السبت 10 تشرين الثاني 2018
جريدة الأخبار
ادب وفنون
رهيف فياض - معمار لبناني
حكايا الناس والأمكنة في بيروت. ولادةُ البيتِ البورجوازي ذي الأقواسِ الثلاثة وتحوُّلات ليِّنةٌ في العمارة
I - محَّطتان تاريخيتان، وتنظيم مديني كولونيالي
في أيلول (سبتمبر) من عام 1920، وبعد مرور أقل من شهرين على خروج الملك فيصل وحكومتِه العربيَّة من دمشق، أعلنَ المفوَّض السامي الفرنسيّ من شرفةِ مقرِّه الرسمي في قصرِ الصنوبرِ، ولادةَ دولةِ لبنان الكبير، وعاصمتُها بيروت. وجعل علم هذه الدولةِ العلَم الفرنسيَّ المثلَّث الألوان نفسَه. وفي وسَطِه الأبيضِ، شجرةُ الأرزِ الخضراء، وقد أرادَها رمزاً لأزليةِ لبنانَ منذ أقدمِ العصورِ (1)، متماهياً بذلكَ مع ما يحلوُ لبعضِ اللبنانيين أن يعتقدوا. وفي أيار (مايو) من عام 1926، تلَّقت دولةُ لبنان الكبير دستوراً، حوَّلها إلى الجمهوريةِ اللبنانية.
بدأت إذاً، منذ عام 1920، ما يُمكن أن نسمّيه مرحلةَ التنظيمِ المدينيِّ الكولونياليِّ والعمارةِ الكولونياليَّةِ، التي ستستمرُّ حتى مطلعِ الأربعينات. ومن أبرز محطّاتِ التنظيمِ المدينيِّ الكولونياليِّ:
• مخَطَّطُ إسقاطِ ساحةِ النَجمة في قلبِ بيروت التاريخي، فوقَ النسيجِ المدينيِّ والاجتماعيِّ القائمِ فيها آنذاك، تماهياً مع مثيلتِها المعروفةِ في باريس.
• مخَطَّطُ الأخوين دانجه (Danger) لتنظيمِ بيروت في مطلعِ الثلاثيناتِ من القرن الماضي.
• ثم مخطَّطُ الضابطِ في الجيشِ الفرنسيِّ في حينهِ ميشال إيكوشار، (Micheal Ecochard) في مطلعِ الأربعينات، لتنظيمِ مدينةِ بيروت وجزءٍ من مُحيطها، لأهدافٍ عسكريةٍ صافية.
لم تأتِ دولةُ لبنان الكبير من عدم. بل كانت نتيجة مخاضٍ طويلٍ استمرَّ قرناً كاملاً، من مطلع الثلاثينات في القرن التاسع عشر، حتى مَطلـعِ العشريناتِ في القرن العشرين. حسَمتْ فيها الحربُ العالميَّةُ الأولى، (1914 – 1918) ما سُمِّي بـ «المسألة الشرقيَّةِ»، لصالح المنتصرين في هذه الحرب. وكان للمسألةِ الشرقيَّةِ تجلياتُها الخاصَّةُ في لبنان. وقد رأى كمال الصليبي في بعضِها، ممهداتٍ لنشوءِ الجمهوريَّةِ اللبنانية الحالية.
فجبل لبنان في عهدِ الأمراء الشهابيين، كان إمارةً وراثيةً ذاتُ بنيةٍ إقطاعية، يعرف كلُّ إنسان فيها، مكانَه في ترتيبها الهرمي.
وعلى رأسِ هذه الإمارةِ، الأميرُ الشهابيُّ الذي كانَ يحكُم البلادَ كسيِّدٍ إقطاعي، بالتشاوُرِ مع رؤساء المقاطَعات التابعة له.
كانت هذه الإمارةُ السَلف التاريخيَّ لمُتصرفيَّةِ جبل لبنان، التي أُنشِئتْ في عام 1861. و«متصرفية جبل لبنان»، هي السنجقُ العثمانيُّ المُتمِّيزُ الذي أُنشئ بضمانةِ القوى الأوروبيَّةِ الست آنذاك وهي: بريطانيا، وفرنسا، والنمسا، وروسيا، وبروسيا، (ألمانيا فيما بعد) وساردينيا (إيطاليا فيما بعد) (2).
