السرد في الشعر العربي

, بقلم محمد بكري


جريدة الرياض السعودية


النسخة الإلكترونية من صحيفة الرياض اليومية
السبت 9 شعبان 1435 هـ - 7 يونيو 2014م - العدد 16784
الصفحة : ثقافة اليوم


عابد خزندار


شغل النقاد وعلماء اللغة العرب في الشعر بالمحسنات اللفظية علم البديع) وبالمجاز(علم البيان) وبالمضمون (علم المعاني) ولم يلتفتوا أو يعنوا، فيما أعرف بالسرد إلاّ فيما ندر، ولعلّ السبب في ذلك، فيما أعرف أيضا، أنّ الشعر العربي فيما عدا الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي الأول في الحجاز خلا منه، وانصرف الشعراء بعد هاتين الفترتين في العصور الأولى إلى المديح والهجاء وشيء من الغزل الذي لا يقصد لذاته، وإنما توطئة للمديح

والمتنبي يقول:

إذا كان مدحا فالنسيب المقدم أكلّ فصيح قال شعراً متيم

وهذا شاعر آخر يقول:

وما برح المدح بعد النسيب وذا مذهب شاع بين الأمم

وهناك أيضا وأكرر في العصور الأولى شعراء قلائل انصرفوا إلى الغزل المحض، أعدّ منهم ولا أعددهم العباس ابن الأحنف والشريف الرضي، ونبدأ بالسرد في الشعر الجاهلي، وسأكتب عن شاعرين وحسب هما امرؤ القيس ولبيد، وليس بوسعي أن أستغرق كلّ هذا الشعر، فالجهد والوقت لا يسمحان بذلك، فأنا أنوء تحت الثمانين من العمر وأكتب عموداً يومياً في صحيفة الرياض

امرؤ القيس الملك الضليل

ويلقب أيضا بذي القروح مما سيأتي ذكره فيما بعد، ونبدأ بهذا المقطع من معلقته

ويوم عقرت للعذارى مطيتي *** فياعجبا من كورها المتحمل

فظلّ العذارى يرتمين بلحمها *** وشحم كهداب الدمقس المفتل

عقر: لها عدة معان، والذي يعنينا هنا هو قطع إحدى قوائم البعير ليسقط فيتمكن من ذبحه، وتعني أيضاً مما سيرد في بيت لاحق الرحل الظهر: جرحه

والكور: الظهر

والهداب: ما استرسل من الشيء

ويبدأ المقطع بكلمة (يوم)وهي بمثابة كان ياما كان

ثم يتحدث عن يوم آخر

ويوم دخلت الخدرخدر عنيزة *** فقالت لك الويلات إنك مرجل

تقول وقد مال الغبيط بنا معاً *** عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه *** ولا تحرميني من جناك المعلل

الخدر: ما آواك من بيت ونحوه، ولكنها تعني هنا الهودج، والمتنبي يقول

سقاك وحيانا بك الله *** إنما على العيس نور والخدور كمائمه

ومما يؤكد هذا المعنى لفظة مرجل، أي إنها ستصبح راجلة بعد أن كانت راكبة، والغبيط هو أيضا الهودج، وقد مال لأنه انتقل إلى جانبها في الهودج بعنفوان، وبعد أن يقول لها سيري يضيف بتعال واحتقار

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع *** فألهيتها عن ذي تمائم محول

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له *** بشق وتحتي شقها لم يحول

وقريباً من هذا المعنى قوله

ومنهن سوفي الخود قد بلها الندى *** تراقب منظوم التمائم مرضعا

والصورة جميلة ولكنها فاحشة، ولهذا لن أوضحها وأتركها لفطنة القارئ

ويأتي يوم آخر

ويوما على ظهر الكثيب تعذرت **عليّ وآلت حلفة لم تحلل

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل *** وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

أغرّك مني أن حبك قاتلي *** وأنك مهما تأمري القلب يفعل

وما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي *** بسهميك في أعشار قلب مقتل

ويقال وهو ما لا أجزم به - إنّ فاطمة هذه زوجة أبيه، وإنّ أباه اكتشف تعلقه بها وطرده، وهذا ما نعرفه لأنه قال فيما بعد ما مفاده تركني صغيراً وحملني ثأره كبيراً

