تألق الشّعر النّسوي وازدهاره في بلاد الأندلس

, بقلم محمد بكري


جريدة رأي اليوم الإلكترونية


الخميس 18 مارس 2021
جريدة رأي اليوم الإلكترونية
ثقافة - راي اليوم
د. محمّد محمّد خطّابي - كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا


تألق الشِّعر النِّسوِي وازدهَاره في بِلاد الأندلس


في الوقت الذي نجد بعضَ الدارسين وأصحابَ الأخبار في تاريخ الأندلس الذين أهملوا كثيراً من النصوص الشعرية التي صدرت عن الشواعر الأندلسيّات، وفى الوقت الذي لم يحظ موضوع الأدب الأندلسي النّسوي على وجه الخصوص بالاهتمام الكافي من طرف الباحثين على الرّغم من التأثير البليغ الذي أحدثه هذا الشّعر على اختلاف أغراضه،وألوانه، وتعدّد مشاربه، وتباين مقاصده في إسبانيا وفى الآداب الأوربية في القرون الوسطى، حيث بلغ في ذلك شأواً بعيداً ظلّ مجهولاً، أو منسياً،أو مُتناسياً، أومُهملاً،أو مُهمّشاً لزمنٍ غير قصير،فإنه من الجدير بالذكر الإشارة إلى أنه من الأبحاث الرّصينة، والدراسات المستفيضة التي نُشرت مؤخراً في هذا المضمار التي تعالجُ موضوع الشاعرات العربيّات في بلاد الأندلس،وتزيح السّتار عن أهمية، وروعة، وجمالية هذا الشعر وسحره دراسة باللغة الإسبانية للباحثة والشاعرة الإسبانية – الكتلانية “كلارَا خَانيسْ” تحت عنوان : ” الشِّعر النّسوي في الأندلس”،حيث تقدّم لنا فكرة واضحة عن المدى البعيد الذي أدركته المرأة ( عربية كانت أم أمازيغيّة) التي عاشت تحت الظلال الوارفة للحضارة الأندلسية من تقدّمٍ، ورقيٍّ ينمّان عن حياة مُترفة ، ومشاعر مُرهفة .

استهلت الباحثة عرضَها القيّم بتوطئة وافية،وتمهيدٍ ضافٍ حول وظيفة الفنّ والإبداع ومدى أبعادهما وتأثيرهما في الحياة اليومية للفرد والجماعة قديماً وحديثاً،واعتبرت الكاتبة موضوع شعر الجنس اللطيف في الرّبوع والأصقاع الأندلسية اكتشافاً عظيماً وعنصراً مفاجئاً بالنسبة لها في عالم الإبداع النسوي في القرون الوسطى على وجه التحديد. عالجت الكاتبة بعد ذلك موضوع الخَلْق الأدبي، والإبداع الشعرى عند المرأة بشكل عام مُستشهدة بما ذهبت إليه الكاتبة البريطانية “فرجينيا وولف” من آراء عن المصاعب،والإكراهات التي تواجه المرأة عند عملية الكتابة،والإبداع . حيث أشارت أنّ الكتابة عند المرأة لا يمكنها أن تتحقق إلاّ إذا توفّرت لديها شروط معيّنة منها التواجد في عصر بعينه يَسمح لها فيه المجتمع بالمشاركة في الحياة العمومية بشكل فعّال ، مع توفير مستوىً ثقافي معيّن ، فضلاً عن ضمان حرية القول،والإفصاح،والبوْح، والتعبير، بالإضافة إلى الانتماء إلى نمطٍ اجتماعي بذاته. وتضيف الكاتبة عنصراً آخر ليتسنّى للمرأة مزاولة عملية الإبداع وهو الانفتاح في العادات،والتقاليد، وعدم تحجّرها، وجفائها،وجفوتها، مثلما كان عليه الشأن في المجتمع الأندلسي الذي كان من أكثر المُجتمعات انفتاحاً، وانشراحاً، وتسامحاً في القرون الوسطى.

