العثور على آثار جديدة في قصر الحمراء في اسبانيا

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السايعة والعشرون ـ العدد 8320 الجمعة 18 كانون الأول (ديسمبر) 2015 ـ 7 ربيع الأول 1437هـ
غرناطة ـ من محمّد محمّد خطّابي


أولى المَعالم التاريخيّة الأندلسية في اسبانيا تسترجعُ رونقَها وإشعَاعَها

العثورُ على رُسُومَاتٍ في بَهو السباع في قصر الحَمْرَاء


أفادت مديرية مجلس إدارة قصر الحمراء وجنّة العريف، ومختلف وسائل الإعلام والصحافة الإسبانية أوائل شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري بأن الخبراء والمرمِّمين الإسبان العاملين في قصر الحمراء الشّهير بغرناطة عثروا من باب الصدفة أثناء عملهم اليومي الاعتيادي على رسوماتٍ وتصاويرَ في بهو الأسود في قصر الحمراء.

سرّ مكنون لعدّة قرون

وتفيد هذه المصادر كذلك بأن الجهة الشرقية من معلمة بهو السّباع في الحمراء ظلّ يحتفظ لعدة قرون بسرٍّ لم يفصح عنه الزمان إلاّ في الأيام الأخيرة، الذي يقدّم نموذجاً آخر جديداً لفنون الإبداع التي تخفيها أروقة، وغرف وباحات هذا القصر الإسلامي والمعلم الفريد الذي أبدع في إتقانه السلطان الأندلسي المجدّد محمد الخامس الغنيّ بالله، فقد اكتشف الخبراء المرمِّمون المكلفون بالحفاظ، وصيانة هذه المآثر العمرانية المبهرة استعمال المهندسين المعماريين المسلمين لطرائق ووسائل وتقنيات متقدّمة تختلف عن تلك التي كانت تُعرف عندهم حتى اليوم، وقد وصف الخبراء هذا الاكتشاف بأنه تقنية جديدة جدّاً، كما تم ّ العثور من طرف هؤلاء المرمّمين خلف الأخشاب المنحوتة التي تغطي أسقف الغرف والباحات بهذا البهو البديع على بعض الرّسومات والتصاوير التي تعكس الصّور الظلية للحيوانات، وهذه الرسومات لم تكن معروفة ولا مألوفة وغير معتادة في تلك الفترة.

العنصر الجديد الآخر الذي اكتشفه الخبراء المرمّمون أن تركيب المواد الخشبية في الأسقف يكمن في القطع، والجزئيات الخشبية التي لها شكل نجمة، وكل قطعة تنتهي بإحدى عشرة نقطة أو نهايات مسنونة، في حين أن هذه القطع كانت من المعتاد أن تنتهي بسنّتين إثنين فقط، وكانت هذه القطع الخشبية المتماسكة والمتلاحمة في ما بينها تستخدم لتناسب شكل النصف الدائري من القبة، وهي الخاصّية الجديدة التي تجعلها فريدة من نوعها، ويرجع تاريخها إلى عام 1380 (القرن الرابع عشر). ولم يكن معروفاً حتى اليوم وجود أشكال هندسية من هذا القبيل في الأسقف الخشبية من بين مجموع هذه البناءات العمرانية.