وللمرَّةِ الأولــى فـــي التاريــخ، توقَّف اسمُ لبنان عن كونه مجرَّد تعبيرٍ جغرافيٍّ، وأصبحَ «جبل لبنان» الاسم الرسميّ والمعترف به دولياً، لأراضٍ ذات طابعٍ إداريٍّ خاصٍّ، داخلَ بلادِ الشام العثمانية. و«متصرفية جبل لبنان» هذه، هي السلفُ التاريخيُّ لدولةِ لبنان الكبير (1920)، وللجمهورية اللبنانية الحالية (3).
II - محطات اقتصادية، اجتماعية
تميَّزَ جبل لبنان ومعهُ بيروت خلال المحطَّتين التاريخيَّتين المذكورتين، بكونِه ظاهرةً اقتصاديةً، واجتماعيةً، وثقافيةً، في بلادِ الشامِ وفي العالمِ العربيِّ الأوسعِ، أكثر منها ظاهرةً سياسيةً، رُغم المزايا السياسية النسبية التي أمَّنها نظامُ المتصرفية. فشكَّل تلك الزاوية من العالم العربي، التي يرى البعض أن التأثيرَ الحضاريَّ للغربِ قد وصلَ إليها، بشكلٍ ليِّنٍ ومتواصلٍ، منذُ فخر الدين الثاني، مروراً بالإمارةِ الشهابيةِ، وصولاً إلى متصرفيةِ جبل لبنان، وبعدها إلى دولة لبنان الكبير.
البيت ذو الأقواس الثلاثة، يعكسُ تعلُّق الشرائحِ العليا في الشرقِ الشاميِّ، بالإمبراطوريَّةِ العثمانية
إن هذا التأثيرَ الغربيَّ، بدا أحياناً لكثيرين دَمِثاً ومقبولاً، وربَّما كان عند البعضِ مطلوباً. أو أنه جاء تلبية لدعواتٍ محليَّةٍ مُلحَّة. فكان التكُّيفُ معه عند هذا البعضِ تدريجياً، وبدرجةٍ مماثلةٍ من اللِّينِ والدماثة. فورانٌ اقتصاديٌ لافتٌ، كانَ في أساسِ تبلور هذه الظاهرة.
فقد عاد النشاط الاقتصاديُّ إلى بيروت بعد انقطاعٍ، وبقفزاتٍ سريعةٍ، في الأربعيناتِ من القرن التاسع عشر، مع فتحِ أسواقِ دمشق أمام التجارةِ الأوروبية. وشهدت بلدةُ بيروت إثر ذلك ازدهاراً مفاجئاً، إذ أصبحت مرفأً ممَّيزاً للداخلِ الشامي، المرتكز اقتصادياً على سوقِ دمشق. نَمت بيروتُ في النصفِ الثاني من القرنِ التاسع عشر، لا لتصبحَ نقطةً تصبُّ فيها التجارةُ الأوروبيةُ مع بلادِ الشامِ فحسب، بل لتُصبح أيضاً مركزاً رئيساً للتعليمِ الغربيِّ الحديث في الإمبراطورية العثمانية، ومستودعاً كبيراً للأفكارِ الغربيَّة في العالمِ العربي (4).
وربَّما كانَ في ما يلي من معطياتٍ ومن أرقامٍ، قوة الشاهد:
كانت بيروت في بداية القرن التاسع عشر بلدةً صغيرةً، لا تتعدَّى مساحتها الـ 15 هكتاراً، وعددُ سكَّانها بحدود الـ 4000 نسمة. فبدت آنذاك بلدةً ثانويةً على ساحل ممتدٍّ، مدنُه الكبيرةُ صيدا وعكَّا، وعاصمتُه الحقيقيَّةُ دمشقُ، في الداخل. عاشت من الصيد، ومن الحِرفِ، ومن تجارةٍ بسيطةٍ عَبْرَ مرفأ متواضعٍ، مؤلِّفٍ من عدةِّ خلجان طبيعية صغيرة.
