ثروة من البادية، الدكتور ريموند فارين دار الفراشة - الكويت

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٧ فبراير/ شباط ٢٠١٥
جريدة الحياة
مصطفى عبدالله


تلاحم الشعر العربي القديم وتفككه


في لفتة ذكية وموضوعية في آن، يفرق المستعرب الدكتور ريموند فارين، مؤلف الكتاب المعنون «ثروة من البادية» (دار الفراشة– الكويت)، بين تعبيري «العصر الجاهلي» و «عصر ما قبل الإسلام» عندما تناول الشعر الذي يعود نظمه إلى ما بين عامي 500 و1258 الميلاديين، وهو ما يعني أيضاً أنه تناول بعضاً مما أُنشد منه في صدر الإسلام، وفي العصرين الأموي والعباسي.

يقول المؤلف، الذي يعمل أستاذاً في الجامعة الأميركية بالكويت وتخرج في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية ودرس اللغة العربية في جامعة كاليفورنيا، قبل أن ينال شهادة الدكتوراه منها في العام 2006، في أحد هوامش مقدمة كتابه: «آثرنا تسمية (عصر ما قبل الإسلام) على تسمية (العصر الجاهلي) تقديراً لقيمة العرب في هذا العصر وثقافتهم البينة».

ولطالما اعتبر العرب أن الشعر هو إنجازهم الثقافي العظيم الدال على بلاغتهم، التي تميّزوا بها على غيرهم من شعوب العالم، حتى أن جرجي زيدان عندما تحدث عما تمتاز به الأمم وحضاراتها قال: «... امتاز اليونان بالفلسفة والشعر القصصي والتمثيلي، وامتاز الرومان بوضع الشرائع والنظم السياسية والاجتماعية، وامتاز الهنود بوضع القصص الخرافية على ألسنة الحيوان، أما العرب فملأوا الدنيا شعراً».

ومع ذلك، تعرضت القصيدة العربية القديمة إلى هجوم من النقاد المستشرقين خلال القرن ونصف القرن الماضي، حيث -وفق تعبير ريموند فارين- «اتُّهمت بالتفكك، وفي بعض الأحيان بالرتابة والتصنع»، فقد علق النحوي الألماني ويلهلم أهلواردت عام 1856، على القصيدة العربية قائلاً: «إنها ليست وحدة متكاملة أبداً».

وأصبح عادياً وسائراً بين المستشرقين، أن القصيدة العربية لا تتسم بالتلاحم، ما أدى إلى تخليق مصطلحات لتوصيفها، مثل «ذرية» أو «نووية»، فقد ورد في الطبعة الأولى لموسوعة الإسلام عام 1934، أن «الشعر العربي في جوهره نووي، فهو سلسلة أقوال متفرقة قابلة للتراكم لكنْ غير قابلة للجمع والانسجام». والغريب هو تأكيد المؤلف أن هذا «الحكم» الصادر عن الغرب لقي تقبلاً من عدد من النقاد العرب، بل ظل هذا الحكم يتردد في الأوساط العلمية حتى سبعينات القرن الماضي، وهناك رجْعٌ لصداه لا يزال يتردد حتى عصرنا هذا، فجيرت فان جيلدر، أستاذ الأدب العربي في جامعة أكسفورد في بريطانيا، هو من أبرز مؤيدي النظرية الذرية، إلا أنه يفهمها بموضوعية، حيث لا يلوم الشعر العربي القديم على عدم تلاحمه، حيث ينقل عنه المؤلف «أنه يرى أن القصائد العربية القديمة لم تكن تهدف الى التلاحم أصلاً... بل أنه دعا إلى الكف عن المطالبة بوجود الوحدة العضوية تلك في الشعر العربي القديم، وطالب بأن نترك هذه القصيدة تتفكك، مصرّاً على أنها لا تزال قابلة للتقدير على رغم عدم ترابطها».

ويضيف في مقالة قارن فيها بين متعة قراءة قصيدة متفككة ومتعة تناول طعام متعدد الأصناف، أنه سواء قرأ المرء هذه القصيدة أو تناول الطعام المتعدد الأصناف فإنه لا يتأمل الكل، ولا يقارن بين ما قد مضى وما هو موجود وما هو قادم، وإنما يتلذذ بكل جزء على حدة، ولذلك يدعونا فان جيلدر إلى أن نجلس ونسترخي ونستمتع بما يقدم لنا، من دون الإفراط في التأمل.

على أن هذا الحكم بات قابلاً للنقض منذ سبعينات القرن الماضي، فقد اهتم عدد كبير من الباحثين، منهم ريموند شيندلين، وكمال أبو ديب، وعدنان حيدر، وأندراس هاموري، وستيفان سبيرل، وجيمس مونتغمري، وجولي ميسامي، وياروسلاف ستيتكيفيتش، وسوزان ستيتكيفيتش، وجيمس مونرو بدراسة الشعر العربي القديم من جديد، على ضوء نظرة تهتم بالقصيدة كلاً ولا تنصبّ على البيت في شكل منفصل، ليكتشفوا أنها تتسم بقدر كبير من التلاصق والانسجام.

ويحاول المؤلف، عبر هذا الكتاب، إثبات وجهة النظر الجديدة هذه، ليصل إلى أن الشعر العربي القديم يتمتع بالوحدة العضوية، من خلال النظر إلى هيكله الذي يعتمد على النظم الدائري، وهو أسلوب النظم الأكثر انتشاراً في هذا الشعر، فيركز على قصائد معينة ذات أهمية في التراث، مثل معلقة امرؤ القيس، ولامية العرب للشنفرى، ومعلقة لبيد، وثلاث قصائد رثاء للخنساء، وقصيدة غزل لجميل، وقصيدة هجاء لجرير، وخمرية أبي نواس، وقصيدة مديح لأبي تمام، ومثلها للمتنبي، وغزلية لابن زيدون، وقصيدتي زجل لابن قزمان، وخمرية صوفية لابن الفارض، وقصيدة تصف تجربة تاجر للبهاء زهير.

وحرص المؤلف، خلال هذه الدراسة القيمة، على عدم الانجراف في اتجاه تيار تأويل خاص يؤدي إلى قراءات لا تعني سوى شخص واحد، بل سعى -وفق تعبيره- قدر المستطاع إلى ذكر سياق الشاعر التاريخي والأدبي، وأن يقرأ كل قصيدة متعاطفاً مع شاعرها.

واستهدف المؤلف ثلاثة أغراض أساسية، أولها السعي إلى توفير مقدمة شاملة للشعر العربي القديم، وثانيها توسيع نطاق الرؤية وتقديم القصائد في ضوء أشمل، بحيث يسهل على القارئ المقارنة بين الحضارات، آملاً في ألا يُنظر إلى القصائد باعتبارها تراثاً فذاً منفصلاً عن سجل الإنسانية، بل جزءاً لا يتجزأ من تراث واحد عظيم متعدد الثقافات، وثالثاً يحاول أن يضيف إلى الحوار الذي يدور حول موضوع التلاصق، وأن يشارك في دفن ذلك المعتقد الغريب الذي يقول بعدم تلاحم الشعر العربي القديم.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)