ويلاحظ أن الحوار يتخلل السرد الذي يمكن لذلك أن يتحول إلى فيلم سنمائي

ثمّ يأتي مقطع سردي آخر

وبيضة خدر لا يرام خباؤها *** تمتعت من لهو بها غير معجل

تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً *** عليّ حراساً لو يسرون مقتلي

إذا ما الثريا في السماء تعرضت *** تعرض أثناء الوشاح المفصل

فجئت وقد نضت لنوم ثيابها *** لدى الستر إلاّ لبسة المتفضل

فقالت يمين الله مالك حيلة *** وما أرى عنك الغواية تنجلي

خرجت بها أمشي تجرّ وراءنا *** على أثرينا ذيل مرط مرحل

فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى *** بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

هصرت بفودي رأسها فتمايلت *** عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل

إذا التفتت نحوي تضوع ريحها *** نسيم الصبا جاءت بريح القرنفل

ثمّ يمضي بعد ذلك ليصفها في عدة أبيات، تبدأ بهذا البيت

مهفهفة بيضاء غير مفاضة *** ترائبها مصقولة كالسجنجل

وينهي الوصف بهذه الأبيات

إلى مثلها يرنو الحليم صبابة *** إذا ما اسبكرت بين درع ومجول

ألا ربّ خصم فيك ألوى رددته *** نصيح على تعذاله غير مؤتل

وبيضة خدر، أي ربّ بيضة خدر، والخدر هنا يعني البيت أو الستر أو الخباء، والنسوة يشبهن بالبيض لأنّ البيضة أولا مصونة، فالطير يصون بيضه ويحضنه، وثانيا لصفاء البيض ونقائه، وفي القرآن الكريم : « وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهنّ بيض مكنون »، وصاحبته مكنونة لأنّ هناك أحراساً يحيطون بها، وقد يقتلون من يتجاوزهم إليها، ولكنّ ذلك لم يحل بينه وبينها، على أننا نفهم أنها كانت تنتظره إذ كانت واقفة لدى الستر بعد أن خلعت ثيابها ما عدا ما تلبسه أثناء النوم، وقد جاءها مع طلوع كوكب الثريا في الأفق الشرقي، وشبه نواحيها بنواحي الوشاح، ورغم الحراس أطال المقام معها (لهو غير معجل) والمخلخل كناية عن الساق، إذ إنّ الخلخال لازمة من لوازم الساق

وهذه الزيارة الليلية، أو إن شئت السطو تتكرر في قصيدة أخرى مع امرأة متزوجة مكنونة، وهو يصفها قائلا في مقطع سردي يتخلله الحوار

سموت إليها بعد ما نام أهلها*** سموّ حباب الماء حالا على حال

فقالت سباك الله إنك فاضحي *** ألست ترى السمار والناس أحوالي

فقلت يمين الله أبرح قاعدا *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

حلفت لها بالله حلفة فاجر *** لناموا فما من حديث ولا صال

فلما تنازعنا الحديث واسمحت *** هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

وصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا *** ورضت فذلت صعبة أيّ إذلال

فأصبحت معشوقا وأصبح بعلها *** عليه القتام سيئ الظنّ والبال

يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه *** ليقتلني والمرء ليس بقتال

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي *** ومسنونة زرق كأنياب أغوال

والقصة تصور فجوره كل التصوير، خاصة كما يبدو أنّ زوجها نائم يغطّ غطيط البكر قريبا منهما، ولعله كما نفهم من الأبيات أحسّ به وأراد أن يقتله فجبن عن ذلك، فهو ليس بقتال ثمّ إنّ أمرأ القيس ابن ملك، على أنّ هذه الأبيات رائعة وفيها صور جميلة، كالسمو الذي يشبه سمو حباب الماء فلا يصدر عنه أي صوت، وتشبيهها بغصن النخلة ذي الشماريخ، وفي البيت الأخير تشبيه يعتبر من الشوارد وهو تشبيه شيء محسوس ومادي بشيء غير محسوس بحيث يترك للخيال العديد من التخيلات، فمن منّا رأى الأغوال، ومن هذا القبيل ما جاء في سورة الصافات: إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم (64)طلعها كأنه رؤوس الشياطين (65)فمن منّا رأ ي رؤوس الشياطين،، ثمّ يأتي مقطع يدلّ على أنّ هذا الملك الضليل يتقلب في نعمائه ولا يحسد على ذلك

