الإثنين ١٤ يناير/كانون الثاني ٢٠١٣
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
لعل أول ما يثيــــر الدهشة لدى قراءة سيرة الرحالة العربي المغربي الطنجي الشهـــير، إبــــن بطوطة هو ذلك التشــــابه بين بعض سمات تلك السيرة، وبعض سمات سيـــرة رحالة آخر ينتمــــي الى العصر نفسه تقريباً هو الايطالي ماركو بولو. وقد يمكن ان نكتفــــي هنا بسمتيــــن أساسيتين هما طول غياب كل منهما عن وطنه خلال الرحلة التي قام بها، - أكثـــر من خــــمسة وعشرين عاماً تقريباً لكل منهما -، من ناحية، والكيفية التي دُوّنت بها رحلة كل منهما: بعد انقضاء الرحلة الطويلة كان نصيب ماركو بولـــو ان أودع السجـــن فنصّ من ذاكــــرته على مسجـــون مثله حكاية رحلته، متحجـــــجاً بأن كل ما دوّن من يوميات خلال رحلاته كان سرق منه وضاع. أما إبن بطوطـــة فكان حظه أفضل، فهو لم يسجن، لكنه انضم الى حاشية السلطان ابي عنان وراح يحكي ما حصـــــل له خــــلال تجواله، من الذاكرة أيضاً، لأن الهـــنود كانــــوا سلبوه خلال رحلاته أيضاً، أوراقه ومدوناته هـــو الآخر. إذاً هنا أيضاً أملى إبن بطوطة حكايتــه على كاتب السلطان، محمد بن جزي الكلبي «وهذا، في رأي كــــرم البستاني مقدم احدى طبــــعات رحلـــة إبن بطوطة، ما يفسّر لنا ما يُرى في سياق رحلته من بعــــض هفوات جغرافية ومبالغات». وهو نفس ما يتّسم به نص ماركو بولو. والحال ان هـــذا التشابه وغيره دفع عدداً من الكتاب العرب الى «الاستنتاج» بأن ماركو بولو قد يكون نقل عن إبن بطوطة، غافلين - كما ينبه باحث لبناني آخر هو الدكتور غسان غصن - عن حقيقة مسلية وهي ان ماركو بولو عاش ورحل وكتب، قبل ان يفعل إبن بطوطة ذلك!!
يبدأ إبن بطوطــــة نـــــص رحلتـــــه كما يأتـــي: «كان خروجي من طنجة مسقط رأسي فــــي يوم الخـمــــيس الثاني من شهر الله رجب الفرد، عام خمسة وعشرين وســـبعمئة (1324م). معـــتمداً حــــجّ بيــــت الله الحرام وزيارة قبر الرسول». وينهيها هكذا: «... ثم خرجت فوصلت الى حضرة فاس، حضرة مولانا أمير المؤمنين أيّده الله، فقبّلت يده الكريمة، وتيمنت بمشاهدة وجهه المبارك، وأقمت في كنف إحسانه بعد طول الرحلة».
إذاً بين انطـــــلاق إبن بطــــوطة فــــــي سفره وعودته منه مرّت تسعة وعشرون عاماً، لكن رحلة إبن بطـــــوطــــة لم تكــــن رحلة واحدة متصلة، بل كانت عبــارة عن تســـع رحلات، يشكل تفصيلها متن هذا الكتاب المدهش الذي يحمل في الأصل عنــــوان «تحــــفة النظـــار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، واختصر اسمه دائماً الى «رحلة إبن بطوطة». والرحلات المعنيّة كانت كما يأتي: الأولى كانت تهـدف الـــى الوصــول الى مكة المكرمة للحج، لكنها عادت وتفرّعت الى ثلاث رحلات وذلك عـــبـــر الـمــــرور بشمال أفريقيا ومصر وأعالي النيل وســــورية، وفيها إذ بقي إبن بطـــوطة فــــي الديــــار المقــدســـة شهرين انطلق بعد ذلك الى بغداد ثم الى انـــحاء ايران فبغـــداد من جـــديد ومنها هذه المرة، الى الموصل ثم عودة ثانــــية الى بغــــداد فالجزيرة العربية حيث بقي هذه المرة ثلاثة أعوام. بعدها انطلق الى البحر الأحمر فاليــــمن فمقــــدايشو وأفريقيــــا الشرقية عائداً من هناك الى عُمان فمكة. وفي الرحلة الرابعة زار إبــــن بطوطة مصــــر فسوريــــة فآسيا الصغرى فبلاد المغــــول وجنوب روسيا، منطلقاً من هناك الى القسطنطينية فوسط آسيا وأفغانستان فــــوادي الهندوس، وصولاً الى دلهي التي أقام فيها تسعة أعوام عيّن خلالهــــا قاضياً على المذهب المالكــــي. بعد ذلك نـــراه يتوجه الــــى جزر المالديــــف حيث بقي عاماً ونصف العام في رحلــــة خامسـة شملت سيلان فآسام فسومطــــرة والصين في رحلة سادسة تلتها رحلة سابعة الى بغداد وسورية ومصر والحج الى بيـــت الله الحرام. وهو لدى عودته من هناك الى الاسكندرية توجه بحـــــراً الى سردينيا ومنها أبحر على متن سفينة الى الجزائر ففاس ثم ممــلكة غرناطة، قبل ان يعود الى المغرب ثانية ومن ثم ينطلق في رحلته الأخيرة الى وسط أفريقيا، حيث بدأ بزيــــارة متعبة وطويلــــة الى الصحراء أوصلته الى ما كان يُعرف في ذلك الحين ببــــلاد النيجر، وهـــــي حيز جغرافي تخــتلف الى حدّ ما عن دولة النيجر المعروفة حالياً.
