موقع نقطة ضوء
الإثنين 02 سبتمبر 2019
نقطة ضوء - تقارير
حازم خالد (القاهرة)
حكاية “الطربوش” ومواجهته لقبعة “الفرنجة”
لكل زمن خصائصه المتعارف عليها، وبما أن الزمان عابر على بقاع المكان، فالزمن متغير فيما المكان ثابت، هذا فيما يبدو شكلاً، غير أن عامل تغير الزمان، له أثر تغير شكل المكان، بما يدخله عليه من مدخلات تقلب وتغير عادات وتقاليد الناس، فيبدو المكان في ثوب جديد من أثر المتغيرات، وما يلبث الجديد فيصير قديماً، وتتوالى دوران ساقية التقلُّب وتسير القافلة، ومن بين سمات الزمان التي تعد من خصوصيته التي تميزه عن غيره من الأزمان هو المتعلق بالزي ومظهر الملبس، فكل مظهر ملبس بعده الزمني وإطاره المكاني، ومن بين سمات عصر ما يعرف بالثورة العربية، برز الطربوش كغطاء للرأس انحصر لبسه في بلاد الشرق، وتعارف عليه، كجزء من مظهر العربي، على الرغم من أنه جاء إلى الشرق العربي في معية الحقبة العثمانية، مع عملية تداخل السكان بين بلاد فارس والأناضول وآسيا الصغرى والقوقاز مع بلاد العرب، وأفسحت العمامة العربية الطريق أمام زحف الطربوش خاصة في عصر الباشوات.
أتى الطربوش على رأس جميع الأغطية حيث احتل ردحاً من الزمان لا بأس به ظل معها يتوج الرؤوس، حتى أنه أصبح في حقبة بعينها رمزاً في أحيان كثيرة للقومية العربية، كمقابل معنوي لذويه من لابسيه في مقابل ارتداء القبعة الإفرنجية التي هي رمز التفرنج، ولقد أثار الطربوش معاركاً سياسية وأزمات دبلوماسية، ومثلما كان وجوده رمزاً للقومية العربية كان سقوطه إيذاناً بزوال الخلافة العثمانية عن عالمنا العربي.
هذا من ناحية مضمون مقصده، أما لفظه فيعود إلى الكلمة الفارسية ذات المقطعين سر وتعني الرأس من كل شيء كرأس الوقت أي أول الوقت ولفظة بوش تعني الغطاء وعند إضافتها تصبح غطاء الرأس ومع تداول لفظه بين العامة دخل عليه ما يعرف لحين الألسن فمال من سر بوش وأبدلت شينه سين أولا ثم طاء ليصبح طربوشاً، وقد تداولت كلمة طربوش كثير بين أيدي المؤرخين مثل ما جاء في تناولات المقريزي في تناوله لروايات عن أولاد شيخ الشيوخ إذ يقول وأما فخر الدين يوسف بين شيخ الشيوخ صدر الدين فإن الملك الكامل جعله واحداً من أمرائه حين ألبسه الشربوش والقباء.
ونضيف: إنه في بعض الكتابات التاريخية وردت كلمة “تربوش” وربما يكون ذلك هو الأصل في نطق العامة لها بالطربوش كما وردت أيضاً على هذا النحو “شربيش”.
ويتميز الطربوش بأن شكله مثلث يوضع على الرأس بدون عمامة، وكان أول من زاد في طوله هو الأمير عز الدين مسعود - صاحب الموصل وحلب - بن قيم الدولة آف سنقي البرسقي حيث حظر استعمال الشربوش في الدولة المملوكية الشركسية واستحدث نوعاً من القلانس يطلق عليها الطواقي كان يلبسها رجال الدولة وجنودها، ولم يكن الطربوش على هيئته المتداولة في تلك الحقبة من الدولة الإسلامية بل كان قبله “الطويلة”، وكان الخليفة وأتباعه يلبسونه ويلفون من فوقه العمائم، وفيما ورد في التاريخ من مقاطع عن الطربوش أن أول من لبس القلانس هو الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان.
