الثلاثاء، ٢٧ مارس/ آذار ٢٠١٨
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
«حكاية السندباد» بحسب ناقد فرنسي : يوم لم تكن تستفزّ السهارى العرب
كان ذلك في أواسط ثمانينات القرن العشرين، حين بدأ ستار سميك من دخان الظلمات الأسود يهبط على الحياة الاجتماعية العربية على شكل ممنوعات ومحظورات و «محاكم تفتيش» جديدة تتوزع عقدها للمبدعين ولشؤون الثقافة والفكر والإبداع بصورة عامة، فئات اجتماعية عريضة تمارس رقابة أين منها رقابة السلطات، وسلطات تريد أن تساير تلك الجماعات. يومذاك حدث أن صدرت في باريس ترجمة فرنسية كاملة قام بها العربي الحلبي رينيه خوام لرحلات السندباد السبع، مع شروح وهوامش... وكان صدور الترجمة مناسبة للحديث عن ألف ليلة وعن السندباد، بخاصة عن قضية تتعلق بمنع صاخب طاول صدور طبعة قاهرية جديدة من كتاب «ألف ليلة وليلة». وكان كلود ميشال كلوني واحداً من الذين كتبوا عن هذا الموضوع فقال: «لا علاء الدين وفانوسه السحري، ولا علي بابا ومغارته والأربعون حرامي، ولا السندباد، التاجر البحار من بغداد، لهم علاقة بحكايات شهرزاد. فأي منهم لم يسبق له أن شاطر لياليها الحياة... لكن مغامراتهم هي من الجمال، ولقاءاتهم ومآثرهم من الغرابة بحيث لم يتردد المترجمون ولا الناشرون، عن توحيد الليالي وبقية الحكايات في مصهر واحد».
وفي مقدمة أولئك المترجمين، وكما فعل الأرجنتيني بورخيس في نص نشرته هذه الزاوية قبل أيام، يضع كلوني - الذي كان معروفاً في الحياة الثقافية الفرنسية كروائي وناقد سينمائي وضع قبل ثلث قرن من الآن، واحداً من أوفى القواميس حول السينما العربية ومبدعيها-، وضع مواطنه انطوان غالان، الذي لا تزال ترجمته لليالي (بين 1704 و1712) تسحرنا حتى اليوم، في مركز الريادة من اكتشاف الغرب للسندباد وذلك حتى من قبل أن يكتشف «ألف ليلة وليلة»... وكان ذلك، كما أكد كلوني مبكراً، في طبعة مجتزأة تحتوي على ست رحلات يقوم بها التاجر الساحر، لا على سبع رحلات. أما الدافع الذي أدى الى محو الرحلة السابعة، برجالها الطائرين، من دون أن يدرك غالان عن هذا الأمر شيئاً، هذا الدافع لا يزال مجهولاً حتى اليوم.
وإذ أوضح الناقد والكاتب الفرنسي هذا الواقع، تابع يقول بصدد الترجمة الصادرة حديثاً يومذاك لرحلات السندباد: «اليوم تأتي ترجمة رينيه خوام لرحلات السندباد. أولاً لتضع الرحلة السابعة في مكانها، ثم لتشدد على كل ما من شأنه – في الرحلات – أن يرسو في أعماق المخيلة، ويرسخ من حضور الرحلات السندبادية في التاريخ، مثل الحديث عن نظام الرياح، والتيارات التجارية في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد علماً بأن رحلات السندباد يمكن أن تكون قد حدثت بين العام 781 والعام 835 من التاريخ الميلادي. «أيامذاك كانت التبادلات التجارية تمتد حتى ما يسمى اليوم بإندونيسيا، ومن أفريقيا الشرقية الى اليابان... في عهد كان يعتبر واحدة من أكثر لحظات الحضارة العربية ازدهاراً».
وبعد هذه الإشارة التي رآها كلوني ضرورية وتفي أنطوان غالان وبالتالي المترجم خوام حقهما، يرى أن «أناقة أسلوب غالان تكمن في كونه يعطينا نصاً يجعلنا مرتاحي الضمير بعد أن ننسى بأنه قد عمد الى محو كل ما هو إباحي في «الليالي»...». ومن الواضح هنا أن المعلق المعاصر إنما يعزو «غياب» الرحلة السابعة عن المجموعة إلى ما سيتبين بعد استرجاعها من كونها تتسم بإباحية كانت كما يمكننا أن نستنتج، مباحة في النصوص العربية وممنوعة في النص الأوروبي الأول: فالزمن الذي ترجم فيه العمل، كما يحاول كلوني أن يقول لنا، «كان زمن لويس الرابع عشر المطالب بمزيد ومزيد من الحشمة». والحقيقة أن هذه الملاحظة التي يوردها كلوني على هذه الشاكلة من شأنها أن تأتي لتذكرنا بأمر ليس بعيداً كثيراً من هذا. فقبل عقدين تقريباً من الفترة التي صدرت فيها ترجمة رينيه خوام لرحلات السندباد، وكان ذلك أواسط ثمانينات القرن العشرين، صدرت في فترة متقاربة ترجمتان جديدتان لألف ليلة وليلة: إحداهما قام بها رينيه خوام نفسه في العام 1967 (منشورات آلبين – ميشال) وهي ترجمة تكشف عن كل شيء من دون حذر بما في ذلك المشاهد والصفحات التي كان رقباء كثر في العالم قد استبعدوها؛ والثانية ترجمة آرمل غيرن، الشاعر وصاحب النزعة الإنسانية (منشورات النادي الفرنسي للكتاب). فإذا كانت الأشياء في ترجمة خوام تسمى صراحة بأسمائها، مهما كانت القبعة التي تغطيها، فإن غيرن استبعد في ترجمته كل ما عاد بعد ذلك وأثار حفيظة الشرطة القاهرية وحفيظة المتشددين في مصر وفي غيرها: كما أن هذا المترجم غض النظر كذلك عن الأشعار التي تملأ الليالي، بعد أن رأى استحالة إيجاد معادلات لها في الفرنسية. وهكذا كان.