وتشير ماريا خوسّيه دوميني، الخبيرة المسؤولة عن فريق العمل الذي يقوم بهذه المهام: «أنّ الخصائص التي تمّيز هذه القبّة كونها تقوم على استعمال الأسفاط، يقول «معجم العُباب الزاخر»: «الطَّنَفُ والطُّنُفُ – أيضاً- إفْرِيز الحائط، وكذلك السَّقِيْفة»، وربما تكون هذه الكلمة قد انتقلت إلى اللغة الإسبانية واستقرّت فيها واستعملتها الخبيرة باسم (zafates ) وهي تعني بها قطعاً مستطيلة من الخشب غير اعتيادية بالمرّة، التي لم تقع أعينهم عليها من قبل، وعلى حدّ تعبير المرمّمة الخبيرة الإسبانية: «أنّ لهذه القطع أشكالاً غريبة جدّاً ونادرة بحيث ليس من السهولة واليسر بمكان وضع إسم خاص لها أو بها،» كما توضّح أنه من المستجدّات المهمّة التي تميّز هذه الخشبات أن جميع هذه «اللوحات» هي منحوتة وناعمة ملساء بنسبة تسعين في المئة،. وتضيف ماريا خوسّيه دوميني: «أنّ أهميّة هذا الاكتشاف تكمن في معرفة الطريقة والتقنية اللتين كان مهندسو وصنّاع بني نصر التقليديين يعملون بهما، ونوعية الزّخرفة التي كانوا يستعملونها، والتي لم يكن لنا علم بها أو عنها من قبل»، وتضيف الخبيرة: «هذا علماً أننا لم نفكّك بعد حتى الآن سوى العُشُر من السّقف إلاّ أننا يمكننا أن نرى بوضوح التركيب الهندسي على أكمل وجه، كما يمكن أن نرى العلامات التي تعمل على تحديد كل قطعة، وهناك من يعتقد أننا عند معالجتنا للجزء الثاني من هذه المعلمة التاريخية سنجد تراكيبَ هندسيةً شبيهة بالسابقة».

رسومات نباتيّة وحيوانيّة

وتؤكد الخبيرة الإسبانية أن هذا ليس هو السرّ الوحيد الذي تمّ اكتشافه، ذلك أنه في معظم القطع التي تمّ تفكيكها في السقف عثر المرمّمون في ظهرها على رسومات وتصاوير تعود لعهد بني نصر، ولقد تمّ العثور على هذه الرسومات عند بداية عملية ترميم هذه المعلمة. وعندما تمّ تسليط الأضواء على هذه الموجودات لم تظهر فقط الرّسومات النباتية، والأشكال الهندسية، وأشكال آثار الزّينة والزخرفة والتنميق، بل ظهرت كذلك الرموز ومظاهر غير عادية أو معتادة في ذلك الوقت، فضلاّ عن رؤوس بعض الحيوانات أو البشر. لقد كان من المعتاد استعمال الزخارف النباتية، إلاّ أننا في هذه الحالة، وجدنا أيضا، على سبيل المثال، وليس الحصر شكلاً مصغّراً يمثل رأس كلب». وأكدت الخبيرة الإسبانية: «أنهم مع تقدّم عملهم في هذا المجال يُنتظر بكلّ تأكيد أن نجد مزيداً من الرسومات»، التي قالت عنها إنها بحكم وجودها في الجانب الخلفي من السقوف الخشبية ونظراً لعدم وجود الورنيش (البرنيز) أو الأوساخ، أو الأتربة بها فقد ظلت محفوظة بشكل مدهش، وقالت إن جميع الرّسومات التي تمّ العثور عليها ستصوّر، وسيتمّ حفظها ووضعها ضمن أرشيف خاص لتكون رهن إشارة الدارسين والمتخصّصين.
وقالت الخبيرة الإسبانية انه لا يُعرف لحدّ الآن لماذا تمّ رسم هذه الرسومات التي لم تكن اعتيادية في ذلك الإبّان، وأضافت قائلةً – على سبيل الدّعابة والمزاح ـ ربما كان الملل هو حافزهم لوضع هذه الرسومات، وفسّرت ذلك بقولها: «مثلما نفعل نحن اليوم عندما ننتظر مكالمة مّا فنقوم بخربشات على ورقة بيضاء، إلاّ أنه من المؤكد أنهم لم يتخيلوا أننا سنعثر يوماً على أعمالهم، أو نكتشف رسوماتهم». وقالت إن هذه الرسومات التي تمّ العثور عليها بين تعاريج، وثنايا وخبايا المعلمة الأكثر جذباً للسياح في إسبانيا، تخرج اليوم إلى النور على الرّغم من أنه ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها معالجة وترميم هذه الجدران التي سبق أن رمّمت عامي 1923 و1936 .