الشّعر الأندلسي العربيّ والشعر الإسبانيّ

وأجرت الكاتبة كلارا خانيس مقارنات بين شعر المرأة العربية والأمازيغية بالأندلس وشاعرات إسبانيات عشن في عهود موالية للعهد الأندلسي، إلاّ أنّ قصب السّبق في معالجة الموضوعات بنوع من الواقعية والرقّة والذكاء مع دقة الملاحظة، وعمق التحليل،وثراء المضمون، وخصوبة المعنى، وجمال المبنى، كلّ ذلك كان من نصيب الشّعر النّسوي العربي في الأندلس. وتماشياً مع ما سبق أن أشار إليه غير قليل من الباحثين المتضلّعين الإسبان مثل المستشرق الإسباني الكبير” إميليو غارسيا غوميز” أكدّت الباحثة بدورها أنّ الشعر العربي بشكل عام في الأندلس كان له تأثير بليغ وحاسم في الشعر الاسباني فيما بعد على وجه الخصوص وفى الشعر الأوربي بشكل عام ،وقد تجلّى ذلك جليّاً لدى “الجيل الأدبي الإسباني 1927” الشّهير الذي ينتمي إليه غير قليل من كبار المبدعين الاسبان ذوي الصّيت العالمي البعيد أمثال “فثينتي ألكسندري” الحائز على جائزة نوبل في الآداب،وكذا “خوان رامون خمينيث” الحاصل على نفس هذه الجائزة العالمية كذلك. يُضاف الى هذين الشاعرين أسماء أخرى كثيرة مثل “خيراردو دييغو”،و”دامسو ألونسو”والعالمي “فيديريكوغارسيا لوركا”،فضلاً عن الشاعر الأندلسي القادسي “رفائيل ألبرتي” الذي يعترف صراحة في العديد من أعماله الأدبية بتأثير الشعر العربي في الأندلس عليه، وسواهم.

الحبّ العذري العفيف في الأندلس

تشير الباحثة أنّ الحبّ العذري شاع، وانتشر، واشتهر في الأندلس مثلما كان عليه الشأن عند المشارقة، وكيف أنّ تأثيرات هذا الغرض على وجه الخصوص فى الشّعر الأندلسي انتقل عن طريق شبه الجزيرة الإيبيرية فى المقام الأوّل إلى فرنسا حيث دخل أرقى بلاطات الحبّ، والهوى، وصالونات الصّبابة ، والجوى،ثم انتقل بعد ذلك إلى بعض البلدان ألأوروبية الأخرى المجاورة وبالأخصّ إلى إيطاليا بواسطة “برونيتو لاتيني” الذي كان سفيراً لبلاده لدى بلاط العاهل الإسباني ألفونسو العاشرالذي كان يُلقب بالحكيم أو العالم في القرن الثالث عشر. والذي كانت تربطه بالحضارة العربية ،والثقافة الإسلامية رابطة وثقى ،وآصرة متينة نظراً لإعجابه الكبير بها و نهله منها ، وتأثّره بها حيث أمر بترجمة العديد من أمّهات الكتب والمخطوطات العربية الشهيرة في مختلف ألوم والآداب والمعارف إلى اللغة الإسبانية منها على سبيل المثال وليس الحصر كتاب ” كليلة ودمنة” لعبد الله بن المقفّع وسواه من الأسفار الأخرى .

ويشير شيخ المُستشرقين الإسبان الرّاحل “إميليو غارسيا غوميس” عند تقديمه لكتاب “طوق الحمامة” الشهير للفقيه العلاّمة الأندلسي المعروف ابن حزم ، إلى أن الحبّ العذري دخل الأندلس حوالي 890م. وكان لابن حزم نفسه تأثير واضح، وبليغ في هذا القبيل خاصة في البلاطات الأوربية الرّاقية .ومعروف أنّ هذا العالم الأندلسي الجهبذ قد سبق وبذّ بقرون العديد من علماء النفس الأوروبيين أمثال “كارل كوستاف يُونغ” و” ألفريد أدلر”، و” سيغموند فرويد ” وسواهم ممّن على شاكلتهم بملاحظاته العلمية الدقيقة ،وتفسيراته وتحليلاته النفسية للأمارات، والعلامات والتغييرات التي تطرأ وتعتري الحالة النفسية للعاشق المتيّم، المحبّ الولهان في كتابه الآنف الذكر ” طوق الحمامة”الذي تُرجم إلى العديد من اللغات الحيّة ولقي فيها نجاحاً وانتشاراً منقطعيْ النظير.