احتلها إبراهيم باشا في عام 1832 (5). فدخلت إليها معه بعضٌ من خطواتِ محمَّد على في مصر. ثم وقَّعت بريطانيا في عام 1838 مع السلطنةِ العُثمانية اتفاقيةَ التبادُلِ التجاريِّ الحرِّ. فوصلت إثر ذلك البواخرُ التي تعملُ على البخار إلى جوار مرفأ بيروت، وَبَدت عليها أوَّلُ معالمِ الانتعاشِ في عام 1840، وتراوح عددُ سكانها آنذاك بين الـ 9000 والـ 12000، فيهم سماسرة وتجَّارٌ أوروبيون كثرٌ، وتجَّار من صيدا ومن مصر. فاغتنى التجار المحليُّون المتعاملونَ معهم، وبدأت بالظهورِ طلائعُ البورجوازيَّةِ التجاريةِ الناشئة، ومعها إرهاصاتُ المجتمعِ الكوزموبوليني الذي رافقها. في عام 1856، أطلقت السلطات العثمانية ما عرف بالتنظيمات. وهو برنامج إصلاحي شامل، هَدَفَ المركزُ الإمبراطوريُّ من خلالِه، إلى استرجاعِ الإمبراطوريَّة، من الذين حاولوا انتزاعها منه. كما هدفَ أيضاً، إلى تقويةِ المدنِ وتعزيزِ دورِها في مُحيطها. فأَنشئت ولايةَ بيروت وبيروتُ عاصمتُها، والمحطَّةُ التجاريةُ الوحيدةُ بين إزمير والإسكندرية، وأصبح جزءٌ مهمٌ من التبادلِ التجاريِّ بين أوروبا والشرق، يتمُّ عَبْر مرفأ بيروت.
أما انتقالُ القناصلِ من صيدا إلى بيروت، فقد ابتدأَ في عامِ 1840 مع القنصل البريطانِّي أولاً، تَبعه آخرون. واستقرّ جميعُهم في زقاق البلاط، وفي منطقةِ السنطيةِ. تبعهم إلى هاتين المنطقتين الوجهاءُ، وكبارُ التجارِ البوجوازيين ومعظمُهم من العائلاتِ المسلمة السنية، أمثال عائلات بيهم، وقبَّاني، وحمادِه، وغيرُهم، ومعهمُ بعضُ العائلاتِ البورجوازية التجارية المسيحية، أمثال عائلات ملحَمِه، وجدَيْ، ودي فريج. أما معظم العائلاتِ البورجوازية التجارية المسيحية، فقد استقرَّت شرقَ ساحةِ الشهداءِ، في منطقتي الصيفي والمدّور، أمثال عائلات فياض، وفيعاني، وداغر، وبسترس (6).
III - محطات معمارية وتعليمية
في عام 1853 اختار والي بيروت سليم باشا، تلَّةَ القنطاري وبنى عليها القِشلَة العسكرية. ثم بنى بجانبها في عام 1861 المستشفى العسكري. وكنتيجة مباشرةٍ للحرب الأهليةِ في عام 1860، أُلحق سنجق بيروت بولاية سورية وعاصمتُها دمشق. ولم تستعدْ بيروتُ دورَها كمركزٍ لولايةٍ إلا في عامِ 1878، حيث سُجِّل ارتفاعٌ في عددِ سكَّانها من 40000 ساكن إلى 70000 ساكن. ذلك أن نزوحاً كثيفاً إليها حصلَ أثناء الحربِ في عام 1860، من جبل لبنان، وزحلة، ودمشق، وحلب.
وبقي النازحون في المدينةِ بعد انتهاءِ الحرب، وقيامِ نظامِ المتصرِّفية في جبلِ لبنان. إذ كانت بيروت محميَّةً من الجيشِ العثمانيِّ ومن الأسطولِ الفرنسيِّ المرابطِ بجوار المرفأ. في عام 1864، بنى فخري بك خاناً كبيراً على رصيف الحوضِ الوسطيِّ في المرفأ. ثم بنى التاجـر الأرمنـيُّ الإسطنبولـيُّ أنطون بيك ميسِّيريليان، خان أنطون بك الرائـع على رصيـفِ الحوضِ الغربـي للمرفأ. كما بنى الأخوان حماده سوق السِّيد أو سوق إياس لاحقاً، بموازاةِ السوق الطويلة.
مهندسُ ولايةِ بيروت في الثمانيناتِ من القرنِ التاسع عشر بشارة المهندس، واسمه الحقيقي مانوك مانوكيان، صمَّم الحديقةَ العامَّةَ وسطَ ساحةِ البرج على النمط التركي، وسُمِّيت «الحديقة الحميدية»، كما صمَّم مبنى السراي الجديد شمال الساحة، ومعظمَ المباني العامةِ الأخرى التي حاطتِ الساحة.
وكتأكيدٍ على سعيِ الغربِ كي تكونَ بيروتُ مستودعاً كبيراً للأفكارِ الغربيَّة في العالمِ العربيِّ، نشيرُ إلى أنَّ «الكلية الإنجلية السورية» (الجامعة الأميركية في بيروت لاحقاً)، تأسَّست في عام 1866. كما أن الرُهبان اليسوعيين أسَّسوا «جامعة القديس يوسف» في عام 1875.