وعلى إثر هذا الاكتشاف قال مدير مجلس إدارة قصر الحمراء وجنّة العريف، رينالدو فرنانديث مانثانو: «إنّ قصر الحمراء ما فتئ يفاجئنا في كلّ مرّة «وعليه فإنّ عملية الترميم ستستمرّ على امتداد الإثني عشر شهراً المقبلة» وقال لابدّ أن هناك أسراراً أخرى قد يتمّ اكتشافها في الأيام المقبلة. ويشير مسؤول آخر لعمليات الترميم وهو رامون روبيو إلى: «أنّ عملية الترميم في الجانب الشرقي من معلمة بهو السّباع بقصر الحمراء ليست هي العملية الوحيدة التي يقوم بها الخبراء الإسبان حالياً بأعمال صيانة وترميم الجصّ، بل إنهم منكبّون كذلك على ترميم قاعة الملوك، وتتمّ الأعمال لأوّل مرّة في هذا القبيل طبقاً للمعايير والطرق العلمية الدّولية الدقيقة المستعملة في معظم المآثر والمعالم العالمية في الوقت الراهن.

منذ ثلاث سنوات كانت قد عادت أسود قصر الحمراء لتزأر من جديد في البهو الكبير الذي يتوسّط هذا المعلم المعماري والحضاري الإسلامي الفريد الذي ما فتئ يبهر عيون الملايين من الزوّار، ويذهل عقولهم وألبابهم من كل الأعراق والأجناس الذين يتقاطرون عليه كل يوم بدون انقطاع من كلّ صوب وحدب. حتى أصبح هذه المعلم يحتلّ المرتبة الأولى بين مختلف المعالم والمآثر التاريخية والعمرانية «الإسبانية» من حيث جذبه للزوّار، بل إنه أجملها وأروعهاعلى الإطلاق – وحسب إدارة قصر الحمراء وجنّة العريف- فإنّ كلا من «قصر الحمراء» وملحقته «جنّة العريف» قد حققا رقما قياسيا تاريخيا في السنوات الأخيرة حيث زارهما ملايين السياح. وفاقا بذلك بكثير جميع المعالم التاريخية الإسبانية الأخرى. عادت هذه الأسود، وآبت إليها المياه البلّورية العذبة تتدفّق من أفواهها بخريرها المتناغم منسابة رقراقة على إيقاع أصوات موسيقية غنائية سحرية أسطورية زريابية لا تسمعها سوى آذان جدران الحمراء.

رحلة إلى الماضي البهيج

أعمال الترميم كانت قد بدأت منذ عدّة سنوات، عمليات دقيقة خضعت لها هذه الأسود لتعيد لها رونقها القديم، وإشعاعها وبهاءها التي ليس لها نظير. لقد أصبح المرمر الأبيض الناصع يغطّي أرضية هذا البهو البهيج، والمياه تنساب في لطف بين «السّواقي» التي تملأ المكان كما كانت عليه في عهدها السابق في القرنين الرابع عشر والخامس عشر (مازالت كلمة «السّاقية» تستعمل في اللغة الإسبانية إلى اليوم بمعناها العربي القديم نفسه «acequia») .

خضعت هذه الأسود الإثني عشر الأصليّة لعمليات ترميم دقيقة، بعد أن نزع عنها الخبراء كل ما علق بها من المواد الغريبة بفعل التآكل والرطوبة ومرور الزمن، واكتشف المرمّمون خلال عملهم أن كل أسد من هذه الأسود يختلف عن الآخر، وهذه الفوارق يمكن الآن مشاهدتها بشكل أكثر وضوحا من ذي قبل في فروها وفكاكها وخطامها وأذنابها، بل حتى في تعابير وجوهها، وقد بلغت تكاليف الترميم ما ينيف على 2.24 مليون يورو. بمشاركة أزيد من مئة خبير ومتخصّص في عين المكان الذي توجد فيه الأسود.

بالإضافة إلى عمليات ترميم الأسود تمّ إصلاح وتحديث النظام الهيدروليكي أو المائي وتصفيته بعد أن كان قد اعتراه البلى وعلقت به بعض المواد المعدنية كالكلس وعوالق أخرى، كما تمّ استخراج المياه الآسنة، وتنقية المجاري الجوفية، وتركيب نظام هندسي متطوّر خاص لمراقبة حرارة المياه لتفادي إلحاق أيّ أضرار محتملة، سواء بالقنوات والمجاري المائية، أو بمجسّمات السّباع مع مرور الزمن وانصرامه. ويشير الخبراء الإسبان الذين أشرفوا على هذه العمليات إلى أنهم قد أعادوا استعمال الممرّات المائية الدفينة (غير المرئية) واستغلال مياه النبع القديم الذي صمّمه واستعمله الخبراء المسلمون في القرن الرابع عشر بأمر من السلطان الأندلسي محمد الخامس من قمّة المنحدر المعروف باسم : «السّبيكة».