وتذهب الباحثة إلى القول أنّ إعمال النظر بعمق،والتمعّن في الشّعر النسوي الأندلسي وقراءته أمران يبعثان على الإعجاب والانبهار، ويثيران دهشة الغرب سواء لدى الدارسين المتخصّصين، أو الباحثين الجامعيين أو القرّاء على وجه العموم ،نظراً لما تتضمّنه هذه الأشعار من رقّة،ورفاهية، وعذوبة وطلاوة وحلاوة،وليونة ومرونة، فضلاً عن الخيال الخصب المجنّح الذي يطبعها، وحرية التعبير التي لا يمكن مقارنتها سوى بحرية التعبير المتوفرة في المجتمعات العصرية الرّاهنة،وتؤكّد الباحثة في هذا القبيل أنّ هذه الحرية لم يتسنّ للمرأة الغربية في تاريخها أن تتمتّع بها إلى اليوم. و تورد الكاتبة رأياً للباحث الإسباني “أدولفو فديريكو شباك “مفاده أن الحرية التي تمتّعت بها المرأة العربية في الأندلس على وجه الخصوص فاقت،وبدت الحريّات التي كانت لدى المرأة في المجتمعات الإسلامية الأخرى. ويضع المستشرق ” هنري بيريس” في الاتجاه نفسه المرأة الأندلسية في مستويات راقية،ومراتب عليا تتساوى فيها مع الرّجال ، بل إنّ المرأة الأندلسية كانت تتوارد على نوعٍ من الأكاديمّيات، والمعاهد التي تتعلم، وتتلقّى وتُلقّن فيها الفنون والآداب المختلفة، والعلوم التي كانت سائدة ومنتشرة في ذلك العصر، وأشهر هذه المدارس،والأكاديميات كانت موجودة بمدينة قرطبة التي يُقال إنها فاقت كلّ الامصار في ذلك الإبّان حيث يقول الشّاعر في ذلك :

بأربعٍ فاقت الأمصارَ قرطبةٌ / قنطرة الوادي وجَامعُها

هاتان ثنتان والزّهراءُ ثالثةٌ / والعِلمُ أعظمُ شئٍ وهو رابعُها

كما تورد الكاتبة نصّاً للعالِم الأندلسي الجامع الحافظ ابن بسّام الشنتريني صاحب الكتاب الشّهير” الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” يصف فيه امرأة عربية خرجت من إحدى هذه المدارس متحدثاً عن جمالها،ورقّتها، ومشيتها، وصوتها ، ومواهبها، وثقافتها بل أنها كانت – مع ذلك – تجيد استعمال الأسلحة إلخ، حيث يؤكد لنا ابن بسّام أنه لم يكن لها نظير أو مثيل في ذلك كله.

المعتمد بن عبّاد وإعتماد الرميكيّة

و تشير الباحثة أنّ الشأو البعيد الذي بلغته المرأة العربية والأمازيغيّة في المجتمع الأندلسي لم تدركه زميلتها المرأة الأوربية في ذلك الأوان ، وتشير إلى أنّ شعر الجِنس اللطيف في الأندلس لم ينحصر في موضوع الحبّ، والغزل، والشكوى، والعتاب وحسب- وإن كان هو الأغلب- بل تعدّاه إلى مواضيع وأغراض أخرى مثل المدح ،و الهجو، ووصف الطبيعة ، فضلاً عن شعر الحكمة. وكما أسلفتُ القول في مُستهلّ هذه العجالة ،لم يُعْنَ أحدٌ في جمع هذا الشعر الجميل ضمن ديوان مستقلّ، بل ظلّ مبثوثاً في بطون المخطوطات، وبين دفّتيْ أمّهات الكتب التي تؤرّخ للأدب،والأنساب، والأخبار في الأندلس.و تصف الباحثة أسلوبَ هذا الشّعر بأنه أسلوب طبيعي، وتلقائي،رقيق يخضع لقواعد شعر المشرق، بل إنّ بعض الشّواعر كنّ يلجأنَ إلى معارضة شعر الرّجال، أو استكمال مقطوعات شعرية، أو التعبير عن خواطر عابرة ،أو الإجابة عن تساؤلات محيّرة ، أو الدفاع عن النفس حيال أيّ تهجّم،أو تعدٍّ، أو إهانة،أوالزّهو والفخار.و لعلّ القارئ الكريم يتذكّر كيف تعرّف الخليفة الخليفة المأسوف على مصيره ، المنكود الطالع المعتمد ابن عبّاد على خليلته ثمّ زوجته إعتماد الرميكيّة بالمساجلة الشعرية، حيث كان ابن عبّاد قد طلب من خلّه وصديقه ووزيره ابن عمّار أن يجيز بعد أن قال المعتمد :

