موقع رصيف 22
الاثنين 4 مايو 2020
حامد فتحي
حياة الأندلسيين في منفاهم العربي... نهضة اقتصادية وثقافية وجهاد ضد الإسبان
كان لتداخل العرب بالأوروبيين دوراً بارزاً في بناء حضارة ثرية في الأندلس. واستمرت السلطة الإسلامية في شبه الجزيرة الأيبيرية حتى عام 1492، من دون أن ينتهي الوجود الإسلامي بانتهائها، فظلّ المسلمون في الأندلس لغاية 1609 إلى أن أصدر الملك فيليب الثاني القرار بالقضاء على الوجود الإسلامي، إما بالتنصير أو الطرد.
بدأ النزوح من الأندلس قبل سقوط غرناطة بقرون، منذ توسعت الممالك المسيحية الشمالية على حساب الممالك الإسلامية، بينما استوعبت بلاد المغرب العربي أغلب الهجرات الأندلسية، للقرب الجغرافي، وللصلات التاريخية بين الطرفين.
وجاء النزوح الأندلسي نحو شمال أفريقيا في وقت تشهد فيه الأخيرة ردةً حضارية، بعد تفكك الدول المركزية الكبرى، وتفشي الأوبئة والمجاعات واضطراب الأمن، والذي تسبب في نقص حاد في عدد السكان، نتج عنه خلو مدن وقرى ومزارع من أهلها، فجاء الأندلسيون ليُعيدوا تعمير هذه المناطق، بالاستعانة بما لديهم من علوم وخبرات تفوق نظيرتها في البلاد العربية كافةً، وتركوا بصمات واضحة على الاقتصاد والعمران والثقافة والفنون والسياسة والحرب.
الشتات الأندلسي
تنقسم الهجرة الأندلسية إلى ثلاث مراحل: الأولى كانت بين عامي 800 و 1000، وجاءت في إطار الانتقال الحر للعلماء والتجار وغيرهم إلى شمال أفريقيا، والثانية أتت بين عامي 1000 و1492 مع توسع الممالك المسيحية على حساب الممالك الإسلامية الأكثر تحضراً، مثل قرطبة ومرسية وبلنسية وجيان وإشبيلية. أما المرحلة الثالثة، فامتدت من 1492 إلى 1614، أي من تاريخ سقوط غرناطة حتى قرارات الطرد الجماعي للمسلمين، وفق ما جاء في كتاب “دراسات أندلسية – مظاهر التأثير الإيبيري والوجود الأندلسي بالجزائر” لناصر الدين سعيدوني.
اختلفت هذه المراحل في ما بينها، فكان غرض الأولى التوسع التجاري وتحصيل العلم الديني ونشره، حيث أنشأ التجار الأندلسيون في هذه المرحلة مدناً على سواحل الجزائر لخدمة نشاطهم التجاري.
وشهدت المرحلة الثانية هجرة أفضل العناصر الأندلسية من الحواضر الكبرى، مثل قرطبة وإشبيلية وغرناطة، وتشابهت مع المرحلة اللاحقة في الأعداد الكبيرة للنازحين، لكنها اختلفت عنها في كون عناصرها أكثر ثراءًا وثقافةً، أما عناصر المرحلة الثالثة فهم الأكثر عدداً، وغلب عليهم الحرفيون والفلاحون والصناع والتجار، وعُرف هؤلاء باسم “الموريسكيين” أي المسلمين الذين بقوا بعد استسلام غرناطة، بحسب كتاب سعيدوني.
استقر الأندلسيون في المقام الأول في الجزائر، ثم تونس والمغرب، وهاجر البعض إلى ليبيا، والبلاد الإسلامية الأخرى، والعالم الجديد (الأمريكيتين)، وبعض دول أوروبا. وبشكل عام، استقبل سكان شمال أفريقيا الأندلسيين بالترحاب، خصوصاً في الجزائر خلال المرحلة الثالثة التي تزامنت مع الحكم العثماني للمنطقة.
لم تخلُ حياة الأندلسيين في شمال أفريقيا من مضايقات، إذ تعرضوا لهجوم القبائل، مثل هجوم قبيلة هبرة على مجموعة من اللاجئين الموريسكيين، إلا أن ذلك كان الاستثناء، إذ سرعان ما عُوقبت القبيلة على يد قبيلة سويد التي استنهضها شيوخ جزائريون لتأديب هبرة.
