تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، البيروني، أدب

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الثلاثاء، ١٦ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٤
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«تحقيق ما للهند من مقولة» البيروني : المقارنة الظالمة


«... ولم يكن للهند امثالهم ممن يهذب العلوم، فلا تكاد تجد لهم خاص كلام إلا في غاية الاضطراب وسوء النظام ومشوباً، في آخره خرافات العوام من تكثير العدد وتمديد المدد ومن موضوعات التخيلة التي يستفظع اهلها فيها المخالفة، ولأجلها يستولي التقليد عليهم. وبسببه اقول في ما هو بابتي (غايتي) منهم أني لا أشبه ما في كتبهم من الحساب وعلوم التعاليم إلا بهدف مخلوط بخزف... إذ لا مثال لهم لمعارج البرهان، وأنا في اكثر ما أورده من جهتهم حاك غير منتقد إلا عن ضرورة ظاهرة». بهذه العبارات الواردة منذ الصفحات الأولى لكتابه الشهير «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» يحدد المفكر والكاتب المسلم ابو الريحان البيروني منذ البداية، هدفه مؤكداً انه إذ زار الهند وكتب عنها، آثر ان يكون موضوعياً في ما يصفه وألا ينتقد إلا «عن ضرورة ظاهرة». غير ان البيروني، بالطبع، لم يف بوعده هذا، لأن معظم ما في فصول كتابه انما ينطلق من مقارنات بين ما يشهده بأم عينيه في هذا العالم الغريب عليه الذي لم يكن له، أو لمواطنيه، عهد به، وبين ما هو قائم في ديار الإسلام نفسها. ولسنا في حاجة الى القول هنا، طبعاً، ان المفاضلة تكون دائماً لمصلحة ديار الإسلام، وهو امر لم يفت البيروني ان يقرره منذ عنوان كتابه، حتى ولو ان الفقرة التي سقناها اعلاه تقول عكس هذا. فهذا العالم /الكاتب/ الرحالة يفيدنا منذ العنوان، بأن ما يصفه لنا انما هو تحقيق ما يمكن ان يقال عن الهند (وما يمكن ان يشاهد فيها) ولكن عبر فرز ما هو معقول مما هو مرذول. والحال ان ما هو مرذول سيكون في سياق الكتاب كثير. ولكن هل حقاً، يقف نص البيروني ضد ما هو مرذول، ام ان وصفه لهذا «المرذول» يحمل احياناً شيئاً من «التواطؤ الضمني» الخفي، يشي بما يريده البيروني لأمته ويراه عند الآخر، لكنه لا يجرؤ تماماً على الجهر بلزومه فيتحدث عنه مواربة؟

إن الوصف الذي يقدمه لنا ابو الريحان البيروني لذلك العالم الفسيح الذي قُيّض له ان يشاهد بعض اجزائه، يشي بأن الواصف لم يكن رحالة عادياً، على غرار ابن بطوطة أو ابن جبير، او حتى على غرار ابن فضلان، فهو نظر الى الهند نظرة العالم والفيلسوف والرياضي والفلكي والجغرافي والمؤرخ. ولعل العالم فيه غلب على صفاته الأخرى، إذ اننا سرعان ما نراه ينهل من العلوم التي لاقاها وسمع عنها، واختبرها في الهند... وهي كلها علوم مفيدة. بيد ان البيروني، اذ يقرر فائدة هذه العلوم لا يفوته ان يشجب، في طريقه، بعض اساليب الحياة في الهند، ومعظمها يتعارض دينياً وروحياً مع تعاليم الإسلام.

وعلى هذا يكون ابو الريحان من اوائل المفكرين المسلمين الذين رأوا دائماً - وبصورة قد تبدو لنا اليوم انتقائية بعض الشيء - ان في الإمكان اقتباس امور من حضارة ما، وترك امور اخرى، على اعتبار ان ثمة انفصالاً بين تلك الأمور. وهي النظرة ذاتها التي سيقول بها مفكرو عصر النهضة الإسلامية والعربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حين يطالبون بأخذ علوم الغرب وتقدمه التقني، من دون اقتباس اخلاق هذا الغرب وعاداته الاجتماعية.

لقد زار ابو الريحان البيروني الهند مرافقاً السلطان محمد الغزنوي في غزواته الى شماليها الغربي. وفي الهند تعلم اللغة السنسكريتية اضافة الى عدد من اللهجات واللغات الرائجة في شبه القارة، واطلع على علوم الهند وفنونها، ولم يتردد دون دراسة الديانات الهندية والفلسفات الرائجة هناك، قارئاً عنها بلغاتها الأصلية، فكان واحداً من مفكرين مسلمين نادرين أُتيح لهم ان يعرفوا الهند وثقافتها، مباشرة، وليس بالواسطة، وهذا ما يعطي ما يقوله عن الهند صدقية كبيرة. ومع هذا يظل توخي الحذر ضرورياً في التعامل مع كل التأكيدات التي يوردها البيروني حين يتحدث عن الحياة الاجتماعية والطقوس الدينية لدى شعوب ذلك الجزء من العالم. وفي المقابل، يمكن التوقف طويلاً عند العلوم التي اطّلع عليها البيروني عند ذلك الآخر، ووصفها بالتفصيل في كتابه هذا، ثم عاد لاستخدامها مدللاً عليها بالتجربة الحسية في الكثير من كتبه التالية، والتي غلب عليها الطابع العلمي، فيما غلب الطابع الجغرافي والفكري على «تحقيق ما للهند من مقولة...». ومن تلك الكتب «الجماهر في الجواهر» و «الآثار الباقية على القرون الخالية» و «الصيدلة في الطب» و «مقاليد الهيئة» و «التفهيم في صناعة التنجيم»... الخ.