الأعمال الترميمية البالغة الدقّة التي أنجزت في هذا الشأن والتي تنقل الزائر الجديد للحمراء في رحلة سحرية إلى الماضي البعيد تمّت إستنادا إلى مراجع ووثائق تاريخية قديمة تعود للعصرالذي شيّد فيه قصرالحمراء، وبناء على شهادات وأوصاف العديد من المؤرخين المسلمين والأجانب. وحسب المؤرخ الألماني «هيرومينوس مونسير» (1434- 1508) فإنّ أرضية البهو في زمانه: «كانت كلها مكسوّة بالمرمر الحرّ الأبيض، وكانت القنوات المائية التي تمخر المكان والتي تنطلق من النبع ترمز إلى الأنهار الأربعة التي تقود إلى الفردوس». ويشير المهندس الإسباني بيدرو سالمرون الذي أشرف على عملية وضع المرمر الجديد: «أنّ كل الشهادات والروايات في ذلك الوقت تؤكّد أن الأرضية الجديدة هي الآن تماما كما كانت عليه عندما رآها لأوّل مرّة الملكان الكاثوليكيان فرناندو وإيزابيل بعد دخولهما لغرناطة، وأنه تمّ وضع 250 قطعة من المرمر على مساحة 400 متر مربّع ذات مقاييس وأوزان متباينة تتراوح بين 50 و 400 كيلوغرام». وابتداء من الآن- بعد هذه الترميمات الدقيقة – فإنّ بهو الأسود وجميع أركان قصر الحمراء وملحقاته ستخضع لمراقبة صارمة، وحراسة مشدّدة، وصيانة دورية منتظمة.

ساحة السّباع أو بهو الأسود هي من إنجازات السلطان الأندلسي محمد الخامس الغنيّ بالله، وهي تضمّ الباحة التي تتوسّط قصر الحمراء بأسودها الاثني عشر، والبناءات المحيطة بها مثل قاعة الأختين، وقاعة بني سراج، بالإضافة إلى قاعة الملوك، (أو قاعة العدل) وقاعة المقربصات، بالإضافة إلى النافورة التي تتّخذ شكل قصعة مستديرة بديعة الشكل كحوض من المرمر يحملها اثنا عشر ضرغاماً تمجّ المياه من أفواهها وتتطاير لتسقط في رفقٍ ولطف وانسياب على جنبات النافورة المحيطة بها .

الحمراء ألبوم شعري على مرمر

للمستشرق الإسباني الراحل إميليو غارسيا غوميس كتاب تحت عنوان: «قصائد عربية على جدران وينابيع الحمراء» هذا الكتاب هو عصارة عمل يمتدّ لسنوات طويلة، بدأ فيه المؤلف منذ أن كان حديث العهد بالوصول إلى غرناطة عام 1930 ليشغل أستاذ كرسي في جامعتها، حيث طفق في العمل على جمع مواد هذا الكتاب ثم انقطع عن ذلك، وفى عام 1943، ضمن الخطاب الذي ألقاه غارسيا غوميس عند قبوله عضوا في المجمع التاريخي الإسباني تحدّث عن ابن زمرك شاعر الحمراء ففاجأ الحاضرين بالمعلومات التي قدّمها، سواء عن هذا الشاعر أو عن الحمراء، التي تعتبر في نظره ظاهرة فريدة من نوعها في العالم. إن قصر بني نصر الكبير يعتبر بمثابة «مصنع» إعجاب، وهو خلاصة حساسية مفرطة، وذكاء وقّاد أكثر ممّا هو مصدر ثراء ورفاهية وترف. يحتوي هذا القصر على «ديكور» يكاد يشبه أرقى ديكورات المسارح العالمية، بل يفوقها جمالا وجلالا لأنّه ديكور حيّ دائم خالد وموح بالحبّ الذي ينبعث من كل جوانبه.