علاوة على ذلك، لم يملك جميع الأندلسيين رؤوس أموال لتوظيفها في الأراضي والمدن، فعانى بعضهم من ظروف صعبة، وفرض الوضع الجديد عليهم الكد في العمل، حتى وصفهم المؤرخ الجزائري المقري بقوله: “هم صينيون في إتقان الصنائع العلمية، وإحكام المهن الصورية”.
الحضور السياسي للأندلسيين
تميزت الهجرات الأندلسية في المرحلتين الأولى والثانية بالتفوق العلمي والثقافي والخبرات الإدارية الكبيرة للعديد من أفرادها، ووجود أُسر عديدة بينها من اضطلعت بمهام البلاطات الحاكمة في الأندلس، ما أكسبها خبرة كبيرة في إدارة وتنظيم شؤون الممالك.
وكان أبناء هذه الأسر قد وفدوا إلى شمال أفريقيا في وقت تشهد فيه المنطقة قيام وسقوط دويلات عدة بيد القبائل المحلية، من البربر/الأمازيغ الذين لا عهد لهم بشؤون الدول أو الإدارة.
بسبب الوضع السابق، رحّبت الدويلات الجديدة بالوافدين الأندلسيين، واستعانت بهم لتنظيم شؤون الدولة، وإدارة الأمور السياسية والمالية والثقافة والعلم.
ورصدت دراسة لعلي بن أحمد كرير، بعنوان “التأثيرات السياسية والاقتصادية للأندلسيين في مدينة بجاية خلال القرن السابع الهجري”، الدور الأندلسي في الدولة الحفصية، وعاصمتها تونس، والتي اتخذت من مدينة بجاية (تتبع دولة الجزائر الآن) عاصمة ثانية.
وكانت الدولة الحفصية (1229-1574) قد شجّعت الهجرة الأندلسية إليها، للاستفادة من خبرات الأندلسيين وعلومهم في بناء الدولة.
يقول كرير: “شارك الأندلسيون في تطوير الجوانب الإدارية والسياسية، وكان لهم نصيب موفور فيها؛ إذ سبق لأغلبهم توليها عندما كانوا في الأندلس، فأصبح تولي الحجابة والوزارة وإسناد التوظيف الإداري والقيام بالمهام الدينية والتعليمية في غالب الأحيان من نصيبهم”. حدث الشيء نفسه مع دولة بني زيان في الجزائر (1235-1554)، وعاصمتها تلمسان.
تميّزت الهجرات الأندلسية إلى شمال أفريقيا بالتفوق العلمي والثقافي، ووجود أُسر عديدة اضطلعت بمهام البلاطات الحاكمة في الأندلس، ما أكسبها خبرة استغلتها في بلدان كانت تشهد قيام دويلات عدة وسقوطها بيد قبائل لا عهد لها بشؤون الإدارة
اشتهرت عائلات أندلسية بتولي مناصب الوزارة والحجابة في دولة الحفصيين، ومنهم أسرة ابن خلدون الذي تولى مؤسسها في تونس أبو بكر الإدارة المالية، وأصبح ابنه محمد من كبار الحجاب، وظلت هذه الأسرة في مناصب الدولة الكبرى سواء في تونس أو بجاية أو تلمسان لفترة طويلة، وخلفهم أبناؤهم، خاصة في الوزارة والحجابة والكتابة، حتى أيام عبد الرحمن بن خلدون وأخيه يحيى.
ومن العائلات الأخرى، عائلة “سيد الناس” التي دعمت الحفصيين في السيطرة على بجاية عام 1285، وتولى أبو بكر بن الحسين سيد الناس الحجابة فيها، وعائلة “ابن أبي حسين” و"ابن غمز".
وفي تلمسان، ظهرت عائلات أندلسية منها “بني الملاح” وأسرة “الآبلي” التي اشتهرت في المجال العسكري، وأسرة “العقباني” التي تولت مناصب هامة في القضاء، وفق رسالة ماجستير – غير منشورة - بعنوان “الأندلسيون وتأثيراتهم الحضارية في المغرب الأوسط” لمحمد سعداني.
الحضور العسكري للأندلسيين
شاركت مجموعات صغيرة من الأندلسيين في تقسيمات الجيوش الحفصية، وفي الحرس الخاص للبلاط السلطاني.
