جريدة المدن الألكترونيّة
الإثنين 20-02-2020
المدن - ثقافة
عماد الدين رائف
بلادنا على عتبة حرب 1860.. بعينَي فنان روسي
جالَ ليف (ليو) ميخائيلوفيتش جيمتشوجنيكوف (1828 – 1912)، في بلادنا على عتبة الحرب الأهلية التي عمّت بلاد الشام سنة 1860، وترك مذكرات فريدة من نوعها، أودعها في مخطوط بعنوان “ذكرياتي عن الماضي”. جيمتشوجنيكوف رسام وناقد فنّي روسي، سليل نبلاء مقاطعة أوريول. اختار له والده السيناتور ميخائيل نيقولايفيتش الحياة العسكرية، فألحق ليف الفتى بمعهد ألكسندروفسكي العسكري، ثم كاديتسكي الأول ثم باجيسكي، إلا أنّه عزف عن ذلك والتحق بأكاديمية الفنون القيصرية سنة 1848، حيث درس أساسيات الرسم الكلاسيكي والتقى البروفيسور أ. إي. إيغوروف (1776 -1851). مكث في أوكرانيا نحو عامين بين أقاربه لجهة أمه. قام جيمتشوجنيكوف برحلة خارج روسيا القيصرية استمرت لأربعة أعوام، درس فيها تقنيات الرسوم التطبيقية والحفر في ألمانيا وسويسرا وفرنسا، كما زار سنة 1858 اليونان ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين. كان جيمتشوجنيكوف عضوًا في “جمعية موسكو للفنون”، وحققت بعض كتاباته صدى واسعًا في الأوساط الفنية الروسية، لاسيما مقالته “تعليقات على معرض أكاديمية سان بطرسبورغ للفنون” سنة 1861.
ترك الفنان مئات اللوحات التي صوّر فيها الناس والطبيعة، وقد شغلته مواضيع التراث والإرث القومي والعادات والأعراف ومشاهد الحياة اليومية وصراعاتها، ويتبين من مجموعات لوحاته أنّه ينتمي إلى ثقافتين قوميتين، الروسية والأوكرانية، فقد شغلت الفنان الشاب موضوعات مثل حياة الفلاحين ونواحي الجمال في الفنون الشعبية والأغاني والتهويدات، وكرس الكثير من أعماله لها، مثال لوحتي “الفلاحة فاركا” و"يغدوجا تودينوفا"، وكذلك لحياة الفلاحين العامة كالمعارض الموسمية للمنتوجات، الأسواق، وتسليم المحاصيل وغيرها، ومن هذه اللوحات “عازف الكوبزا (آلة موسيقية وترية) على الطريق”، “المغني في منزله”، “عازف الباندورا (آلة وترية) مع الفتى”. وتظهر هذه اللوحات نضوج عمله الإبداعي، وبراعته في إظهار التفاصيل الدقيقة في انفعالات الأشخاص وعناصر الطبيعة. وهي لا تعكس الاهتمام الإثنوغرافي فحسب، بل عنايته بمصائر الناس البسطاء، ولم يكن من قبيل المصادفة اهتمام الفنان بأشعار تاراس شيفتشينكو وتقربه من عائلات المتنورين الأوكرانيين المعروفين مثل ليزوغوبوف وهالاهانوف. وعلى طريقته الخاصة كافح جيمتشوجنيكوف العبودية في روسيا القيصرية، إذ تزوج من أولغا (أكولينا) ستيبانوفنا كابانوفا (1839 – 1909) وهي فتاة تنتمي إلى طبقة الأرقّاء (العبيد)، كما أن رحلته إلى خارج روسيا القيصرية لم تقطع عمله المتواصل على الموضوعات المتعلقة ببيئة الفلاحين.