ترافقَ تأسيسُ الجامعتين مع تأسيس مدارس وطنية تابعة للطوائفِ المحلية، مثل المدرسة الوطنية وقد أسَّسها المعلم بطرس البستاني في عام 1863، والكليَّة البطريركيَّة في عام 1865، ومدرسة الحكمة في عام 1876، وجمعية المقاصِد الخيرية الإسلامية في عام 1880، والمدراس الأرثوذكسية التي ارتفع عددُها من مدرسةٍ واحدةٍ إلى ثماني مدراس خلال عشرين عاماً. كما بنى العثمانيون مدرسةً عامةً للبناتِ ومدرسةً عسكريَّة في منطقةِ حوض الولاية (7). تحوَّلت بيروتُ في نهايةِ القرن التاسع عشر، من بلدةٍ صغيرةٍ على الشاطئ الشرقيِّ للمتوسِّطِ، إلى مدينةٍ تجاريةٍ وكوزموبوليتيةٍ كبيرة، وأصبحتْ قطباً اقتصادياً ومالياً أساسياً في بلادِ الشام.
IV - خطوات مدينية جديدة وولادةُ البيتِ البورجوازيُّ ذي الأقواسِ الثلاثة
سكنَ القناصِلُ في زقاق البلاط، وفي منطقتي السنطية والقنطاري، ومعَهم السماسرةُ والتجارُ الأوروبيون، والمبشِّرون، ومؤسِّسو الجامعاتِ ومراكز الأبحاث الاستشراقية. مئاتٌ من العائلاتِ الأوروبية سكنت منازلَ جديدةً فوق المنحدراتِ في هذه المناطقِ. والتحقَ بهم كبارُ التجَّاِر المحليين الذين توزَّعوا وفق انتمائِهم الطائفي بين غربِ ساحة البرج وشرقها، كما سبق وذكرت.
تمرَّدتِ المدينةُ على أسوارِها، وتوسَّعت. والنسيجُ المبني في المدينةِ خارجَ أسوارِها، لم يُبنَ كثيفاً متضاماً، تصنعُه البيوتُ المتلاصقةُ المنغلقةُ على خارجِها، المفتوحةُ على أفنيتها الداخليَّةِ الحميمةِ الدافئة. ولم تعبَّدْ طرقاتُ هذا النسيجِ متعرِّجةً مُلتويةً مُفاجِئة، كما الأزقَّةُ بين حاراتِ المدينة العتيقةِ وأحيائها.
عُبِّدتْ الطرقاتُ شبَه مستقيمةٍ، عريضة، تُوصِل إلى أسوارِ الحدائق. والبيوتُ الجميلة، التي بُنيت وسط الحدائقِ التصقَت بالأرضِ وبالمنحدراتِ، وتوجَّهت شمالاً وتطلَّعت إلى البحرِ، غالباً.
في هذا الإطارِ من الخطواتِ المدينية الجديدةِ المنفتحةِ، وتلبيةً لحاجاتِ الوافدين الأوروبيين، والملتحقين بهم من البورجوازيين الكوزموبوليتين من بيروت ومن متصرفية جبل لبنان، نشأ البيتُ البيروتيُّ ذو الليوانِ الوسطيِّ، والأقواسِ المروَّسةِ الثلاثة. وثمَّة حاجاتٌ مماثلةٌ بالتأكيدِ، وُجِدت في الوقتِ ذاته في حيفا في فلسطين، وفي المدنِ الساحليةِ اللبنانية الأخرى، وفي جبلة وطرطوس واللاذقية في سورية، وفي أنطاكية (في سورية سابقاً) ومرسين في تركيا، وربما أبعد من ذلك. ثمة حاجاتٌ مماثلة إذاً، في كلِّ هذهِ المدنِ المفصلية، الموجودة على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، أدَّت إلى نشوءِ نماذج للسكنِ مماثلةٍ لهذا البيت.
فعُرف هذا البيتُ: بالبيتِ اللبنانيِّ في لبنان، وببيتِ السكنِ التراثيِّ في حيفا، وبالبيتِ النيوعُثماني أو بيتِ الليوان في اللاذقية، وبالبيتِ البيروتيِّ في مِرسين، وبالبيت اللبنانيِّ في بيت لحم (8).