وذكر علي كرير، في دراسته، أن فرقة أندلسية قوامها ألفَي فارس شاركت في جيش السلطان الحفصي المستنصر بالله، عام 1270، وتولى عدد من كبار الإداريين الأندلسيين قيادة الحملات العسكرية لصالح سلاطين المغرب العربي.
بدورها، شهدت البحرية في المغرب العربي تطوراً بقدوم البحارة الأندلسيين الذين ساعدوا في تطوير صناعة السفن والإبحار، وشاركوا في عمليات القرصنة المتبادلة مع الأوروبيين، وتولى الأندلسي محمد بن يحيى الأنصاري قيادة أسطول مدينة بجاية.
ساهم الأندلسيون أيضاً في إقرار الحكم التركي وتدعيم القوة الدفاعية للجزائر في وجه الأطماع الإسبانية والانتفاضات الداخلية، كما شاركوا في دعم خير الدين بربوس في معاركه ضد الحكام المحليين، واستخدمهم الأتراك في حاميات المدن. بموازاة ذلك، شيدوا أغلب حصون وقلاع المدن التي استقروا بها كقلعة شرشال وبعض حصون مدينة الجزائر.
في المغرب، اشتهر عدد من الأندلسيين في ولاية القضاء، ومنهم الفقيه أبو المطرف المخزومي الذي تولى الكتابة ثم قضاء مليانة.
بجانب ذلك، شارك بعضهم في جيش السعديين، وكونوا فرقة خاصة بهم، وتولى القائد الأندلسي المنظري الغرناطي، الدفاع عن شواطئ المغرب من قبل السعديين، فكوّن جيشاً من الموريسكيين والقبائل والأسرى المسيحيين حارب بهم الإسبان والبرتغاليين. وتشكلت منهم القوة الأساسية للجيش المغربي في حملته على السودان الغربي، عام 1591، وكان قائد الحملة منهم، ويدعى جودار.
استقلت جماعات من الأندلسيين بحكم عدد من القرى والمدن التي رحلوا إليها، وكانت مهجورة قبلهم. ومن ذلك “جمهورية سلا” (1624-1668)، عند مدخل وادي نهر بورقراق في المغرب، قرب مدينة سلا، وعاصمتها الرباط، وأسسها 3 آلاف مهاجر موريسكي، بعد طردهم من مدينة هورناشوس في إسبانيا، وانتهت الجمهورية بضم ملوك المغرب السعديين لها.
تميز الأندلسيون عن المغاربة بمعرفتهم بالتنظيم البلدي الذي وُجد في إسبانيا وأوروبا، ما سهل لهم إنشاء جمهورية سلا، أو إدارة أماكن تجمعهم بشكل شبه مستقل في بعض الأحيان، إلا أن ذلك جلب عليهم عداوة الحكام.
لعب المهاجرون دوراً كبيراً في القرصنة البحرية ضد السفن والمدن الأوروبية في غرب المتوسط، مدفوعين برغبتهم الشديدة في الانتقام من الإسبان، واشتهر من بينهم عدد من رياس البحر (القباطنة)، ومنهم بلانيكو، وأحمد أبو علية الأشبوني، ومراد الكبير جواد يانو.
نهضة عمرانية أندلسية
أسهم النازحون الأندلسيون في نهضة المغرب العربي عمرانياً بشكل ملحوظ، إذ وفدوا بأعداد كبيرة تصل لمئات الآلاف خلال قرون النفي، فنزل بعضهم في الحواضر العامرة، وتوجه أغلبهم إلى المدن والقرى التي خلت من السكان، بفعل تناقص سكان المغرب العربي كافةً، فأعادوا إحياءها، وجددوا مبانيها وفق العمران الأندلسي الذي جمع بين العناصر العربية والأوروبية، ومن ذلك مدن مرسى الدجاج، ومدينة المسلية، ومدينة بجاية، ووديان وسهول سهل متيجة في الجزائر.
وشيدوا مدناً وقرى عديدة خصوصاً في الجزائر، ومنها وهران التي أسسها محمد بن أبي عون ومحمد بن عيدون الأندلسيَين، بمساعدة العشائر المحلية القريبة من المنطقة، ومدينة تنس، ومدينة القليعة ومدينة البليدة.