وليل كموج البحر أرخي سدوله ***عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمّا تمطى بصلبه *** وأردف أعجازا وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي *** بصبح وما الإصباح منك بأمثل

كأنّ الثريا علقت في مصامها *** بأمراس كتان إلى صمّ جندل

الكلكل: الصدر، السدل: إسبال الرجل لثوبه، العجز: ما بعد الظهر، المرس: الحبل

وفي هذه الأبيات استعارة: أرخى سدوله، تمطى بصلبه، أردف أعجازا، ناء بكلكل، والاستعارة تمطى بصلبه من البعير، وتمطى بصلبه .. الخ فيها تمثيل وهو باب من أبواب البيان وهذا فرع من فروع البلاغة العربية، والتمثيل يمكن أن يتحول إلى لقطة سنمائية، ومن قبيل التمثيل قوله تعالى: « فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها » فالمراد الحسرة وليس تقليب الكفين

وهو يشكو طول الليل في أبيت أخرى

تطاول الليل علينا دمون

دمون إننا معشر يمانون

وإننا لأهلنا محبون

ودمون منطقة في حضرموت وهي التي نفاه أبوه إليها، فهو إذن كندي يمني

على أنّ الصبح حين يأتي بعد لأي لا يأتي معه إنجلاء الهم فهو يحيا في همّ مقيم، وبعد الإنغماس في اللذات والغرق في مستنقع الغواية يفيق ويصحو، ويدرك أنّ ما عاشه هباءً وقفرا ويردد

أرانا موضعين لأمر غيب *** ونسحر بالطعام وبالشراب

عصافير وذبان ودود *** وأجرأ من مجلحة الذئاب

إلى عرق الثرى وشجت عروقي *** وهذا الموت يسلبني شبابي

ونفسي سوف يسلبها وجرمي *** فيلحقني وشيكا بالتراب

وقد طوفت في الآفاق حتى *** رضيت من الغنيمة بالأياب

وفي بيته الأخيريتنبأ بنهايته التراجيدية التي سنتحدث عنها بعد قليل، على أنّ الإياب لا يكتب له كما سنرى فيما بعد

وفي نفس الوقت تحيط به الأمراض من كل جوانبه فيردد يائسا

وما خلت تبريح الحياة كما أرى*** تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا

ولو أنها نفس تموت جميعة *** ولكنها نفس تقطّع أنفسا

ولأنّ لكل طاغية نهاية، فقد ثار بنو أسد وهم قبيلة مضرية عدنانية على ملكهم حجر ابن الحارث الكندي أب أمرئ القيس، الذي كان يشتط عليهم في طلب الأتاوة ويستبدّ بهم فقتلوه، فلما بلغ نبأ مقتله أمرأ القيس، وكان أبوه قد طرده كما مرّ القول، حاول أن يأخذ بثار أبيه، فلم ينل من ذلك ما يبتغيه من استعادة ملك أبيه فرحل إلى القسطنطنية ليحث قيصرها على نجدته، فلم يجبه إلى طلبه، فعاد مقهورا خائب الرجا ء إلى موطنه، ولكنه مات في الطريق متأ ثرا بقروحه، ويقال أنه مات بمرض الزهري ولكني لا أجزم بذلك، وأيا كان الأمر فقد انتهي نهاية تراجيدية كأبطال التراجيديا الأغريقية.

عن موقع جريدة الرياض السعودية


جريدة الرياض أول جريدة يومية تصدر باللغة العربية في عاصمة المملكة العربية السعودية صدر العدد الأول منها بتاريخ 1/1/1385ه الموافق 11/5/1965م بعدد محدود من الصفحات واستمر تطورها حتى أصبحت تصدر في 52 صفحة يومياً منها 32 صفحة ملونة وقد أصدرت أعداداً ب 80-100 صفحة وتتجاوز المساحات الإعلانية فيها (3) *ملايين سم/ عمود سنوياً وتحتل حالياً مركز الصدارة من حيث معدلات التوزيع والقراءة والمساحات الإعلانية بالمملكة العربية السعودية، ويحررها نخبة من الكتاب والمحررين وهي أول مطبوعة سعودية تحقق نسبة (100٪) في سعودة وظائف التحرير.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)