رحلة جيمتشوجنيكوف 1858
وصل جيمتشوجنيكوف مع شقيقه إلى بيروت على متن سفينة فرنسية من الإسكندرية في النصف الثاني من شباط/ فبراير 1858، يقول: “ما إن وصلنا إلى بيروت حتى توجهنا على منزل القنصل الروسي الدمث موخين، حيث استقبلنا في جو عائلي وتناولنا طعام الغداء، وأمضينا فترة المساء. لطافة القنصل لم تمنعه حين علم أننا نرغب في التوغل في سوريا أن يرفض إرسال الأموال والرسائل إلينا فحسب، بل رفض حتى تقديم أي مساعدة لنا في رحلتنا، وحاول إقناعنا بالعدول عنها متخوفًا من أن العلاقات مع فرنسا يمكن أن تتأذى مرة أخرى. بدا لنا حديثه محزنًا ومثيرًا للسخرية في آن، لاسيما وأنّه تضمن كمًا كبيرًا من الجبن. ومع ذلك قرر شقيقي أن نتابع تنفيذ الخطة، وأنا وافقت على مرافقته إلى أي مكان عن طيب خاطر... لا يمكن للمرء أن يصل من بيروت إلى القدس إلا على الخيول المجرّبة، فلا توجد طريق معبّدة إليها، بل مجرد دروب طرقتها حوافر الجياد والإبل، الدروب ملتوية تلتف حول الهضاب إلى جانب صخور يتخللها الكثير من الصعود والهبوط، وفي مواضع بين الشقوق الصخرية، علينا أن ننتبه لكل خطوة”. وهكذا يمرّ جيمتشوجنيكوف مع مرافقيه في صيدا وصور، وصولا إلى الناصرة، ثم يحل في القدس في 19 آذار/ مارس، ويكمل حجّه، ثم يتوجه برفقة شقيقه ويلتحق بهما رجل إنكليزي لم يسمّه إلى دمشق عبر بانياس ومنابع الأردن فيصل إليها في 7 أيار/ مايو. يصف جيمتشوجنيكوف العمران والطبيعة في دمشق.
الموسيقى الشرقية
يقول جيمتشوجنيكوف عن دمشق: “يبدو أنّ السلع الأوروبية تزاحم المحلية، وكذلك الهندسة المعمارية بل وحتى الموسيقى. كل شيء هنا بات مصابًا بالعدوى الأوروبية. ويقال إنّ كل ما هو محلي قد اختفى حتى من القسطنطينية نفسها. سيكون مؤلمًا جدًا أن نحمل ما لدينا إلى الشرق من دون أن نأخذ منه ما هو قيّم. أعتقد أن الفنانين والمعماريين يمكنهم استلهام الكثير من هنا، كما ينبغي علينا المحافظة على الموسيقى المحليّة كي يفيد منها الغرب، بالإضافة إلى العديد من الأمور التي يمكننا استعارتها من الشرق. أنا مولع بالموسيقى الشرقية بالفعل. استمعت إلى المعازف في سميرنا، والإسكندرية، والقاهرة، وبيروت، والقدس، وأخيرًا في دمشق. تختزن هذه الموسيقى الكثير من المشاعر والمعاني، وتذكرني دوافع هذه الموسيقى كثيرًا بأفكار أهل روسيا الصغرى (أوكرانيا)، على الرغم من أنها غير مشحونة بالطاقة والقوة نفسها. تتلاءم أغاني البدو في القفار الموحشة مع الطبيعة وتضاريسها. أثناء الغناء قد تصمت الجوقة بين الحين والحين، لتفسح المجال لمغنّ منفرد أن يؤدي دورًا، أو تصدح الصنوج والدفوف وآلات موسيقية أخرى بدون صوت آدمي. الموسيقى الشرقية حساسة بشكل عام لينة، خفيفة على الأذن. للوهلة الأولى، وعند مشاهدة طبيعة الجرود الشرقية والالتقاء بالناس، والاستماع إلى الأصوات المتنافرة غير المألوفة قد يتكون لدى الغربي انطباع بأن الموسيقى الشرقية غير ذات أهمية، إلا أني أراها على العكس من ذلك تمامًا، فهي عبارة عن كنوز لا تحصى ولا تُعدّ... إن المنازل والشوارع والمقاهي والحمّامات المحلية كلها مصممة بشكل جميل ومتناسق لكنها قذرة بشكل دائم. أرى أنّه من الضروري التغاضي عن القذارة الطارئة، وأن نبحث دائمًا عن الجمال الموجود في الأصل. فتحت هذه الخرق المرمية والطين قد لا يتمكن كثيرون من رؤية كمال قوام هذه المدينة الجميلة. إذا ما أخذنا المقاهي الشرقية مثلا، وبنينا لأنفسنا مثلها، مع بعض التحسينات، نكون قد ارتقينا إلى الكمال المحتمل. لن يكون ذلك سيئًا أبدًا...”.