في كتابه، يقول سعيدوني: “كان للهجرة الأندلسية إلى الجزائر انعكاس إيجابي على الحالة العمرانية التي شهدت بفضل استقرار العنصر الأندلسي نمواً ملحوظاً، وتطوراً لم تعرفه الجزائر منذ العهد الحمادي، إذ نلاحظ أن هناك نهضة عمرانية ترتسم ملامحها ابتداءً من مطلع القرن الخامس عشر تشمل بالخصوص إنشاء مراكز حضرية، وإعادة بناء المدن والقرى التي أصابها الاضمحلال”.
كان للأندلسيين انعكاس إيجابي على الحالة السياسية والزراعية والتجارية والفنية في الدول التي استقروا فيها بعد طردهم من الأندلس عام 1609، كما شاركوا في القرصنة ضد السفن والمدن الأوروبية غربي المتوسط، مدفوعين برغبتهم في الانتقام من الإسبان
ساعد على ذلك حيازة العديد من الأندلسيين لرؤوس أموال كبيرة، استثمروها في العقارات والتجارة، فامتلكوا الدور، وشيدوا المساجد والمكتبات، إذ كان لهم في مدينة شرشال الجزائرية 12 ألف منزل، ليشكلوا أغلبية السكان.
نالت مدينة الجزائر نصيباً وافراً من التنمية العمرانية الأندلسية، تحديداً بعد اتخاذها، منذ عام 1529، عاصمة من قبل الأتراك الذين شجعوا الهجرة الأندلسية إلى المدينة، فتضاعف عدد سكانها بقدومهم، وشكلوا طبقة أساسية من السكان.
صاحب النمو العمراني كذلك قيام الأندلسيين بإنشاء المرافق العامة وإنشاء السواقي وجلب المياه إلى المدن والقرى وتنظيم الري، وكان حظ مدينة الجزائر من هذه الأعمال وافراً، بعدما اكتشفوا العيون في ضواحي الجزائر وجلبوا مياهها عبر القنوات، بحسب سعيدوني.
حياة مزدهرة اقتصادياً
يتشابه الدور الاقتصادي للأندلسيين في جميع مناطق شمال أفريقيا، حيث حازت الزراعة على القسط الأكبر من نشاطهم، تليها التجارة ثم الصناعة.
يقول سعيدوني في كتابه: “نتج عن استقرار العنصر الأندلسي في البلاد الجزائرية نشاط اقتصادي غير معهود، برز في مختلف المجالات الاقتصادية من زراعة وصناعة وتجارة وخدمات”.
في الجزائر استصلح الأندلسيون مساحات شاسعة من الأراضي في ضواحي متيجة ومرتفعات الساحل وجهات شرشال ونواحي وهران وتلمسان وعنابة، فأصبحت سهول متيجة ومرتفعات الساحل القريبة من مينة الجزائر تشتهر بزراعة الأشجار المثمرة كحب الملوك (الكرز)، والإجاص والتفاح والبرتقال والعنب، وغرس شيخ الأندلسيين مصطفى قردناش الذي استقر في عنابة 30 ألف شجرة زيتون، واستخدم مردود الأراضي في افتداء الأسرى المسلمين من الإسبان، وفق سعيدوني.
تتمثل أهم إنجازات الأندلسيين الزراعية في اكتشاف مصادر المياه، وإنشاء نظم الري، وإدخال محاصيل جديدة، منها التوت الأبيض والأسود والأرز والقطن والفلفل والبطاطس والطماطم والباذنجان والزعفران والسبانخ والكراث والكرنب واللارنج، وتحسين جودة المحاصيل الموجودة.
كما اشتهروا بزراعة الخضروات في المناطق الزراعية القريبة من المدن، وتميزوا بإتقان فن البستنة، فأنشأوا الكثير من البساتين لإنتاج الفواكه، وخصوصاً العنب الذي صنعوا منه الخمور.
بفضل وجود مهندسين بينهم، تفوق الأندلسيون في استخراج وتنظيم المياه للزراعة، وأقاموا الأحواض والصهاريج ومدوا السواقي والقنوات والقناطر والنوريات (الناعورات)، وعلى أيديهم عرف المغرب الناعورات. وشيدوا أعمال هندسية كبيرة في مجال جلب المياه عبر قنوات تبعد 4 كم أو أكثر إلي مدن الجزائر والبليدة وغيرها.
