دراسة

بيروت وتطوّر الوعي بالهوية المدينية

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت ٦ يوليو / تموز ٢٠١٣
جريدة الحياة
بسام بركة


تعرض هذه المقالة الكتاب المسمّى «أفندي الغلغول: شاهد على تحوّلات بيروت خلال قرن (1854 – 1940)»، الذي أصدره أستاذ اللسانيات الدكتور نادر سراج مطلع عام 2013. هذه الدراسة الموثقة التي استغرقت خمس سنوات من البحث والتجميع والتحليل لفتت أنظار الباحثين اذ عدّها الباحث سليم تامري «غنية» وأهّلها «لتصبح مرجعاً أساسياً في دراسة حواضر بلاد الشام».

التكوين اللساني الاجتماعي، والاهتمام بمسائل التواصل والدراسات اللغوية التطبيقية، والانصراف الى دراسة العلاقة بين العمران والمنظومات اللغوية والثقافية والفكرية، أهّلت لخوض غمار التاريخ الاجتماعي للمدن. فالأدوات البحثية الإجرائية والمنهجيات والمبادئ النظرية والرؤى عند كلا اللساني والمؤرخ تلتقي في بحثها الدائب عن الحقيقة، وفي سعيها لتوظيف علوم العصر لإعادة قراءة الموروث. الانطلاق من العلوم الإنسانية، وربط اللسان بالعمران والحراك الاجتماعي، وتوظيف منسيّات التاريخ وبديهياته وشوائع الحياة اليومية لمعاينة المعطيات الانثروبولوجية، تثري تجربة الباحث، وتوسّع آفاقه. فهذه العلوم – بما فيها اللسانيات الاجتماعية – تدخلنا إلى فضاءات أرحب ممّا لو كنا مؤرخين ننصرف إلى دراسة المادة التاريخية وتحليلها لذاتها وبذاتها. فالباحث في التاريخ الاجتماعي تغنيه المعارف والعلوم الحديثة التي تتداخل وتتغاذى لتمنحه عيناً ثالثة تمكنه من ربط الحدث التاريخي بأبعاده الإنسانية، وتعينه على استشراف إسهامات الأفراد والجماعات في التبدّلات الاجتماعية الاقتصادية اللاحقة بحيّزاتهم الحضرية.

يأخذنا الكتاب في رحلة مشوّقة وممتعة في أسواق بيروت العثمانية وشوارعها وأزقتها. يكشف خصائص عائلاتها وخفايا حياتها، ويرصد تطوّر ملامح الهويات المدينية لدى أبنائها، ويتابع مراحل تفتح مفهوم العروبة في وعيهم، وتدرّجها من عثمانية شمولية إلى شامية إقليمية، فإلى أخرى وطنية تمثلت بـ «دولة لبنان الكبير» وصولاً إلى الجمهورية اللبنانية الفتيّة.

استند الكاتب في توثيق هذه الحيوات المختلفة والمؤتلفة لأبناء أسرة بيروتية ممتدة إلى مصادر غير تقليدية، وتحديداً إلى تراث عائلي منسي (مدوّنات قليلة نادرة، ومراسلات وصور ووثائق أحوال شخصية ومرويات شفهية) من جهة، وإلى سالنامات (مراجع عثمانية سنوية)، ودلائل من جهة ثانية. وهي فتحت لنا آفاقاً جديدةً ومثيرةً لقراءة ملامح الحياة اليومية وتحليل نسيجها الكامل خلال فترة التنظيمات وما تلاها. ولهذه الغاية، استعان بصفحات خطّها عينٌ بيروتي منذ أواخر القرن التاسع عشر، واستكملها من المحيط العائلي ومن البيئة المدينية. ووثقها بمراجع عنيت بتاريخ بيروت والمنطقة. وقد تشعّبت الدراسة فصولاً رسمت ملامح انفتاح درّة الشرق وحاضنة الحداثة التي تشكّلت فيها هويات أبطال هذه السيرة المدينية، والتي رعت تفتّح وعيهم القومي وتطلعاتهم التحررية وتجاوبهم مع المبادئ الإنسانية.

العائلة الجمّالية التي عاشت في كنف المدينة وفي أحدى مناطقها – الغلغول – اتُّخذت معبراً لدراسة تحوّلات المدينة على أكثر من صعيد ديموغرافي سكني، وإداري واقتصادي، وثقافي اجتماعي. فشهادات عميدها «أفندي الغلغول» وأبنائه السبعة وأنسبائهم (الطبيب والقاضي، وطبيب الأسنان والديبلوماسي، والضابط، ومدير الديون العمومية، والموسيقي والصيدلي والمهندس الزراعي)، هذه المصادر تذكّرنا بأن المدينة هي في نهاية المطاف انصهار لسير ذاتية، وتراكم لهويات، وتفاعل بين أنماط عيش، وتداخل بين لغات وثقافات.