إن كل دراسةٍ لعِمارةِ العشرينات في لبنان عامةً، وفي بيروت خاصةً، عليها أن تبدأ بالضرورة، بتوقُّفٍ جدِّي عند نشوءِ البيتِ اللبنانيِّ، أو البيتِ ذي الليوان الوسطيِّ والأقواس الثلاثة.
إن هذا البيتَ هو النموذجُ الأساسُ، وهو المنطلقُ لتحوُّلِ العِمارة في لبنانَ خلال ثمانيةِ عقود، من عام 1860 حتى عام 1940 على أبواب الاستقلال. والفترةُ الزمنية هذه بمعظمها، تميَّزت بكونِها زمنُ ولايةِ بيروت: بيروتُ العاصمة، وبيروتُ المركزُ الاقتصاديُّ والثقافيُّ والتعليميُّ الكبيرُ، وبيروتُ الفاعِلة في متصرفِّيةِ جبل لبنان، اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.
سكنَ القناصِلُ في زقاق البلاط، وفي منطقتي السنطية والقنطاري، ومعَهم السماسرةُ والتجارُ الأوروبيون، ومراكز الأبحاث الاستشراقية
معماريون من إيطاليا غالباً، ألَّفوا الدورَ والقصورَ للأُمراء وللأرستوقراطية المدينية. وبنَّاؤون مؤلفونَ، محليّون ويونانيون وأرمن، وناقلو مهارات غير معروفين، بَنوا بيوتَ البورجوازيةِ الكوسموبوليتية الناشئة بكل فئاتها. فانتشر هذا البيتُ في كل المدنِ الساحليَّةِ اللبنانية، في جبيل، والبترون، وطرابلس، ثم انتقلَ بعـدَ ذلكَ إلـى بلداتٍ كثيـرةٍ في الجبلِ، والبقاع، والشمال.
وقد دلَّ هذا البيتُ، بنوعية عِمارته، وبالموادِّ المستعمَلةِ فيه، وبدرجةِ اهتمام البنَّائين بالديكور وبالزخرف، دلَّ هذا البيت، عَبْر كل هذه التفاصيل، على الفرزِ الحاصِلِ في بنيةِ البُورجوازية المحليَّةِ، كما دلَّ على الحاجاتِ الجديدةِ، للجمالِ والرفاهيَّة والراحةِ، لدى المجتمع البيروتيِّ، والمجتمع اللبنانيِّ، في المفهوم الواسع.
فاعتُمِد البيتُ، بصيغةٍ مبسَّطةٍ من البورجوازيَّةِ الصغيرةِ والمتوسِّطة، وبصيغةٍ مزيَّنة وأنيقة ومكلفة، من البورجوازية العليا، وبصِيَغٍ مُثقلةٍ بالديكور القوطي والكلاسكي، والكولونيالي المستعرِب، والنيوعثماني، من الأرستوقراطية المدينية. ولا يزالُ هذا البيتُ إلى الآن مسكوناً من شرائحَ اجتماعية متنوعة (9). ويؤكِّد بعضُ الباحثينَ في مكوِّناتِ عِمارة هذا البيتِ، أنه منتجٌ هجينٌ بامتياز. فهو يمثِّل من جهةٍ، المُحصِّلةَ الأخيرةَ لتحوُّلات الدارِ العربيَّةِ الإسلاميةِ ذاتِ الفناءِ الداخليِّ المفتوحِ، والمنتشرةِ في المنطقةِ منذ قرون. فقد عرفنا في بلاد الشام العثمانية بدايةً ثلاثة نماذج بسيطة للسكن وهي:
ــ نموذج البيت ذي الليوان،
ــ نموذج البيت ذي الرواق الخارجي،
ــ نموذج البيت المركَّب، والمؤلَّفِ من النموذجين السابقين.
والدار العربيةُّ الإسلامية كما عرفناها، هي تجميعُ عددٍ من المساكنِ، من نموذجٍ واحدٍ أو من عدَّة نماذج، حول فناءٍ داخليّ مفتوحٍ، في وسْطِه نافورةُ ماء. فناءٌ داخليٌّ تفتحُ عليهِ الدارُ المنغلِقةُ على ذاتِها، فيُصبح الفناءُ هو الموزِّع، وهو مكان لقاءِ الساكنين في ظروف مناخيةٍ ملطَّفة.