في الصناعة أنشأ الأندلسيون المشاغل والورش لمزاولة مختلف المهن والصناعات كالحدادة والنجارة والخياطة ومعالجة الخزف والجلد والحرير والتطريز والصباغة، وقد اشتهرت مصانع الحرير الأندلسية بجودة إنتاجها. ومن الصناعات المستحدثة على أيديهم، نسيج القطيفة “المخمل” التي اختص بها مهاجرو غرناطة، وصناعة الشبيكة التي صنعوا آلات خاصة لها لم تعرفها الجزائر قبلهم.
يعود الفضل لهؤلاء كذلك في تحسين صناعة الأسلحة وتحضير البارود وتطوير صناعة السفن بموانئ الجزائر وشرشال وبجاية، حيث صنعوا نوعاً محلياً من البنادق، وأقاموا فرناً لصهر النحاس في مدينة الجزائر، واستخدموه في صناعة الأواني وصناعة المدافع، وأنتجوا نوعاً من الفولاذ لم يكن معروفاً قبلهم لصناعة البنادق، وفق سعيدوني.
تجارياً، تفوّق الأندلسيون على سكان شمال أفريقيا بحكم علاقاتهم القديمة في أوروبا، ومعرفتهم بشؤون التجارة، وإجادتهم للغات أوروبية، بجانب امتلاكهم لرأس المال. وأدت ثرواتهم التي كانت بالعملة الإسبانية إلى شيوع التعامل بها في شمال أفريقيا.
واستثمر التجار الأندلسيون رؤوس أموالهم في تجارة بيع الأسرى المسيحيين، وتمويل مشاريع القرصنة البحرية، مقابل الحصول على حصة من الغنائم، وظل ذاك النشاط المورد الأول للثراء في الجزائر وتونس حتى نهاية القرن الثامن عشر.
يقول سعيدوني في كتابه: “شكّل أفراد الجالية الأندلسية بالجزائر طبقة برجوازية المدن الساحلية التي لم تكن موجودة من قبل حلولهم بالبلاد، بعد أن احتكروا بعض الصناعات والتجارة”.
ثراء ثقافي وعلمي وفني
أثرى الوجود الأندلسي الحياة الثقافية والعلمية والفنية في شمال أفريقيا، خصوصاً في الهجرات الوافدة من الحواضر الكبرى مثل إشبيلية وقرطبة وغرناطة، فكان من بينهم الفقهاء، والأطباء، والخطاطين والكتاب والمترجمين والأدباء.
وتُمثّل الترجمة أهم منجزاتهم الحضارية، بفعل إتقان الكثير منهم للغتين العربية والإسبانية. ومن أعلامهم في المغرب، الطبيب يوسف الحكيم الذي ترجم في الفلك، والطبيب علي الأندلسي. ومن المترجمين أيضاً الخياري بيخرانو، وخوان ألفونسوا أراغوان، وفق ما جاء في كتاب “حياة الموريسكوس الأخيرة بإسبانيا ودورهم خارجها” لمحمد قشتيليو.
فضّل عدد قليل من الأندلسيين العودة إلى إسبانيا، واختاروا التنصّر على سوء المعاملة التي لاقوها في شمال أفريقيا، إلا أن الأغلبية العظمى بقيت، وظلت محتفظة بأسلوب معيشتها الذي اختلف عن حياة السكان المحليين.
وأنشأ الأندلسيون المهاجرون زوايا ومعاهد لتدريس العلوم اللغوية والدينية وبعض المعارف العصرية كالحساب والفلك والمنطق والطبيعة والتاريخ، ومنها زاوية أهل الأندلس بمدينة الجزائر، وزاوية سيدي أحمد الكبير الأندلسي في البليدة، وزاوية سيدي علي بن مبارك بالقليعة، كما أسسوا عدة مكتبات، منها مكتبة القصبة في الرباط.
في الموسيقى والغناء، كان لهم دور كبير في إدخال أنماط موسيقية جديدة ومنها “الآلة” أو الموسيقى الأندلسية، والتي تعتمد الأداء الآلي القائم على الوتريات والصدميات، ونمط الطرب الغرناطي الذي يتميز بالنفس الحزين والإيقاع البطيء وارتبط بمآسي الطرد.