(صنعَ الرّيحُ من الماء زَرَد)، فلمّا تردّد، وتأخّر ابن عمّار في الإجابة والإجازة أيّ في أن يتمّ أو يستكمل أو يقابل مصراع ابن عبّاد ، بادرت الرميكيّة على الفورالتي كانت بالصدفة توجد بجوار النّهر (الوادي الكبير)،فقالت: (أيّ درعٍ لقتالٍ لو جَمَد) فتعجّب المعتمد من حُسن جوابها، و من سرعة بداهتها،ومن مُبهِر جمالها .

شاعرات أندلسيّات

ومن أشهر وأقدم الشّاعرات العربيّات الأندلسيات التي تعرّضت لها الباحثة الإسبانية الشاعرة “حسّانة التميمية” وهي من” إِلفِيرَا” بمدينة غرناطة، وُلدت خلال إمارة عبد الرحمان الداخل المعروف ب (صقر قريش) (756 -788م) وأوردت الباحثة قصيدة مدحٍ لها بعثت بها إلى الأمير الحاكم الأول، تطلب منه فيها حمايتها من جور حاكم غرناطة . ومن أشهر الشّاعرات الأندلسيات المشهود لهنّ بطول باعهنّ فى قرض الشعروإجادة نظمه اللاّئي ورد ذكرهنّ في كتاب “نفح الطيّب” للمقرّي، وهو من أكبر المصادر القديمة التي حوت ثبتاً مستفيضاً لكثير من أسماء الشاعرات الاندلسيات، وفي كتب : ” جدوة المقتبس” للحميدي، و”الصّلة” لإبن بشكوال، و”التكملة ” لابن الآبّار، و فى سواها من المصادر العربية المشهورة الأخرى نجد الشاعرات المُجيدات : “لبنى” كاتبة الحاكم المُستنصر، و”الغسّانية”، و”حفصة بنت حمدون الحجارية”،و”أمّ الكرام” بنت المُعتصم ابن صُمادح،و”غاية المُنى” ، و”إعتماد الرّميكية” زوجة المعتمد، و”عائشة بنت قادم القرطبية”، و”مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري” ،و”أمّ العلاء بنت يوسف الحِجارية البربرية” ،وهي شاعرة عاشت في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) في وادي الحِجارة وإليه نسبتها، وهي من أصل بربري (أمازيغي) ، و”حَمدة بنت زياد المؤدّب” وأختها “زينب” ، و”قمر” جارية إبراهيم اللخمي ، و”أنَس القلوب “، و” مولاة أبي المطرف بن غلبون العروضية” ،و”مُهجة” و”مُتعة” القرطبيتان ،و”نزهون” الغرناطية ،والشاعرة “العبّادية “والدة المعتمد، و”بثينة” بنت المعتمد ابن عبّاد، و”أم المُنى”، و”الأديبة الشلبية”،و”أسماء العامريّة”،و”حفصة الركونيّة”، والشاعرة الأميرة الشّهيرة صاحبة ابن زيدون “ولاّدة بنت المُستكفي”.. الخ.