أما الخليفة العباسي المستعين بالله فكان أول من صغّر من طولها.. وهكذا يتضح من وصف الشربوش أنه لم يكن شبه الطربوش المتعارف عليه في الهيئة والحجم، وإن كان يشبهه في الاسم والغاية وقد لبس أهل الأندلس القلانس الحمراء الملونة من الصوف وكانوا يسمونها بـ “العقارات” والعقارة عند أهل الأندلس هي ما يسمى في بلاد المغرب بـ “الشاشية” أي الطربوش، ويلاحظ أن ما كان من أمر هذه القلانس الحمراء على اختلاف شاكلتها كان من بين اللباس المتداول في البلاد الإسلامية من مشرقها إلى غربها.
واختلفت تسميته عند كل من العراقيين والشوام والمصريين فاصطلح على تسميته الكلوثة وهو البورك الأحمر الطويل فيما كان الأتراك العثمانيون يطلقون عليه مسمى الطربوش وكان يخصون بلباسه جنودهم الانكشاريين.
وأعاد البعض موطنه إلى المغرب نسبة إلى مدينة فاس المغربية، التي تعد أول وأشهر مدينة صنعت الطرابيش ولما كثر استعماله صنعوه أيضاً في الأستانة وفرنسا وإيطاليا، بيد أن النمسا اشتهرت أكثر بصناعته وصدرته إلى الأستانة واليونان ومصر.
طربوش الدولة العثمانية
أما عن كيفية دخول الطربوش للدولة العثمانية فيذكر أنه أثناء دخول الأسطول العثماني المغرب العربي اشترى مجموعة من البحَّارة الطرابيش المغربية وقد أعجب بها قائد الأسطول خسرو باشا، فانتهز فرصة رجوعه إلى البلاد وفي أول مناسبة زاره فيها السلطان أمر بحارته بلبس الطرابيش والوقوف صفاً أمام الحضرة السلطانية، وقد أعجب السلطان بالطرابيش ذات الزر الأسود فأصدر فرماناً عثمانياً بتعميم ارتداء الطربوش لكل أفراد الشعب، وانتشر ذلك بين الناس رجالاً ونساء أيضاً، ومع الوقت انتقل هذا الرداء إلى سوريا ومصر، وتخصصت النمسا في تصنيعه وتصديره إلى الدول العربية وقامت بتحسينه وابتكار أشكال منه جديدة وتم ابتكار أشكال منه للنساء موشاة بالذهب يلبسنها في البيوت مع سراويل طويلة من الحرير عندما اعتلى محمد علي باشا الكبير (1769 - 1849) عرش مصر عام 1805، كان يلبس العمامة، أما المماليك فكانوا يلبسون “الفاووق”.. ويضيف، إن غطاء الرأس قد تطور واستبدل محمد علي باشا العمامة بالطربوش المغربي وكان بدون خوصة، وفكرة ارتداء الطربوش كانت في الأصل سياسية وليست اجتماعية حيث كان سلاطين الدولة العثمانية قد بدأوا يلبسونه والولاة على دين سلاطينهم.
وقد بدأ الطربوش المغربي بمصر قصيراً في حجم الطاقية ثم كبر حجمه ثم ظهر الطربوش العزيزي نسبة إلى السلطان عبد العزيز الذي جعله شعاراً رسمياً للدولة، وأشهر من لبس الطربوش السلطان حسين كامل (1853 - 1917) والزعيم سعد زغلول ومصطفى كامل (1874 - 1908) وكان زر طربوش إبراهيم باشا (1789 - 1848) بطول 30 سم وكان يتدلى من الخلف كذيل حصان وإلى وقت قريب كان العرب في إفريقيا يلبسونه.
أما أطول طربوش في القاهرة 38 سم، فكان صاحبه يعمل بنادي السيارات بشارع قصر النيل (عبد الصادق) وكان رياضياً يمارس رفع الأثقال، وعمل بالنادي لتدليك السائحين الأجانب الذين كانوا دائماً يرغبون في رؤيته بالطربوش، وبعد ثورة 23 يوليو 1952 المصرية انحسر المد الطرابيشي، وأصبح بدعة تثير السخرية لمن يرتديه في الشارع، اضطر كثير من الناس للتنازل قهراً عن ارتدائه.. إلى هنا ينتهي الحديث عن الطربوش كطراز أما كرمز فهذا حديث آخر.