وإذا كانت مثل هذه القضايا الشكلية لا تتطلب في القاهرة حلاً... لأنها لا تشكل قضية في الأساس، فإن القاهرة عرفت مشاكل أخرى تتعلق بنشر الليالي لا علاقة لها بالشكل، مشاكل تذكرنا بما كانت قد فعلته المحاكم الفرنسية قبل عشرين عاماً، حين أدانت الناشر الذي تجرأ على نشر النصوص الكاملة لأعمال المركزي دي ساد... ولنلاحظ في هذا المجال أن واحدة من أولى الطبعات العربية الحديثة لكتاب «ألف ليلة وليلة»، أي طبعة بولاق التي أنجزت ببولاق في القاهرة، أدخلت عليها تعديلات مخففة في العام 1834 أمام أعين المتشددين الشكاكة. وبعد ذلك بقرن من الزمان ونصف قرن، تمت في القاهرة مصادرة طبعة لبنانية من «ألف ليلة وليلة»، وذلك استجابة لدعوات أطلقها عدد من الكتاب الاصوليين: وهكذا تم إحراق وتدمير ثلاثة آلاف نسخة من تلك الطبعة اللبنانية «لأنها تسيء الى الأخلاق العامة»... وبعد ذلك وضعت قيد التداول طبعة اخرى جديدة أطلق عليها صفة «طبعة خاصة»... جاءت كثيرة المحذوفات مخففة اللهجة. وعن هذا الأمر يقول صانعو هذه الطبعة الجديدة: «نعم ما كان يجب أبداً المجازفة بإفساد الشبان».
صحيح ان كبار الكتاب في القاهرة احتجوا على كل ذلك، واحتجوا بصخب وعنف، لكن كل ذلك الاحتجاج لم يجدهم نفعاً... ولا حتى واقع ان القاهرة، بفضل تلك القضية بالذات بدت فجأة وكأنها واحدة من المدن التي يسود فيها التعصب والتشدد لدى مناضلين من نوع جديد – «تعصب وتشدد يجعلان الموسيقى مدانة في طرابلس الغرب، والكتب تحرق بالعشرات في طهران» بحسب ما يضيف كلود ميشال كلوني الذي ينتهز الفرصة للحديث عن الرقابات التي كانت تتفاقم في العديد من بلدان الشرق في ذلك الحين. وهو انطلاقاً من هذا، إذ تحدث بقدر لا بأس به من الثناء على ما فعله رينيه خوام في ترجمته لحكايات السندباد كاملة، لم يفته أن يشير الى أن «الإباحية» التي يمكن الحديث عنها بصدد حكايات السندباد، أو بصدد حكاية واحدة منها على الأقل، ستبدو لعبة أطفال مقارنة بما في «ألف ليلة وليلة». ومع هذا يذكّر كلوني بأن كتاب ألف ليلة وليلة في بعده الحكائي الشعبي حين كان يرويه الحكواتيون العرب وغير العرب في ليالي السمر أمام أعداد كبيرة من المتحلقين المستمعين بشغف وتنبه، لم يكن يمنع أولئك المستمعين أنفسهم من أن يكونوا واسعي الإيمان يؤدون صيامهم وصلواتهم، ولا يجدون مغبة في الإستماع الى حكايات تفتنهم ولا يتوقفون طويلاً باستغراب أو باستنكار، عند مشاهدها التي استفزت العقول الغربية في طول أوروبا وعرضها في الأزمنة نفسها تقريباً!
ومهما يكن من أمر نعود هنا للتوقف عند نصّ كلوني لنقرأه وهو يقول: «(...) إن قضية «ألف ليلة» (التي يذكرنا بها كتاب «سندباد» بترجمة خوام) تجعلنا نتذكر أن كل شيء يبدو مثيراً للشبهات في أعين المتعصبين... بل ويبدو أن اكثر ما يثير الشبهات إنما هو نفس ذلك الشيء الذي اعتاد ان يبرهن على ان بإمكان الحضارة الاسلامية الزاهية والمبدعة، ان تنفتح على الاختلاف والتقدم». ومن هنا، يضيف كلوني، نرى كيف يستبد الإحساس بالظلم لدى محبي الثقافة العربية والشرقية، تجاه فداحة ما يحدث بالنسبة الى هذا الكتاب الرائع، كتاب ألف ليلة وليلة، الذي لا يكف عن تمجيد حب الحياة والفضول لمعرفة كل شيء، وذكاء هذا العالم الذي نعيش فيه، حيث تضربه سياط الذين يحبون العتمة». ويختم كلوني هذا النص الغاضب بقوله: «في زمنه، التقى سندباد البحار بالكثيرين من محبي العتمة... لكن هذا الرجل ذا النصح الثمين، كان قادراً على إنارة كل العتمات... لذلك لن نندم أبداً، على أي حال، إذا ما ركبنا معه سفينته وشاركناه في الرحيل».
إبراهيم العريس
جريدة الحياة
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.