من الناحية العلمية، إذاً، قدّم ابو الريحان للفكر الإسلامي خدمات جلّى من خلال نظرته الثاقبة الى ما شاهده واختبره في الهند، وهكذا نجده يوضح استخدام الأرقام الهندية، واستخدام الأصفار لمقام الخانات. وكذلك نجده يحسب السلسلة الهندسية لبيوت الشطرنج. و- كما يقول الدكتور عمر فروخ في حديثه عن البيروني - حلّ هذا الأخير مسائل تعرف بـ «مسائل البيروني» وهي لا تحل بالمسطرة والفرجار، ومنها قسمة الزاوية ثلاثة اقسام متساوية، وحساب قطر الأرض. وهو كان من اوائل العلماء المسلمين الذين برهنوا على ان سرعة النور اعظم كثيراً من سرعة الأرض. كما بحث في الثقل النوعي و «استخرج الأثقال النوعية لثماني عشرة مادة من المعادن والحجارة الثمينة بدقة بالغة» كما يؤكد فروخ. وتكلم البيروني كذلك عن «كروية الأرض وعلى دورانها حول محورها من غير ان يصل الى نتيجة حاسمة» وهو عرف «تعيين خطوط الطول وخطوط العرض، كما عرف تسطيح الكرة».

غير ان هذا الاشتغال بالقضايا العلمية، انطلاقاً من خلفياتها الهندية، لم يمنع البيروني من ان يلتفت، بخاصة الى مسألة كانت كثيراً ما تشغل بال المسلمين في حديثهم عن الهند، وهي مسألة «الأرواح وترددها بالتناسخ في العالم». ونراه هنا يقول في احد فصول كتابه هذا: «كما ان الشهادة بكلمة الإخلاص شعار المسلمين، والتثليث علامة النصارى، والإسبات علامة اليهود، كذلك التناسخ علم التخيلة الهندية، فمن لم ينتحله لم يكن منها ولم يعد من جملتها. انهم قالوا: ان النفس اذا لم تكن عاقلة لم تحط بالمطلوب احاطة كلية دفعة بلا زمان، واحتاجت الى تتبع الجزئيات واستقراء الممكنات. وهي وإن كانت متناهية فلعددها المتناهي كثرة، والإتيان على الكثرة مضطر الى مدة ذات فسحة. ولهذا لا يحصل العلم للنفس إلا بمشاهدة الأشخاص والأنواع وما يتناولها من الأفعال والأحوال حتى يحصل لها في كل واحدة تجربة وتستفيد بها جديدة معرفة... فالأرواح الباقية تتردد لذلك في الأبدان البالية بحسب افتنان الأفعال الى الخير والشر ليكون التردد في الثواب منبهاً على الخير فنحرص على الاستكثار منه، وليكون التردد في العقاب منبهاً على الشر والمكروه فتبالغ في التباعد عنه. ويصير التردد من الأرذل الى الأفضل دون عكسه لأنه يحتمل كليهما ويقتضي اختلاف المراتب فيهما لاختلاف الأفاعيل بتباين الأمزجة ومقادير الازدواجات في الكمية والكيفية. فهذا هو التناسخ الى ان يحصل من كلتي جنبتي النفس وإعادة كمال الغرض...».

ولد محمد بن احمد ابو الريحان البيروني، الفارسي، في بيرون عاصمة خوارزم سنة 972م. وعاش اول الأمر في بلده وراسل ابن سينا. ثم بدأ يرتحل من مكان الى مكان ويقرأ بشغف، حتى حطّ رحاله اخيراً في جرجان، حيث اتصل بأميرها منصور بن نوح الساماني. ثم حدث في حوالى العام 1017 ان غزا السلطان محمود الغزنوي تلك المنطقة وعاد منها بعدد كبير من العلماء والمفكرين وكان البيروني في عدادهم، وهكذا صار البيروني المنجم الرسمي لبلاط ذلك السلطان المتنور. ولاحقاً حين غزا محمود الغزنوي بعض مناطق الهند، كان ابو الريحان في رفقته. وهناك كان اطلاعه كما اسلفنا على علوم الهند ودياناتها، ما أتاح له ان يقارن مع ما لدى الإسلام من ذلك، ولكن ايضاً مع ما أُثر عن اليونان في المجالات نفسها. ومن هنا جاء كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة» موسوعة شاملة في العلوم والمعارف الكونية. ولقد واظب البيروني على القراءة والكتابة في بلاط الغزنويين حتى رحيله عن عالمنا في العام 1050م تقريباً.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)