قانون القبعة
في عام 1925 صدر قانون القبعة أصدره كمال أتاتورك أول رئيس لجمهورية تركيا (1881 - 1938) واستبدل ارتداء الطربوش بالقبعة، وكانت هوجة في تركيا ضد الطرابيش كرمز للتخلف والتي وصلت إلى حد التهديد بإعدام من يصر على ارتدائه، وقد حدثت بالفعل حالات إعدام!! وفي عام 1928 كان وزير مصري في طهران وهو حسين نشأت باشا، قد دعا إلى حفل عشاء للملك أمان الله، ملك الأفغان في قصر جلستان الملكي، ومر الشاه وضيفه لتحية المدعوين وكان الوزير المصري بالطربوش الأحمر على رأسه ووقف الملك الضيف أمامه وتكلم بحدة وقد تدخل المترجم وقال: إن الملك مندهش من إصرار المصريين على ارتداء الطربوش بالرغم من أن الملك كان في زيارة قريبة لمصر، وقد أوصى المصريين في مؤتمر صحفي بالتخلي عن الطربوش رمز التخلف، ورد الوزير المصري بأن المصريين دائماً يحافظون على تقاليد الآباء والأجداد، وهذا هو قوام الحياة المصرية فقال الملك: إن الطربوش لم يكن في وقت ما شعاراً للمسلمين وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم لم يرتدوه لنتشبه بهم، فرد عليه الوزير العنيد بأنه يعلم تماماً أن الطربوش ليس رمزاً إسلامياً فالمصريون أخذوه عن الأتراك وهؤلاء من اليونانيين لكنه أصبح من التقاليد المرعية التي يحافظون عليها.
وكان ملك الأفغان قد زار أوروبا وتأثر بما رآه هناك وبما حدث في تركيا من ردة، ولما عاد إلى بلاده أصدر أمراً عاماً بترك الزي الوطني ولبس الأفرنجي واستبدال الطربوش بالقبعة وحلق اللحية، وليس هذا فحسب بل إنه جمع المجلس الوطني وفيه من فيه من كبار رجال العشائر بزيهم الوطني وأرسل إليهم الحلاقين فقصوا لحاهم وأمرهم بلبس “البدلات” الأفرنجية (ردنجوث) مع القبعات ولم يسمح لهم بدخول المدينة وحضور المجلس إلا بعد تنفيذ أوامره فعادوا ساخطين ثائرين، وكان هذا أحد أسباب مساندتهم للثائر المغامر الذي تمكّن بعد فترة قصيرة من القضاء على عرش أمان الله.
أزمة دبلوماسية بطربوش
بعد أن قضى عامين سفيراً لمصر بتركيا عام 1932 دعا عبد القادر حمزة إلى الاحتفال بالعيد الوطني التركي في قصر الحكم بأنقرة وكان أتاتورك أثناء العشاء يشرب بشراهة وأثناء خروجه لمح السفير المصري قابعاً أسفل طربوشه فقال هازئاً: قل لملكك إنني أنا مصطفى كمال أتاتورك قد أصدرت لك أمراً بخلع الطربوش الآن، ونادى على أحد الخدم ليأخذ طربوش السفير الذي سارع بخلعه وانسحب من الحفل وسط دهشة واستنكار المدعوين من السفراء للتصرف الشاذ الذي يفتقر لأدنى قواعد البروتوكول والأدب من رئيس الدولة التركية وقد حاول وزير الخارجية التركية معالجة الموقف في اليوم التالي حيث قابل السفيرالمصري، بل إن رئيس الجمهورية اعتذر بعد ذلك للسفير الذي قبل اعتذاره إلا أن الموضوع لم ينته عند هذا الحد فقد تسرب الخبر إلى لندن وباريس من سفيريهما اللذين كانا حاضري الحفل وشهدا كل ما حدث وبدأت الجرائد البريطانية ووكالات الأنباء تذيع ما حدث بالحفل ووصلت الأنباء إلى الصحف فنشرت “الأهرام” الخبر نقلاً عن وكالة رويترز يوم 11 نوفمبر 1932، وتم تكذيب الخبر من وكالة الأناضول التركية إلا أن حزب الوفد تلقف الخبر ووصفه بأنه إهانة لمصر وأن السفير بقبوله اعتذار رئيس الجمهورية التركية قد تجاوز صلاحياته كسفير.
