المسيحية والحضارة العربية للراحل الأب الدكتور جورج شحاته قنواتي

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٣٠ مايو/ أيار ٢٠١٥
جريدة الحياة
إميل أمين


«المسيحية والحضارة العربية» كتاب لجورج قنواتي ورسالة


عن «مكتبة الأسرة» في مصر صدرت طبعة جديدة من كتاب «المسيحية والحضارة العربية»، للراحل الأب الدكتور جورج شحاته قنواتي، وفيه تأصيل لجذور المسيحيين العرب في قلب الحضارة العربية والإسلامية.

يورد قنواتي في التمهيد، نشر المستشرق الألماني جورج غراف قبل حوالى نصف قرن كتاباً عنوانه «الأدب المسيحي إلى آخر القرن الثاني عشر»، وكان لهذا الكتاب أثر واضح في الأوساط العلمية، ما شجع المؤلف على المضي في بحوثه. وكانت نتيجة عمله نشر خمسة مجلدات عن «تاريخ الأدب العربي المسيحي، منذ نشأته حتى القرن التاسع عشر»، وهو يقابل كتاب بروكلمان المشهور في «تاريخ الأدب العربي».

وجمع غراف في كتابه الموسوعة البيانات التي استطاع الوصول إليها في مكتبات العالم، حيث توجد محفوظات أو كتب لمؤلفين مسيحيين عرب، وهذا دليل على ما كان للمسيحيين، على مر التاريخ، من نشاط في ميدان النشر والحياة العقلية والاجتماعية في المجتمع العربي...

ما علاقة الأب قنواتي بهذا المجال من البحث والدرس؟ لأكثر من نصف قرن، وجه قنواتي القسط الأكبر من اهتمامه لدراسة التراث الفلسفي والعلمي واللاهوتي للعرب، وتتبع بدقة مدى أثره في الحضارة الغربية في القرون الوسطى، وفي عصر النهضة، وبموجب تخصصه في الدراسات العلمية، بخاصة الكيمياء والصيدلة من جهة، والفلسفية واللاهوتية من جهة أخرى، أتيح له الاطلاع على مصادر عدة من التراث العربي، وهنا يقر بقوله: «لقد بهرني ثراؤه الذي يصعب أن يتصوره من لا يدرسه عن كثب».

يطرح المؤلف سؤالاً جوهرياً في متن الكتاب عن المسيحية في جنوب شبه الجزيرة العربية، وهل كان لها وجود في الأصل أم لا؟

وعنده أن المسيحية دخلت في جنوب جزيرة العرب في فترة مبكرة، وكان سكانها من القبائل المقيمين على الهضاب العالية التي تسيطر على السواحل الشرقية والغربية للبحر الأحمر، قبل أن تتجه إلى البحر الهندي.

وتمضي صفحات الكتاب من الجغرافيا إلي التاريخ، حيث الالتقاء الأول بين المسيحية والفكر الإسلامي، فقد كان لنقل العاصمة الإسلامية إلى دمشق أهمية عظمى من حيث اتصال العالم العربي بالحضارة الغربية وبالتراث اليوناني بالذات، لأن دمشق هي المركز الذي اتصل فيه المسلمون للمرة الأولى بالفكر المسيحي، بل نقول «الفكر الإسلامي»، لأن الإسلام تلاقى للمرة الأولى مع المسيحية في جزيرة العرب، وإن كانت مسيحية غير صحيحة ومشوهة كان يمثلها تقليد شفهي منطبع انطباعاً قوياً بالأناجيل المتحولة أي «المزيفة» وفق تعبير المؤلف.

وعندما فتح العرب دمشق تعهدوا لمواطنيها النصارى بإبقاء خمس عشرة كنيسة، مع الحرية التامة في ممارسة عباداتهم، وبقيت إحدى هذه الكنائس، وهي كنيسة اليعاقبة، مجاورة لقصر الخليفة حتى في خلافة هشام. وإذا استثنينا بعض الأسماء نجد عظماء المسيحيين في دمشق قد عاشوا في عهد العرب، أمثال القديس سوفرونيوس، وإندراوس الأقريطي، ويوحنا الدمشقي، كما نجد مسيحيين بين المقربين إلى الخليفة معاوية: طبيبه الأول مثلاً، ووزير أمواله، ومربي أخيه، وشاعره المفضل (الأخطل).

يشدد قنواتي على أن حياة مشتركة أثناء القرنين الأولين للإسلام جمعت العرب المسلمين وأصحابهم المسيحيين، وأمسى الاقتداء ببناء الصوامع في ما يبدو أمراً ثابتاً، فقد كان المتصوفة المسلمون، حتى القرن التاسع يختلفون إلى النساك المسيحيين يسألونهم في العقائد والحياة الروحية، وأن عدداً من المقالات الأولى التي وضعت في الزهد الإسلامي، تبدو نقلاً لموضوعات مسيحية مع شيء من التوسع والتصرف. يتوقف المؤلف في شكل كبير وبتفصيل تاريخي عميق أمام مساهمة العلماء المسيحيين في تعريب التراث اليوناني وفي حركة النهضة إبان الخلافة العثمانية، وخطة الكتاب تقوم أولاً على وضع قائمة للناقلين من التراث اليوناني إلي العربية، إما مباشرة أو بواسطة اللغة السريانية، وثانياً يجمع الكتاب بطريقة مقتضبة وفي قائمة شاملة، ما نقل من التراث اليوناني على يد هؤلاء النقلة، وثالثاً إيراد أسماء العلماء المسيحيين الذين اشتهروا في ميادين العلم والفلسفة.

