلاقية التي تقوم عليها حضارة الغرب، والاسس التي قامت عليها حضارة العرب في الماضي، فمدنية العرب اساسها مناقبهم في صدر الاسلام، كالاريحية، والنجدة، وحسن الجوار، والوفاء، والحلم وكرم الخلق ونحوها، وهذا مما لا يلائم المدينة الحديثة التي تقتضي مبادلة الحقوق والواجبات، لا حلم ولا عفو، ولا اريحية ولا نجدة، وانما ينال المرء من الرزق والمنصب على قدر سعيه ومواهبه بمقتضى القواعد الاخلاقية والاقتصادية، والاعتبارات السياسية.
ان هذا الرجل القادم من الشرق الى اوروبا، لم تبهره حضارة الغرب الى الحد الذي يحجب عنه الرؤية الواضحة لمحاسنها وعيوبها، كما انه بدا متماسكاً ازاء التفاوت الكبير بين احوال الغرب واحوال الشرق، فأقصى عواطفه جانبا، ليترك الارقام والاحصاءات تتحدث عن واقع الغرب، ومع ذلك فقد سمح لنفسه ان يتحدث على نحو مباشر مبيناً ما ينبغي اخذه من المدينة الغربية، وما يجب تركه فقال : «في مدينة فرنسا وغيرها من مدنيات أوروبا حسنات كثيرة يجب علينا اقتباسها والاستفادة والابتعاد عنها، فالحسنات التي يحسن بنا اقتباسها هي، معرفة الواجب، والمحافظة على الوقت، وصدق المواعيد، وتهذيب اخلاق العامة بالتربية الصحيحة وتعليم المرأة وتثقيفها، وترقية التعليم والتوسع في الآداب، والعمل والجد. اما ما يجب علينا تجنبه من ادران تلك المدينة، أهمه : الافراط في الحرية، واستخدامها في غير موضعها، وما يخالف الحشمة الشرقية، على ان نأخذ من العلم والتربية القدر الملائم لعاداتنا، والفتور في الدين، والمجاهرة في الكفر، فإنه من اسس الخراب.
سويسرا كانت المحطة الثالثة والاخيرة التي توقف فيها جرجى زيدان على عجل، ولم يوفها حقها من الوصف، مما يرجح انها كانت محطة الاستجمام الوحيدة في رحلته، لما تتمتع به من طبيعة ساحرة تجذب السياح من انحاء العالم كافة. لقد ذكرته جنيف من حيث مناظرها الطبيعية بالاستانة وبوسفورها بما على شاطئيه من التلال المكسوة بالاشجار والقصور، ولكنه لم يجد مسوغا للاطالة في وصف هذه البلاد، لأن رحلته رحلة عمل اراد فيها وصف مدينة الغرب في اكثر نماذجها تقدما ورقياً.
وفي حديثه عن نتائج حملة نابليون على مصر كان جرجي زيدان مبالغاً في تقدير ايجابياتها بحيث جعل لفرنسا فضلا على الشرق كله من اوجه كثيرة ظهرت آثاره في اخلاق اهله وآدابهم، فهذه الحملة نقلت معها بذور المدنية الحديثة، وذلك من خلال الحملة العلمية المصاحبة لمدافع نابليون وجيوشه الجرارة، والتي جمعت نخبة من خيرة علماء فرنسا آنذاك. وحينما ارتد الفاتح على اعقابه، وانسحبت فلول الجيش الفرنسي من مصر، ظلت تلك البذور كامنة الى ان تعدها رجال من الشرق بالعناية والرعاية، فأتت اكلها وكانت منطلقاً للنهضة العربية الحديثة في مصر والشام، كما سعى كل من الاتراك والفرس الى الافادة من مدينة فرنسا لما هموا بنهضتهم الاخيرة، ومما لا شك فيه ان لحملة نابليون آثاراً ايجابية نجمت عن ذلك الاحتكاك القسري بين الغرب والشرق من جانب نابليون الذي كان يحلم بالسيطرة على العالم، واخضاعه لصولجانه بالقوة القاهرة، وهذه الآثار انما هي من باب تأثير الغالب في المغلوب. فكيف يمكننا ان نسلم بتسمية كل ذلك فضلاً ؟ ويقول قاسم وهب في تحريره وتقديمه للرحلة، لو عاصر جرجي زيدان ما فعلته فرنسا بالشرق فيما بعد لاعاد النظر في هذه التسمية، وحينما يذكر جرجي زيدان الاستعمار الانجليزي، لا يبدي ازاءه ذلك القدر من التعاطف الذي ابداه في حديثه عن الفرنسيين، بل توخى الموضوعية في الوصف، فالإنجليزي تهمه الفائدة الحقيقية من الاستعمار، وهو لا يعبأ بزخرف السيادة وأبهة السلطة، وذلك عائد في رأي الكاتب إلى الخلق الانجليزي الذي يعول على الحقيقة مع الثبات. والانجليز يمتازون بالاناة والصبر لتحقيق مطامعهم الاستعمارية، لهذا لا نراهم يستعجلون بسط الحماية على مستعمراتهم، او اعلان السيادة عليها، فيسمحون لها بالاستقلال الاداري شريطة المحافظة على مصالحهم المادية.
عبدالرزاق المعاني