باقات من أشعارهنّ

وحسبي أن أقول إنّ المرأة في الأندلس على امتداد العصور التي تعاقبت عليها انطلاقاً من عصر الإمارة، وعصر الخلافة،وعصر ملوك الطوائف، ثم عصر المُرابطين، والمُوحدين وما بعدهما،كانت دائماً مثار عاطفة الرّجل، وبؤرة اهتمامه، ومثار وجدانه،ومكمن سرّه، مرتع ملاذه، على الرّغم من تقلبات الدهر وصروف الزمان وتغيّراته ، فقد كانت المرأة محط الأنظار، وموضع الإحترام عند الرجال الأحرار، وقد شاركتهم في الحروب، وشاطرتهم معاناتهم في المعارك الضّروس ، والشواهد أو الأمثال في هذا القبيل أكثر من أن تُحصى فى هذا المقام ،وحسبي الإشارة في هذا السّياق – على سبيل المثال وليس الحصر- إلى ما عانته،وقاسته زوجة المعتمد بن عبّاد إعتماد الرميكية في أسره السّحيق، ومنفاه البعيد بأغمات (بالقرب من مدينة مراكش بالمغرب ) حيث شاطرته وتقاسمت معه مرارة الأيّام ووعورتها، وشظف الحياة ورعونتها بعد نعيمٍ مفرط،ورغدِ العيشِ وترفه .

وأكتفي كمثالٍ بمدى جمالية، وروعة، وعمق،وتنوّع هذا الشّعر ضمن هذه الأسماء الوافرة بأبيات لثلاث شاعرات أندلسيات، اللاّئي يقدّمن خيرَ دليلٍ على مدى تفوّقهنّ، وسيطرتهنّ على ناصية الشّعر في الأندلس،وقد أثبتت الباحثة الإسبانية مقطوعات شعرية لإحداهنّ وهي ولاّدة بنت المستكفي صاحبة ابن زيدون التي تقول فيها:

ترقّبْ إذا جَنّ الليلُ زيارتي.. فإنّي رأيتُ الليلَ أكتمَ للسرّ

ولي منكَ ما لوكان بالشّمسِ لم تلحْ .. وبالبدرِ لم يطلعْ وبالنجمِ لم يسرِ

كما أنّها اشتهرت ببيتين من الشّعر قيل إنّها كانت تكتب كلَّ واحدٍ منهما على جهةٍ من ثوبها :

وأمشي مشيتي وأتيه تيهَا .. أنا واللّه أصلح للمعالي

وأمكّن عاشقي من صحن خدّي .. وأعطي قبلتي من يشتهيهَا

وولاّدة هي بنت الخليفة “المُستكفي بالله”، كانت وحيدة زمانها في الأدب و الشعر، حسنة المحاضرة لطيفة المعاشرة ،مع الصيانة والعفاف. وكان ابن زيدون يتعشقها، وله فيها القصائد الطنانة، والمقطوعات البديعة،أشهرها نونيته التي يقول فيها :

أضْحَى التّنائي بَديلاً عنْ تَدانِينَا /وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا

بِنْتُم وَبِنّا، فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا /شَوْقاً إلَيكُمْ، وَلا جَفّتْ مآقِينَا

نَكادُ، حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمائرُنا / يقضي علَينا الأسَى لَوْلا تأسّينَا

حَالَتْ لِفقدِكُمُ أيّامُنا، فغَدَتْ / سُوداً، وكانتْ بكُمْ بِيضاً لَيَالِينَا

لا تَحْسَبُوا نَأيَكُمْ عَنّا يغيّرُنا؛/ أنْ طالَما غَيّرَ النّأيُ المُحِبّينَا!

ويقول عن ولاّدة في قصيدة أخرى شهيرة :

إنّي ذكرتكِ بالزّهراء مُشتاقَا / والافقُ طلقٌ ووجهُ الأرض قد راقَا

وللنّسيم إعتلالٌ في أصائلهِ / كأنّما رقّ لي فاعتلّ إشفاقَا

و كانت ولاّدة أولاً تطارحه شعراً بشعر، وتبادله حبّاً بحبّ،ثم قلبت له ظهر المُجن وصارت تهجوه، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها ، فيمّر فيه من النوادر،والمُستملحات، وإنشاد الشعر شيء كثير.