وجهاء دمشق
واصلنا اليوم مشاهداتنا لمنازل مدينة دمشق. في المساء، حللنا في ضيافة السرعسكر (القائد العسكري التركي للمدينة). أتمّ هذا الرجل تعليمة في فيينا وكان يعيش في أوروبا، وبالتالي فهو ليس تركيًا متوحشًا بل تركيا متحضرا إلى حد ما. لديه مساعد إنكليزي، ربما يخدمه بهدف الحصول على المال أو لدوافع سياسية. أنير مدخل منزل هذا التركي الأوروبي وأشعل البخور تحت نوافذه، فيما عزفت الموسيقى العسكرية. حمل إلينا عدد كبير من الخدم صينيات عليها أطباق مرصعة بالماس فيها أنواع من الحلويات والمربيات، وأكواب فيها قهوة وشربت (شراب). جعل العبيد المُذلّون ينظرون إلى عيني الحاكم حينًا وإلى جيوبنا حينًا آخر في انتظار عطاء ما. لم تبد على مساعد السرعسكر، الإنكليزي المسلم، أي دهشة أو فرحة عند لقائه برفيقنا الإنكليزي، لم يكن اللقاء به حارًا أو باردا. على الرغم من الحاشية العسكرية المحيطة بالسرعسكر، إلا أن قوته بات مشكوكًا فيها كثيرًا في البلاد. عندما أخبرناه أننا أثناء مسيرنا كنا نستقبل في كل قرية مررنا بها بإلقاء الحجارة علينا والبصق في وجوهنا وبالصراخ، وأنه حتى في مدينة دمشق رمينا بالحجارة، اعترف السرعسكر بسذاجة بأنه بات عاجزًا عن فعل أي شيء حيال ذلك. وأضاف أنّه حين يضطر إلى السفر نحو الداخل السوري، يهاجمه السكان المحليون، ولا يمكنه أن يتنقل إلا محاطًا بكتيبة من العسكر ومدفعين، وذلك لأن السكان المحليين ما عادوا يعترفون بسيادة الأتراك عليهم.
بعد ذلك، حللنا أنا وشقيقي والإنكليزي في ضيافة الباشا (لعل المقصود أحمد باشا حاكم دمشق العثماني). كان الباشا جالسًا على أريكة، واضعًا رجلا على رجل، وبين يديه سكرتيره يعمل راكعًا على ركبتيه. علمنا لاحقًا أن هذا الباشا عدو للمسيحيين.
ثم قصدنا في المساء منزل عبد القادر (الأمير عبد القادر الحسني الجزائري، 1808 - 1883). كان منزلا متواضعًا جدًا. استقبلنا رجل أسود طويل القامة مفتول العضلات مهذب. أدخلنا إلى غرفة واسعة، وجدنا عبد القادر جالسًا في الديوان على الطريقة العربية يدخن النارجيلة وأمامه موقد كبير فيه جمر تُغلى فوقه القهوة. إلى جانب الموقد مصباح قوي فيه فتيل مشتعل، يقف بالقرب منه عربيان ذوا بنيتين صلبتين. كان عبد القادر يرتدي عباءة جزائرية، لديه مظهره الخاص، وكانت تعابير وجهه ذكية وحيوية. وهو منذ أن استقر في دمشق يحصل على ثمانين أو مئة ألف فرنك سنويًا من فرنسا. يراقب كل شيء ويهتم بكل شيء. والجزائريون على صلة مباشرة به، يجتمعون في منزله ويفخرون به. سألنا عن شامل (المقصود: القائد السياسي والديني الإمام شامل الداغستاني، 1797 – 1871، أشهر مقاومي الوجود الروسي في القوقاز) مبديًا اهتمامًا خاصًا بوضعه، فبينهما تواصل دائم.