تضمّ الحمراء بين جوانبها خاصيّة مميّزة ومحيّرة كونها تعتبر «ألبوما» شعريا لثلاثة وثلاثين قصيدة تنتمي لشعراء معروفين أو مجهولين، كتبت أو بالأحرى نقشت أشعارهم على المرمر المصيص الخالص، أو الخشب الصلب، في جدرانها ونافوراتها وهي تكوّن بذلك في دقّة وانسجام رائعين صنفاً من الأصناف الأدبية التي يمكن أن نطلق عليه بالشعر المنقوش كتابة.

إنّ نهي القرآن على تقديم أشكال مشخّصة للأحياء، أدّى إلى أوج ازدهار الفنّ الكتابي أو فنّ الخطاطة، حيث بلغ في الإسلام مستويات فنيّة راقية لا مثيل لها في أيّ ثقافة أخرى. قال قائلهم في هذا الصدد:

تعلّم قوامَ الخطّ يا ذا التأدّبِ / ولازم له التعليمَ في كلّ مكتبِ

فإن كنتَ ذا مالٍ فخطّك زينة / وإن كنتَ محتاجا فأجملُ مكسبِ

لا تنفرد الحمراء بهذا المستوى الجمالي وحسب، بقدر ما تنفرد القصائد المسطّرة على جدرانها كذلك بنفس المستوى، أن تكاثف هذه الظاهرة وتدرّجها يمكن أن تلمس بشكل ملحوظ في القرن الرابع عشر. هناك ثلاثة أسماء تمثل القصيدة المنقوشة وهي : إبن الجيّاب، ابن الخطيب، وابن زمرك وهو أهمّهم وقد شغل الثلاثة جميعهم منصب الوزير الأعظم، وكانوا كتّابا كبارا للبلاط الملكي، إننا إذن أمام فنّ غنائي بلاطي بمعناه الواسع، إذ كانوا يشرفون بأنفسهم على تزويق وتنميق المباني، كما كانوا يشرفون على وضع القصائد والزيادة أوالنقص فيها أو منها حتى تتلاءم والحيّز المكاني المخصّص لها في مكانها من القصر، كان عملهم ضرباً من ضروب الفنّ والثقافة والشّدو والغناء واللّهو والتّسرية والتسلّي، وبهذه الرّوح كان الملك يوافق على مقترحاتهم .

إنّ تعاطي الشعراء الثلاثة للسّياسة يفسّر الأخبار الكثيرة المتداولة عنهم والتي لها صلة بهم، فإثنان منهما اغتيلا نتيجة الصراعات التي كانت تنتشر وتحتدم في القصر وهما ابن الخطيب وابن زمرك، أمّا ابن الجيّاب فقد أمكن له أن يموت في سريره ضارباً بذلك «رقما أوليمبيا قياسيا» في غرناطة بني نصر .. أعماله غير معروفة جيّدا وهي مبثوثة في كتب وتآليف مختلفة وضعت في حقب متفاوتة من التاريخ .

وتحتل كل قصيدة من القصائد الثلاثة والثلاثين لهؤلاء الشعراء مساحة تتراوح بين أربعة وعشرين بيتاً من حيث التركيب في عدّ تنازلي حتى تصل إلى بيت واحد. وأوسط هذه القصائد تتراوح بين أربعة وثمانية أبيات .

يتحدّث الشاعر بشكل مباشر إلى شخص الملك الباني، أو الملك المتفرّج، أو يستفهم الآثار والمعالم .أو يشخّص المكان الذي توجد فيه الخطوط المكتوبة شعراً .ويجعل التركيب برمّته مجموعاً في فم المكان ذاته .

القصائد التي تنمّق الجدران والنافورات والحيطان توجد في المشور و(ساحة الأسود) ،والأبراج وفى جنّة العريف. هذا التنظيم الطوبوغرافي هو الموجود في الكتاب . وبطبيعة الحال فإنّ التركيبات ليست تصوّرية في شكل واقعي ذلك أن الحمراء لو إختفت فرضاً فإنه سيكون من غير الممكن الإقتداء بهذه القصائد لإعادة تشييدها من جديد .