وأمّا الشاعرة الثانية فهي ” حَمدَة أو حَمْدُونة بنت زيّاد المُؤدّب” التي كان يقال لها خنساء المغرب لقوّة شعرها، و سموّ إبداعها ،ولها المقطوعتان العجيبتان المشهورتان بالمشرق والمغرب، واللتان مازال أهل البلاغة يجعلونهما مثلاً أعلى للنّسج على منوالهما ،والحذو على حذوهما، تقول في المقطوعة الأولى:

ولمّا أبى الواشون إلاّ فراقنا /وما لهم عندي وعندك من ثارِ

وشنّوا على أسماعنا كلَّ غارة /وقلّ حماتي عند ذاك وأنصارِي

غزوتهم من مقلتيك وأدمعي /ومن نفسي بالسّيف والسّيل والنارِ

وتقول في المقطوعة الثانية الجميلة وهي مشهورة جدّاً:

وقانا لفحة الرّمضاء وادٍ / سقاه مُضاعَفُ الغيثِ العميمِ

حللنا دوحَه فحنَا علينا / حُنوَّ المُرضعات على الفطيمِ

و أرشفنا على ظمأٍ زلالاَ / ألذّ من المُدامة للنديمِ

يصدّ الشمسَ أنَّى واجهتنا / فيحجُبها ويأذنُ للنّسيمِ

يروع حصاهُ حاشية العذارىَ / فتلمسُ جانبَ العقدِ النظيمِ .

والشّاعرة الثالثة التي نختم بها هذه العجالة هي أمّ العلاء بنت يوسف الحِجارية البربرية (الأمازيغيّة)، ذكرها صاحب “المُغرب فى حلى المَغرب”، ومن شعرها :

كلّ ما يصدر عنكم حسن / وبعلياكم تحلى الزمنُ

تعطف العين على منظركم / وبذكراكم تلذ الأذنُ

ومن يعش دونكم في عمره / فهو في نيل الأماني يغبنُ

وعشقها رجل أشيب فكتبت إليه تقول :

يا صبح لا تبد إلى جنح / والليل لا يبقى مع الصبحِ

الشيب لا يخدع فيه الصّبا / بحيلة فاسمع إلى نصحي

فلا تكن أجهلَ من في الورىَ / تبيتُ في الجهل كما تضحي

ولها أيضاً :

أفهم مطارح أحوالي وما حكمت / به الشواهد واعذرني ولا تلمِ

ولا تكلني إلى عذر أبينه / شرّ المعاذير ما يحتاج للكلمِ

وكلّ ما قد جئته من زلة فبما / أصبحت في ثقة من ذلك الكرمِ

عن موقع جريدة رأي اليوم الإلكترونية

من تقديم مؤسس ورئيس تحرير جريدة رأي اليوم الإلكترونية

سياستنا في هذه الصحيفة “رأي اليوم”، ان نكون مستقلين في زمن الاستقطابات الصحافية والإعلامية الصاخب، وأول عناوين هذا الاستقلال هو تقليص المصاريف والنفقات، والتمسك بالمهنية العالية، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع بقدر الإمكان، والانحياز إلى القارئ فقط واملاءاته، فنحن في منطقة ملتهبة، تخرج من حرب لتقع في اخرى، في ظل خطف لثورات الأمل في التغيير الديمقراطي من قبل ثورات مضادة أعادت عقارب الساعة إلى الوراء للأسف.

اخترنا اسم الصحيفة الذي يركز على “الرأي” ليس “تقليلا” من أهمية الخبر، وإنما تعزيز له، ففي ظل الأحداث المتسارعة، وتصاعد عمليات التضليل والخداع من قبل مؤسسات عربية وعالمية جبارة تجسد قوى وامبراطوريات إعلامية كبرى، تبزخ على ميزانيات بمليارات الدولارات، رأينا ان هذه المرحلة تتطلب تركيزا اكبر على الرأي المستقل والتحليل المتعمق، وتسمية الأمور باسمائها دون خوف.

لقراءة المزيد

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)