بشكل عام، تغيّرت الموسيقى في شمال أفريقيا بفعل التوافد الأندلسي، وفق دراسة بعنوان “التأثير الموريسكي في الطرّب المغربي” لعباس الجراري، حيث أغنى الحضور الأندلسي اللغة العربية في شمال أفريقيا، بما امتازوا به من لهجة عربية حضرية تتميز برقة المخارج وسهولة التلفظ، وغناها بالمفردات والعبارات، ومن ذلك قلب القاف إلى ألف، وإدخال مفردات إسبانية عديدة إلى العربية.
هكذا، ساعدوا بلهجتهم الخفيفة على انتشار اللغة العربية في المناطق التي استعملت اللهجة الأمازيغية في نواحي شرشال ودلس وتنس وبجاية.
آثار اجتماعية وديموغرافية
خلّف النزوح الأندلسي تأثيرات عديدة في شمال أفريقيا، تباينت من بلد لآخر، على حسب عدة عوامل منها نوعية المهاجرين، وطبيعة السلطة، وطبيعة السكان المحليين وعددهم. ففي الجزائر عرف الوجود الأندلسي ترحيباً واسعاً، ومشاركة فعالة في مختلف الأنشطة الاقتصادية، وسكن الأندلسيون المدن والريف بحرية، نظراً لوجود نقص سكاني كبير في المنطقة، ما وفر لهم مساحات شاسعة من الأراضي لتعميرها، بجانب ترحيب السلطة بهم من سلاطين تلمسان ثم الأتراك.
يقول سعيدوني: “بفعل التوافد الأندلسي المكثف تمكنت المناطق الساحلية من المغرب الأوسط (الجزائر) من التغلب على الانهيار الديموغرافي الذي تمثل في قلة السكان وإفقار الريف واضمحلال المدن”.
في المغرب، اختلف الوضع نتيجة وجود سلطة دائمة، وكثافة سكانية في الريف، فحصل صدام بين الفلاحين المغاربة والفلاحين الموريسكيين. لم يكن استقبال المهاجرين بعد عمليات الطرد، عام 1609، بنفس الترحاب الذي حصل عليه سابقوهم في المغرب، بسبب التشابه الكبير بين حياة الأندلسيين المتأخرين وحياة الإسبان، ما جعل أغلب المغاربة يحسبونهم من المسيحيين، ويعاملونهم وفق ذلك، ويشكّون في ولائهم.
فضّل عدد قليل من الأندلسيين العودة إلى إسبانيا، واختاروا التنصّر على سوء المعاملة التي لاقوها في شمال أفريقيا، إلا أن الأغلبية العظمى بقيت، وظلت محتفظة بأسلوب معيشتها الذي اختلف عن حياة سكان شمال أفريقيا بشكل كبير، ومع مرور الوقت ذاب الأندلسيون بشكل تدريجي في المجتمعات المحلية، حتى ذابوا فيها بشكل شبه كامل مع بداية القرن التاسع عشر.
يتحمل الأندلسيون جزءاً من المسؤولية عن المشاكل التي واجهتهم في شمال أفريقيا بسبب تعالي الكثير منهم على السكان المحليين، وشعورهم بالتفوق الحضاري عليهم، إذ لم يتزوجوا منهم، وحرصوا على الانعزال في جماعات خاصة بهم، إلا أن الفروق تضاءلت مع الوقت، وساعد على ذلك فقدان الأندلسيين لثرائهم بفعل التخلف الاقتصادي الذي عرفه شمال أفريقيا منذ القرن الثامن عشر.
حقوق النشر
تم نقل هذا المقال بهدف تربوي وبصفة غير تجارية بناء على ما جاء في الفقرة الثانية من الفقرة 5 من شروط استخدام موقع رصيف 22 الإلكتروني على الموقع الإلكتروني “رصيف 22” :
... علماً أن الموقع يحترم، بالقدر الذي نقتبس فيه المواد من حين لآخر من مصادر أخرى بغية دعم مختلف التفسيرات والمؤلفات الواردة في هذا السياق، حق الآخرين في “الاستخدام العادل” للمواد التي يتضمنها الموقع؛ وبناءً على ذلك، فإنه يجوز للمستخدم من حين لآخر، اقتباس واستخدام المواد الموجودة على الموقع الإلكتروني بما يتماشى مع مبادئ “الاستخدام العادل”.