ثمّة مداخل ثلاثة أعانت المؤلف الذي رسم من خلالها خريطة طريق لتحوّلات البلدة الصغيرة إلى مدينة عالمية:

 المحلّة المدينية أو الزقاق المديني في انفتاحه وزواله (زاروب أو زقاق الجمّال)، والحي المديني المعروف بـ «الغلغول» الذي كان يحدّ أسوار بيروت من جهة الجنوب وتفصل بينه وبينها ساحة «عصّور» الواقعة يومها خارج السور extra – muros.

 الشخصية البيروتية (هاشم أفندي الجمّال) المولود في زاوية الحمرا، والمشارك في شبابه في إنشاء جمعية المقاصد في بيروت 1878، والذي شهد معالم العمران المنتشر خارج سور المدينة، وبالقرب من مكان سكنه، شغل منصب قائمقام وتبوأ تباعاً مركز مدير المال في أكثر من مدينة في بلاد الشام، وتسلّم خلال الحرب العالمية الأولى رئاسة بلدية صيدا بالإنابة 1913-1914. وتمتد نشاطات أولاده السبعة وأحفاده ما بين إسطنبول ودمشق وطرابلس الغرب وعدن وعُمان وكرواتيا وايطاليا وفرنسا، رمزاً لصيرورة البلدة المتواضعة التي سرعان ما تحولت إلى بيئة حضرية مزدهرة فمدينة عالمية.

 شواهد وانسجة الإثبات والتغيير في ما بين الوثائق الشرعية (المِلْكيّة) ونهاياتها في القرن التاسع عشر، والصور الفوتوغرافية التي شغف بها بطل السيرة، والتي تتداخل معها في القرن التاسع عشر، وتحلّ محلها في القرن العشرين.

يهدف الكتاب إلى تسليط الضوء على فصول من الإنجازات والتحولات التي عرفتها بيروت في العقود الأربعة الأخيرة من القرن التاسع عشر وصولاً إلى بدايات القرن العشرين، مظهراً تأثيراتها في الانتقال الاجتماعي التدريجي نحو الحداثة، وما نجم عنها من تبعات ثقافية واجتماعية لافتة. كذلك يُوضح الكتاب مفهوم «المدينة». فالمدينة، قبل أن تكون مجرّد مساحة مبنية، فهي معمورة بأناسها، ومجبولة بقصص قاطنيها، ومسكونة بأخبارهم وسيرهم، وعابقة بذكرياتهم العائلية. ومن هنا، تروي السيرة العائلية التي ينطلق منها الكتاب نماذجَ من تحوّلاتِ مدينة عربية كما وعتها العائلة، وتُبيَن كيفية تبلور بناها الإدارية، وتطوّر الأنماط السلوكية لأهلها. وهي في ذلك كله سيرة مدينة تنبض بحيوات رجالاتها وعائلاتها. تتمثل الإضافة النوعية للكتاب في تغليب الاجتماعي والإثنوغرافي على السياسي والتاريخي، وفي السعي لرأب القطيعة بين التاريخ والعلوم الاجتماعية. وانشغال الكاتب باحثاً معنياً بإثنوغرافيا بيروت ولسانها وزمانها أعانه على قراءة تطور نسيجها الاجتماعي في أواخر العهد العثماني وخلال فترة الانتداب الفرنسي.

فاستناداً إلى البحوث الاجتماعية التي تنطلق من «دراسة الحالة»، قام باستعادة نسيج صورة الحياة اليومية في بدايات حداثة المدينة كما تمثلت في سير ذاتية معيّنة تميّزت بائتلافها واختلافها في آنٍ واحد. فالوجيه البيروتي الذي أسّس عائلة من تسعة أفراد، اكتسبوا علوماً عالية في معاهد السلطنة، لم يغفل انتماءه المديني. فأطلق مع ثلاثة وعشرين عيناً بيروتياً «جمعية المقاصد» في رحلتها العلمية. كما ساهم مع زملائه المقاصديين في إغاثة وإيواء مهجّري «الروملي» في شباط 1878. وتطوع عام 1900 لإدارة حسابات مشروع «تمديد خط الحجاز». فكرّمته القنصلية الايطالية العامة في بيروت عام 1921 على جهوده، ومنحته جوازاً خاصاً حمل تأشيرتي دخول إلى فلسطين وجدة. وهكذا خرجت الهوية/ البطاقة من نطاق «دولت عليه عثمانية تذكره سيدر» إلى «حكومة لبنان الكبير» فإلى رحاب القارة العجوز، عبر جواز سفر بتوقيع الملك الإيطالي عمانوئيل الثالث.

ليس أفندي الغلغول نسيجاً وحيداً في حواضرنا العربية. فلكل عائلة «أفنديها»، الذي ضاعت أخباره، وغاب ذكره، ويحتاج لمن ينفض الغبار عنه. و «أفندينا» الذي أعاد د. سراج تظهير صورته هو نموذج لموظّف عثماني من أبناء الثغور، ممّن عانوا تبعات التغيّرات الكبرى في المنطقة خلال الحربين وما تلاها، فدخلوا مرغمين في غياهب النسيان، بعدما أدوا خدمات جلّى للدولة العليّة، وسعوا لتطوير مجتمعاتهم، وكانوا قدوة لقومهم ولعائلاتهم، بما حقّقوه من نجاحات، وعانوه من إخفاقات، حيث حرمتهم الحروب النظامية، وتلك الجهادية، من فلذات أكبادهم. وفي النهاية، تمكّنت هذه الأسرة المُسلحة بالهوية المدينية (بما تمثله من معاني الرحابة والتسامح والانفتاح والاعتراف بالآخر المختلف وتقبّله، والتسلح بقدرات علمية لدخول العصر، والتعاطي مع التحوّلات الكبرى) من التعامل مع التطورات الجيوبوليتكية التي عرفتها بلاد الشام. فالدكتور بشير آثر التخلي عن عيادته في اسطنبول وعن عائلته في بيروت وصيدا لتلبية نداء الواجب الجهادي الطبي، فالتحق بالمجاهد سليمان باشا الباروني في ليبيا لمقارعة الايطاليين (1911- 1919). ومن ثمّ لحق به إلى عُمان لتقديم خبراته في مجال تشييد المستشفيات وتجهيزها، وقضى هناك. أما الضابط العثماني الذي درس الحقوق وعيّن رئيساً لمحكمة الجنايات السيّارة، وامتهن المحاماة، محي الدين، فانتسب إلى الماسونية (محفل انطاكية في لواء الاسكندرون) باعتبارها «منظمة إنسانية» أعيد فتح محافلها في بيروت ومدن الساحل بعد إعلان الدستور الجديد (1908). ولم يخرج ابن عمه الصيدلي والمهندس الزراعي، محمد مصباح، عن هذا النطاق. فتأثر بدوره بمناخات الحرية والتغيير وبالأفكار الاجتماعية التي كانت تدعو للتآخي ومساعدة الإنسان لأخيه الإنسان، ونظم في بيته اجتماعات دورية للماسونيين. شقيقهم الثالث، إحسان، المأمور في الديون العمومية في يافا، كان يحمل تذكرة نفوس عثمانية عام 1911، والتحق بالجيش التركي في مصراتة عام 1912. ومن ثمّ استحصل في 1924 على تذكرة نفوس صادرة عن «دولة لبنان الكبير»، ثبتت لبنانيته. هذا الموظف «السوري» نفسه، استحصل عام 1929 وبصفته «مدير الديون العمومية في يافا» على جواز سفر laissez – passer فرنسي لزيارة أهله في لبنان. أما الشقيق الأصغر، الدكتور صلاح الدين، خريج جامعتي دمشق (طب أسنان) وروما (طب عام)، فقد مارس مهنته في الجزيرة العربية (جدة وعدن) حيث طاب له العيش. ولاحقاً اختارته حكومة الاستقلال ليكون قنصلاً عاماً للبنان في عدن ومحمياتها في مطلع الخمسينات.

وهكذا تدرّج الأشقاء الأربعة في معارج الهويات المتعاقبة التي لحقت تباعاً بمناطقهم، وأسبغت عليهم تبعات الانتساب إلى سلطنة عظمى، ومنها توزعوا في ارجاء دويلات وليدة لمعاهدة سايكس- بيكو، تحولت لاحقاً إلى دول قطرية احتضنتهم وحققت أحلامهم المنقوصة بعدما نعمت باستقلالٍ تمّ تحقيقه «بالتراضي». أما احلامهم الكبرى في التعبير عن إنسانيتهم عبر الانضواء في مجتمعات حديثة والخضوع لأنظمة سياسية عادلة ومنفتحة، وتؤمن بالديموقراطية، ويتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، فبقيت معلقة. ذلك أن التحرر الذي نادوا به- هم وأبناء جيلهم – وعملوا لأجله، كان مجرد نقلة نوعية عبرت بهم من هيمنة سياسية معينة إلى أخرى «أشد مضاضة» تتقنع باسم الانتداب ولم يكن في حقيقة الأمر سوى شكل متقدّم لحداثة لا تعكس إلا هيمنة سياسية من نوع آخر. فخلال أقل من عقدين، تسنّى لهؤلاء الرعايا أن يحملوا تباعاً هُويات عثمانية، فأخرى تعود لحكومة لبنان الكبير ومن ثمّ للجمهورية اللبنانية، أو تعود لدولة سورية، ناهيك بحمل بعضهم جوازات سفر أوروبية.

إنها رحلة قرن تحولت خلاله بيروت من بلدة صغيرة إلى ولاية عثمانية، ثم إلى عاصمة للبنان الكبير، فإلى مدينة عالمية، تعود للتكسّر منذ أكثر من ثلاثين عاماً على وقع الانكسار العربي الكبير.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)