في دمشق كذلك، شاهدنا حفل زواج عربي أرثوذكسي. كان العرس عبارة عن فوضى مربكة بالنسبة إلينا، تندمج فيه المسيحية مع المحمدية، فالمحمديون والمسيحيون يغنون معًا أغاني الحب والمشاعر الجياشة: يا ليلي، يا ليلي، يا ليلي/ آه ما احلاه وصل الحبيب... تُغنى أغنيات الحب واحدة تلو أخرى وهي مليئة بالأشواق، تمامًا كما يحصل عندنا أثناء الأعراس في روسيا الصغرى. وقد تدعو معاني كلمات هذه الأغنيات إلى العجب والسخرية، كأن يُعجب شاب بفتاة في بداية الأغنية، ثم ما يلبث أن يدعوها فيطلب منها أن تنام معه...
في لبنان
يصف جيمتشوجنيكوف تفاصيل رحلته مع رفيقيه على الأحصنة من دمشق إلى جبل لبنان الشرقي، ثم إلى بعلبك وآثارها العظيمة، ثم إلى الأرز وبعدها يتجهون نحو جبال لبنان الغربية، يقول: “ركبنا على طول جرف جبلي حاد، كانت الأشجار تحتنا، وكذلك الحقوق والغيوم والصقور. من خلف الصخور قرب الدرب واجهتنا مجموعة من الجبليين المسلحين بالبنادق وكانوا يرتدون ثيابًا ممزقة. تدور معركة هنا، نحن وسط حرب. يسمع أزيز طلقان البنادق بين الحين والحين من جانب في الوادي خلف الصخور والأشجار، فيستجيب له أزيز طلقات من الجانب الآخر، ويظهر الدخان الذي يلي إطلاق النار. ولكيلا نقع في مرمى الرصاص كان علينا أن نمر فوق منحدر جبلي رهيب، بدون درب واضح، نزلنا إلى أسفل. اضطررنا للتوجه نحو قرية قادنا الدرب إليها، قابلتنا هناك مجموعة من المسلحين الذين سمحوا لنا بدخول القرية بعدما طرحوا علينا عددًا من الأسئلة. كانت القرية مثيرة للاهتمام، فيها كنيسة كاثوليكية، حين وصلنا كان جميع سكان القرية الذكور خارجها يشاركون في المناوشات المسلحة. أما من بقي منهم داخلها فتجمعوا في ساحتها لينصتوا إلى عظة راهب فرنسيسكاني حافي القدمين، يبدو أنه كان يقود العمليات العسكرية. حططنا رحالنا قرب ساحة القرية كي نتناول طعام الفطور، وعندما أتوا إلينا ليسألونا عن ديننا، اقترفنا فعلة بطرس الرسول عندما أنكر المسيح، فأنكرنا الأرثوذكسية وصلّبنا على الطريقة الكاثوليكية، واعترفنا بقداسة بابا روما...”.
مصير مخطوط الكتاب
في مقدمتها الطويلة لكتاب “ذكرياتي عن الماضي” (25 صفحة)، تقول المحررة الرئيسة الناقدة الفنيّة السوفياتية ألّا غليبوفنا فيريشاغينا (1925 – 2016)، أن فريق تحقيق المخطوط الذي رأسته لإصدار الكتاب عن دار “إسكوستفو” في لينيغراد (سان بطرسبورغ حاليًا)، “قام بقصّ وحذف أجزاء كبيرة من المذكرات، لكونها تتضمن تفاصيل شخصية بحتة، أو أوصافًا طويلة للغاية، أو لاعتبارات دينيّة لدى المؤلف”. وفي قسم الرحلة إلى بلادنا نجد علامات كثيرة تركها المحررون تبيّن مواضع الحذف. في المقابل، قدّر لي أن ألتقي قبل سنتين في مدينة لفيف (شرق أوكرانيا) بالبروفيسور في العلوم التاريخية أستاذ جامعة إيفان فرانكو الوطنية الأوكرانية بوهدان ياكيموفيتش، الذي أخبرني أنّه يعمل على نسخة من المخطوط الأصلي لكتاب جيمتشوجنيكوف، وأنّ الحذف الذي تمّ سنة 1971 كان تعسفيًا بحق النصّ بشكل عام وبالقسم المتعلق ببلادنا بشكل خاص، وأنّ الحذف جرى في مواضع كثيرة بناء على اعتبارات تتعلق بالسياسة الخارجية لروسيا القيصرية، وأضاف ياكيموفيتش أنه بصدد تحقيق المخطوط كاملا... فلعل المستقبل القريب كفيل بكشف ما خفي من تفاصيل رحلة جيمتشوجنيكوف الشاميّة.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.