لوركا وتكريمه لشعراء الحمراء

من القصائد التي تسترعي إنتباه الزّائر/ القارئ /المشاهد على هذه الجدران تلك التي توجد في قاعة «الأختين» فى(بهو الأسود). أن ابن زمرك هو الغسق اللمّاع الآيل للغروب للقصيدة العربية الأندلسية التي كانت ما تزال تحتفظ بجمالها ورونقها في عهده، إلّا أن مجموع هذه القصائد تشكّل جمالية مركّبة لا يمكن فصلها عن الإطار الذي توجد فيه.

يشير الباحث الإسباني «مغيل غارسيا بوسادا» أن هذا العمل الأدبي يعدّ ذا قرابة بالشعر الاسباني الحديث، إذ يشير المؤلف أن الشاعر الغرناطي الكبير فدريكو غارسيا لوركا كان قد قال له في خريف 1932 أن في نيّته وضع كتاب عن ابن زمرك الذي نشرت بعض قصائده في أحد أكبر الدواوين جمالاً في العالم، والذي صدر في مستهلّ الحرب الاهلية الإسبانية حيث أجاب المستشرق غارسيا غوميس في حينه أنه بدوره كان قد أعدّ ديواناً تكريميّاً لهؤلاء الشعراء الغرناطيين القدامى، ويشير الكاتب أننا نعرف أن هذا الديوان لم يكن مكتملاً كمجموع عضوي، وأنّ أجمل محتوياته وأكثرها إثارة هي قصائد الشعراء العرب الأندلسيين الذين كان المستشرق غارسيا غوميس قد نشر بعضها في «مجلة الغرب»عام 1928 وأعجب بها لوركا أيّما إعجاب.

ويشير الكاتب أن السّبب الذي جعله يعمل على إصدار ذلك الديوان الكبير كان هو الحوار الذي دار بين المستشرق غارسيا غوميس والشاعر غارسيا لوركا. إذعندما كان غارسيا لوركا يقدّم قصائد ديوانه عام 1935 في مدينة برشلونة سجّلت الصحافة الصادرة في ذلك الوقت بهذه المدينة ما يفهم منه إعترافه بتفوّق سكّان الأندلس في الإبداع الشعري وإعجابه بهم، حيث قال قبيل قراءة ديوانه أمام الملأ: «إنّ الأشعار التي يضمّها هذا الديوان هي مهداة إلى الشعراء العرب الذين كتبوا قصائدهم على جدران الحمراء بغرناطة» .

تبلغ مساحة قُطر سقف بهو الأسُود حوالي ثلاثة أمتار ونصف المتر ،ويعلوه 669 من القطع الخشبية المنحوتة بشكل هندسيٍّ بديع على هيئة أنجم، وتتمركز الزّخرفة في الشكل المثمن في الأعلى، الذي نُحتت قطعُه كذلك بدقّة متناهية متعدّدة الألوان.ويعتبر بهو الأسود من أشهر أجنحة قصر الحمراء، وهو بهو مستطيل الشكل، تحيط به من الجهات الأربع أروقة يحملها مائة وأربعون عموداً من الرّخام الأبيض الناصع، وعليها أربع قباب مضلّعة .ويؤكد المؤرّخون أن نافورة الأسود على حوضها المرمريّ المستدير إثنى عشر أسداً من الرّخام الخالص كانت المياه تخرج من أفواهها بحسب ساعات النهار والليل، وقيل أن مخارج هذه المياه تعطّلت حين حاول الإسبان التعرّف على سرّ وكيفية إنتظام تدفّق المياه بالشكل الزمني المتواتر الدقيق الذي كانت عليه. وكانت فوّارات ونافورات وحدائق وبساتين قصرالحمراء وجنّة العريف نموذجاً متطوّراً ومحيّراً لما أدركته هندسة الريّ والسقي والبستنة، وبلغته الفنون المعمارية الأندلسية في هذا القبيل من أوجٍ ورقيٍّ في ذلك الإبّان.

عن موقع جريدة القدس العربي

عن موقع جريدة القدس العربي الجديد

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عن الصورة المرفقة بهذا المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)