وبهذا التجوال الطويل والمتشعّب في مناطق عدة من حوض البحر الأبيض المتـــــوسط وآسيا وإفريقيا، يكون إبن بطوطـــــة قد تجول طوال سنوات عدة في كامل تلك الرقعة الجغرافية التي كانت تمثل، في ذلك الحيـــن ديار الإسلام. وهو في معرض وصفه لعادات وأحوال الشعوب التي زارها، حــــرص دائماً على ان يقارن بين ما أتى به الإسلام اليهــــا، وبين ما كان من «وحشية وضــــراوة فيها قبل وصول الإسلام». وهو حرص دائماً، ولا سيما عند الحديث عن مناطــــق الأطـــراف، ان يصف كيف يتجاور الإسلام مع ما قبله، ولا سيما في أفريقيا. وبالنسبة اليه كان كل ما يراه من عجائب وغرائب هو ما يبدو خارجــــاً وغــــــير مألوف للعالم الإسلامي الذي ينتمي هو اليه. ترى، أفلا يمكننا تشبيهه، في ذلك، بأولئك العلماء الانثروبولوجيين الذين طفقوا، بعد إبن بطوطة بقرون عدة، يزورون العالم الخارج عن المركزية الأوروبية (أو مركزية الرجل الأبيض، إذا صح التعبير) ليصفــــوا كل ما هــــو غير مألوف لديهم، في شكل مدهش ومستنكر أحياناً؟ مـــن الواضح في نص إبن بطوطة ان المسكوت عنه، انما هو اعتبار ما هو حاصل فــــي مركزية عالم الإسلام (المغرب العربي في زمنه) القاعدة العقلانية الحضارية، وكل ما هـــو خارج عنها، ضرب من التوحش والنزعة الغرائبية. اننا إزاء العالم الذي يصفه إبن بطــــوطة، نجد أنفسنا متسائلين، ولا سيما امام ما يدهشه في شكل قاطع، عما إذا كان حـــقاً شاهد الأمور كما يصفها أم انه انطلق دائماً من تفسير ذاتي لأحوال شعوب كل ما في الأمر انها ترى الوجود والكون وأحوالها رؤية لا تتجانس مع رؤيته؟
لقد جرت العادة ان تقارن رحلة ابن بطوطة، برحلة إبن جبير الذي سبقه زمنياً، لكن رحلة إبن جبير لم تتعد نطاق المركزية العربية الإسلامية، ولا نجدها في سرد صاحبها لها جملة وتفصيلاً، تحفل بعنصر الادهاش الذي يقول كل ما يمكن ان يكون مسكوتاً عنه. من هنا، فإن ثمة من الدارسين من يرى ان من الأفضل المقاربة بين رحلة إبن بطوطة ومقدمة إبن خلدون، إذ يبدو النصان متكاملين، يغوص أولهما جغرافياً في المكان، فيما الثاني يدور تاريخياً في الزمان. والتكامل بين النصّين يشي أصلاً بما كانت عليه حال العالم العربي في عهدي الرجلين المتقاربين زمنياً. إذ ان عصرهما كان عصر اضمحلال الدولة الإسلامية، أي العصر الذي وجدت فيه تلك الحضارة نفسها في حاجة الى أن تؤرخ ذاتها، من طريق المقارنة إما بالأمكنة الأخرى وإما بالأزمنة الأخرى. وكل من «الرحلة» و «المقدمة» يفعل هذا بالتأكيد.
ولد إبن بطوطة، واسمه الكامل عبدالله اللواتي الطنجي، في طنجة العام 1304، وفيها سيموت في العام 1368، وهو في الأصل لم يكن عالماً أو كاتباً، بالأحرى كان تاجراً، تخلى بالتدريج عن تجارته وجعل من نفسه رحّالة، ومكنته علوم نالها باكراً من ان يستخدم انتماءه الى المذهب المالكي ليعمل قاضياً أو فقيهاً في الهند والصين. وثمة من الدراسات ما يرى اليوم، انه أصلاً كان يعمل في خدمة السلطان (جاسوساً له مثلاً) وأن رحلاته انما كانت لجمع المعلومات عن ديار الإسلام في وقت كان فيه السلطان أبو عنان يرى من حقه أو من واجبه توحيد ديار الإسلام بعد انهيار الخلافة العباسية وتدهور أوضاع الأندلس، ولكن من المؤكد ان مثل هذا المشروع كان يفوق طاقات إبن بطوطة، وبالكاد يشي به نص كتابه.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.