وهدد الملك فؤاد الأول (1868- 1936) بسحب البعثة الدبلوماسية من أنقرة وهاجمت تركيا إنجلترا بدعوى تسرب الخبر من صحفها إلى مصر بغرض تخريب العلاقات التركية المصرية وانتهت الأزمة بتبادل مذكرات بين وزارتي الخارجية باعتبار الموضوع منتهياً وفي حفل استقبال راقص بمناسبة رأس السنة أقامته هيئة الهلال الأحمر التركي تقابل الرئيس أتاتورك مع السفير حمزة بك والأخير كان حاسر الرأس فقال له الأول متندراً لم لا تلبس طربوشك؟ ولماذا كتبت تقريراً عني لحكومتك، في الحفل القادم إذا لم تلبس طربوشك فسوف أكتب تقريراً ضدك لحكومتك وابتسم الجميع.
ضريبة القرش
في بداية الثلاثينيات تكونت جمعيات أو جماعات لخدمة المجتمع ينخرط فيها الشباب للمشاركة في العمل الوطني لعل أهم هذه الجماعات “جماعة القرش” التي نادت بأن يدفع كل مصري قرشاً لتكوين حصيلة تستخدم لإنشاء صناعة وطنية توفر الاستيراد والالتجاء للأجنبي وخرج الشباب يجمعون القرش من الناس في الشوارع والمركبات العامة، ومن حصيلة العام الأول بدأ إنشاء مصنع للطرابيش، وكان هذا إيذاناً بتصنيع الطربوش المحلي بدلاً من المستورد، وفي عام 1945 اشتكى مصري من العاملين بالمعسكرات الإنجليزية بمنطقة القناة من أن رئيسه البريطاني هدده بالفصل إذا حضر إلى العمل بالطربوش وتلقفت “أخبار اليوم” الشكوى وحوّلتها للسفير البريطاني بقصر الدوبارة الذي أمر بالتحقيق فيها ولما ثبت صحتها تم التنبيه على الإنجليز باحترام تقاليد الشعب المصري.
وبعد ثورة 23 يوليو 1952، وتغيير شكل النظام الحاكم بمصر بدأت موجة التخلي عن مخلفات العهود السابقة وتولت الصحافة هذا الاتجاه وكان الطربوش من أول الضحايا في الهجوم الصحفي وأصبحت الطرابيش “دقة قديمة” وتحوّلت محال صناعة الطرابيش إلى أنشطة أكثر حداثة!!.
واعتبرت الصحافة لبس الطربوش علامة مميزة للجهل والتخلف وأنه يماثل الريش على رؤوس الهنود الحمر!! وأن الطربوش يقضي على الأفكار والمناهج العقلية المتطورة، ولم يأت التخلي عن الطربوش بقرار كما حدث في تركيا ولكنه بدأ بظهور ضباط العهد الجديد في الصحف حاسري الرؤوس ولم يكن للعهد الثوري فضل السبق في الإيحاء بهجر الطربوش، لكن الملك فاروق الأول كان في نهاية عهده بدأ ارتداء القبعة في بعض المحافل وبالطبع كانت للطرابيش عيوب عديدة أهمها: أنها لا تتناسب مع حرارة الجو في بلادنا، كما أنها تعوق الحركة في المصانع ووسائل الانتقال وتكلفة يمكن الاستغناء عنها، بالإضافة إلى تسببه من بعض المضاعفات المرضية مثل الصداع والعصبية واحتمال الإصابة بالصلع وكذلك إصابة مرتديه بنزلات البرد بعد خلعه.
وبالرغم من التطور التكنولوجي الهائل فإن الطربوش مازال علامة من العلامات التي يحييها الإنسان في احتفالاته وذلك من خلال ارتدائه الطربوش في المناسبات السعيدة.
خدمة : وكالة الصحافة العربية
نقطة ضوء موقع ثقافي عربي شعاره ( ثقافة، فن، أدب، ابداع ) انطلق من القاهرة، عام 2005 وأعيد اطلاقه في ثوب جديد في يناير 2016. يؤمن محررو الموقع أن الحياة تبدأ بنقطة.. تبدأ بحركة.. والحركة تسبب موجة، وتلك الموجة في تكسرها يصدر عنها موجات عاكسة للضوء، تحمل أشعة وكل شعاع يختلف عن الآخر في انعكاسه... لقراءة المزيد.