المصدر الأول الذي يعتمد عليه قنواتي في دراسته هو «فهرست» ابن النديم الوراق البغدادي الذي وضع كتابه سنة 987 أي في صميم القرن العاشر الميلادي، وكان متصلاً اتصالاً وثيقاً بأكبر علماء عصره وفلاسفته، يورد هو نفسه أسماءهم في كتابه: يحيى بن عدي، ابن سوار، عيسى بن علي وسليمان السجستاني، أي في ما يكاد يكون نهاية حركة النقل والترجمة، وقد كان عمل حنين بن اسحاق ومدرسته قد اكتمل، وكان يحيى بن عدي «رئيس المدرسة» في عهد النقل الثاني مات قبل عشر سنوات.

وكان «فهرست» ابن النديم مصدراً لمن جاء بعده مثل صاعد الأندلسي (المتوفى سنة 462 هـ/ 1069م) في كتابه «طبقات الأمم»، والقفطي (المتوفى سنه 646هـ/ 1248م) في كتابه «أخبار العلماء بأخبار الحكماء»، وابن أبي أصيبعة (المتوفى سنة 668هـ/ 1269م) في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء».

يذكر قنواتي نحو خمسين اسماً لعلماء من المسيحيين العرب، أما ما أنجزوا من عمل فهو بارز في قائمة الكتب التي نقلوها إلى العربية، وهي التي تعتبر نواة النهضة الفكرية آنذاك.

ويلفت المؤلف إلى الامتزاج الحضاري الذي كان قائماً بين المسلمين والمسيحيين في عهد الخليفة المنصور الذي أسس العاصمة الجديدة، بغداد، وكان شديداً حازماً انشغل في حروب كثيرة وأمضى معظم حكمه الطويل في تثبيت دعائم دولته وبناء مدينته. وعندما مرض المنصور في أواخر أيامه سنة (148هـ) ولم يفلح أطباؤه بشفائه فقالوا: «ليس في وقتنا هذا أحد يشبه جورجيس رئيس أطباء» جند يسابور» وهو «جورجيس بن بختيشوع» السرياني. وكان رئيس بمارستان جند يسابور أشهر مدارس الطب في تلك الأيام، فجاء إلى بغداد مع اثنين من تلامذته هما إبراهيم وعيسى بن شهلا وعالج الخليفة وشفاه، لذلك منعه الخليفة من الرجوع إلى بلده.

وروى ابن أبي أصيبعة حكاية طريفة في هذا الصدد تدل على الثقة التي كان الخلفاء يبدونها نحو أطبائهم المسيحيين، فقد علم المنصور أن جورجيس خلف امرأته في «جند يسابور» وليس عنده في بغداد من يخدمه، فأرسل إليه ثلاث جوار روميات وثلاثة آلاف دينار، فقبل الدنانير ورد الجواري، فلما عاتبه المنصور في الغد أجابه «إننا معشر النصارى لا نتزوج إلا بامرأة واحدة، وما دامت المرأة حية لا نأخذ غيرها».

وكان العلماء السريان في جند يسابور يؤلفون كتب الطب ويترجمون غيرها عن قدماء اليونان، فلما أتوا إلى بغداد واصلوا عملهم هذا وترجموا أو ألفوا بالعربية. على أن علامة الاستفهام في مقام إعادة طباعة كتاب قنواتي هي «هل الأب قنواتي هو أول من كتب عن المسيحيين ودورهم في الحضارة العربية وإثرائها؟».

الشاهد أن من أهم الشخصيات العربية التي ساهمت في إحياء التراث العربي في القرن التاسع عشر، يحتل الأب لويس شيخو منصباً مرموقاً، فقد اكتشف عدداً كبيراً من المخطوطات القديمة، وحققها كما ألف في أوجه عدة من التاريخ والآداب ووجه اهتماماً بالغاً في البحث والتنقيب، عن أثر الشعراء المسيحيين في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ونشر دواوينهم واستخرج ما يشتم من خلالها تعاليم المسيحية، وقد لفت نظر الباحثين إلى هذا الميدان الذي لم يعط من قبل الاهتمام الكافي. وكان حتى قبل سلفه «أفراييم» مشهوراً كخطيب مفوه، وكاتب متعدد الموهبة، واستطاع لاطلاعه على مادة غزيرة من تراث أمته أن يتبوأ مكانة مرموقة في آدابها. ويعد كتاب «تاريخ بطاركة الإسكندرية»، أشهر كتبه، وقد ترجمه العالم الفرنسي «رينودو» إلى اللاتينية فأصبح المصدر الأساسي لتاريخ الكنيسة القبطية في القرون الوسطي.

في هذا الإطار نسترجع ما ورد في الفصل الثاني من الكتاب عن المبادئ المشتركة بين المسيحية والإسلام، لكي نفهم كيف استطاع المسلمون والمسيحيون أن يعيشوا معاً على مر القرون.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)