وفي ظروفٍ مناخيةٍ مختلفةٍ من جهة أخرى، ومع تطوُّرِ الحاجاتِ وتطوُّرِ طرقِ البناءِ، وتوفُّر موادِّ بناءٍ جديدةٍ، تمكَّن البنَّاؤون من سقفِ الفناءِ المفتوحِ الذي تحوَّل ليواناً وسطياً، تحوطُه الغرفُ من جانبيه. وأصبح هذا الليوانُ الوسطيُّ، موزِّعاً ومكاناً للقاء الأسرةِ، كما كان الفناءُ الداخليُّ المفتوحُ تماماً. وأدَّى التوزيع الوظيفي إلى تأليف مسطَّح متماثل محوره الليوان، والغرفُ على جانبيه. أما الخدماتُ والمطبخُ، فقد لُحِظَتْ في زاويةِ المسَّطح القريبة من المدخلِ، يربُطها به ممرٌّ ضيِّقٌ هو الممرُّ الوحيد في البيت.
إن هذا التأليفَ المحوريَّ في المسطَّحِ، أنتَجَ تأليفاً محورياً في الواجهةِ، بدتْ فيه الأقواسُ الثلاثةُ، وكأنها الحلُّ الوحيدُ المُمكِن (10).
وإذ ينسُب البعضُ الأقواسَ الثلاثةَ في البيتِ، إلى تأثيراتٍ معماريةٍ أوروبية آتية من البندقية، فإن البعضَ الآخر يذكِّرُ بأن أصلَ الأقواسِ العائدة إلينا من البندقية، هذا إذ صحَّت فرضية عودتِها، إنما هو عربيٌّ إسلاميٌّ، إذ كانتِ علاقةُ البندقيَّةِ ببيزنطيا، أمتنُ من علاقتِها بأوروبا. وفي كل الأحوالِ فإن التأثيرَ العُثْمانيِّ ظاهرٌ في السقفِ القرميديِّ الأحمرِ، وفي عناصرَ أخرى من البيت. وربَّما تراءَى للبعضِ، رُغم الوحدةِ في التأليفِ بين تكوينِ المسطح وتكوينِ الواجهةِ الرئيسةِ، أن البيتَ يتكلَّم لغتين معماريتين، لغةً داخليةً في المسطَّح وهي لغة موروثة أليفة، ولغةً خارجيةً في الواجهةِ الرئيسةِ، فيها بعضُ التجديد. إلا أن الأكيدَ، هو أنَّ البيت ذا الأقواس الثلاثة، يعكسُ تعلُّق الشرائحِ العليا في الشرقِ الشاميِّ، بالإمبراطوريَّةِ العثمانية التي تهجَّنتْ ثقافياً، وحوَّلتها تنظيماتُ السلطانِ عبد الحميد الثاني بالعمق (11).
هوامش
(1) - كمال الصليبي، 1991 (طبعة ثانية): بيت بمنازل كثيرة، الكيان اللبناني بين التصور والواقع. ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة نوفل، بيروت، طبعة أولى 1990.
(2) - الشيخ طه الولي، 1993: بيروت، في التاريخ والحضارة والعمران. دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى.
(3) - كمال الصليبي : المصدر ذاته.
(4) - كمال الصليبي : المصدر ذاته.
(5) - الشيخ طه الولي : المصدر ذاته.
(7) - Fouad C. Debbas : Idem
(8) - Sous la direction scientifique de Micheal F. Davie٬ 2003 : La Maison Beyrouthine Aux Troix Arcs ٬ une architecture bourgeoise du levant. Academie Libanaise Des Beaux Arts – Beyrouth٬ et Centre De Recherches et d ‘Etudes Sur L’urbanisation Du Monde Arabe –Tours. (ALBA et UMR 6592 du CNRS URBAMA).
(9) - La Maison Beyrouthine Aux Troix Arcs : Idem.
(10) - Friedrich Ragette٬ 1980 : Architecture In Lebanon ٬ The Lebanese house during the 18th and 19th centuries. Published by Caraven Books. First published in 1974 by the Amercian University of Beirut.
(11) - La Maison Beyrouthine Aux Troix Arcs : Idem.
(12) - Robert Saliba٬ 1998: Beirut 1920 – 1940٬ Domestic Architecture Between Tradition and Modernity. Published by the The Order of Engineers and Architects - Beirut.
(13) - Robert Saliba :Idem.
(14) - Robert Saliba : Idem.
(15) - May Davie ٬ 1996 : Beyrouth Et Ses Faubourgs (1840 – 1940)٬ une intégration inachevée. Les Cahiers du Cermoc No. 15.
عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية
المقال بالـ Pdf في جريدة الأخبار
حقوق النشر
مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية - يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا