«التعريف» بابن خلدون: سيرة ذاتية نادرة في الثقافة العربية

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الأربعاء، ٣٠ أبريل/ نيسان ٢٠١٤
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


ضمن اطار استنكاف المثقف العربي والإسلامي على مدى تاريخ الفكر، بالمعنى التراثي على الأقل، عن الاهتمام بالفرد والعناية بالذات، نعرف ان التراث الفكري والكتابي عندنا لم يخلف الكثير من الأعمال التي تنتمي الى السيرة الذاتية، أو حتى الى السيرة في شكل عام. وفي التراث العربي، حين يجرى الحديث عن النوع الكتابي المعروف بالسيرة، فإن المعني بذلك يكون الكتب والنصوص التي تتحدث، بالتحديد، عن سيرة الرسول (ص). أما السيرة والسيرة الذاتية فإنهما شبه غائبتين، اللهم إلا إذا اعتبرنا «سير» الأدباء وغيرهم من العلماء التي ترد على شكل مقتطفات تعريفية في أعمال موسوعية مثل «وفيات الأعيان» أو «طبقات الشافعية» أو «شذرات الذهب» أو حتى «معجم الأدباء» و «الأغاني» من ذلك النوع، علماً أن هذه النصوص القصيرة، تتحدث عن كتابات الأدباء والمعنيين بالأمر ونادراً ما تهتم بالربط بين حياتهم وكتابتهم.

انطلاقاً من مثل هذه الملاحظة يمكن القول ان الذات والفرد غائبان الى حد كبير، إذاً، ومع هذا لم يخلُ الأمر من كتب وضعها، أو أملاها بعض من كبار المفكرين والأدباء العرب، عاشت حتى اليوم تحمل سيرهم، أو ما شاؤوا أن يرووه للخلف من تلك السير. وحتى هنا قد يغلب الطابع التبريري (كما في «المنقذ من الضلال» لأبي حامد الغزالي)، أو طابع التسجيل المسهب للترقي العلمي (كما في سيرة ابن سينا التي أملاها على الجوزجاني). وحتى خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث ازداد عدد كتب السيرة، في شكل ملحوظ، وصارت لكل مفكر أو كاتب أو عالم سيرة كتبها بنفسه أو أملاها أو أوصى بها - نقول هذا ونفكر بالطبع بكتب للإمام محمد عبده أو طه حسين أو أحمد أمين أو ميخائيل نعيمة أو زكي نجيب محمود أو حتى عباس محمود العقاد وغيرهم - ظل الطابع التبريري غالباً، حيث ظللنا نفتقر الى ذلك النوع الكتابي الذي يقوم على مبدأ البوح القريب من أدب الاعترافات، في حديثه الصريح عن الذات، في صعود أحوالها وهبوطها. ومن هنا يقف كتاب «التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً» لصاحب «المقدمة»، فريداً من نوعه في هذا المجال. والكتاب على رغم عنوانه الذي قد يوحي بغير ذلك، كتبه ابن خلدون عن نفسه بنفسه... وباستفاضة وصراحة جعلتا الدكتور علي عبدالواحد وافي، أحد أفضل محققي «المقدمة» في النصف الثاني من القرن العشرين، يتحدث عن الكتاب قائلاً: «صحيح انه قد سبق ابن خلدون في هذا الفن كثير من مؤرخي العرب وأدبائهم (...) ولكن هؤلاء وغيرهم ممن تصدوا قبل ابن خلدون للترجمة عن انفسهم، قنعوا بتراجم موجزة. أما ابن خلدون فهو أول باحث عربي يكتب عن نفسه ترجمة رائعة مستفيضة يتحدث فيها عن تفاصيل ما جرى له، وما أحاط به من حوادث، من يوم نشأته الى قبيل مماته». ويضيف وافي ان ابن خلدون يتحدث هنا بدقة المؤرخ الأمين الحريص على الاستيعاب والشمول. وبذلك تدخل هذه الترجمة، وفق وافي «من بعض نواحيها في الفن التاريخي الذي اشتهر باسم الاعترافات».

ولكن مع إشارته بكل وضوح الى هذا الأمر، لا يفوت الدكتور وافي أن يلفتنا الى ان ابن خلدون لا يقتصر في كتاب «التعريف» هذا على تاريخ حياته، بل «يذكر كذلك كثيراً مما يتصل بهذا التاريخ من حوادث ووثائق وخطب ورسائل وقصائد، ويصف أحوال كثير من المجتمعات والنظم التي كانت له بها علاقة، ويصور أحوال العصور التي اجتازها أحسن تصوير، ويترجم لمعظم من عرض لذكرهم في كتابه».

كتاب «التعريف» الذي ألحقه ابن خلدون بكتاب «العبر» الذي هو الامتداد التاريخي التطبيقي لـ «المقدمة» - مع ما قد تحمله هذه الفكرة من غرابة -، واقفاً عليه نحو مئة صفحة في آخر المجلد السابع من سفره التاريخي الكبير، انتهى من كتابته، كما يبدو أول العام الهجري 797، حيث يختتم النص قائلاً: «ولزمن كسر البيت، ممتعاً بالعافية، لابساً برد العزلة، عاكفاً على قراءة العلم وتدريسه، لهذا العهد، فاتح سنة سبع وتسعين (...) والله يعرفنا عوارف لطفه، ويمد علينا ظل ستره، ويختم لنا بصالح الأعمال، وهذا آخر ما انتهيت اليه». والحال أن ابن خلدون بعدما وصل الى هنا، عاد خلال السنوات التالية وأضفى على «التعريف» تعديلات وزيادات، أوصلت أحداثه - الخاصة والعامة - التي يرويها الى نهاية العام الهجري 808، أي الى ما قبل وفاته بشهور قليلة.

والحال ان عرض كتاب «التعريف» لن يكون أكثر من استعادة لسيرة ابن خلدون نفسه، منظوراً اليها من وجهة نظره، ناهيك بأنه أيضاً وقوف على أحداث الزمن الذي عاش فيه، ووسيلة تمكننا من فهم الكثير من أبعاد شخصية هذا الرجل ونفسيته التي كادت في بعض الأحيان تورده موارد الهلاك، وأفقدته الكثير من الفرص التي أضاعها هو الذي ظل طوال حياته يبحث عن مكانة له في السلطة أو في المجتمع. ولعل التوقف عند بعض الفقرات الأساسية في الكتاب، يكون كافياً للاطلاع على أبعادة. ففي فصل مبكر يتحدث فيه ابن خلدون عن نسبه، يقول: «وأصل هذا البيت من اشبيلية، انتقل سلفنا - عند الجلاء وغلب ملك الجلالقة ابن ادفونش عليها - الى تونس في أواسط المئة السابعة. ونسبنا هو: عبدالرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن ابراهيم بن عبدالرحمن بن خلدون. ولا أذكر من نسبي الى خلدون غير هؤلاء العشرة، ويغلب على الظن انهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عدداً، لأن خلدون هذا هو الداخل الى الأندلس، فإن كان أول الفتح، فالمدة لهذا العهد سبعمئة سنة، فيكونون زهاء العشرين. ثلاثة لكل مئة. ونسبنا (الأصلي) حضرموت، من عرب اليمن، الى وائل بن حجر، من اقيال العرب معروف وله صحبة. ولما دخل خلدون بن عثمان، جدنا، الى الأندلس، نزل بقرمونة، في رهط من قومه حضرموت ونشأ بين بنيه بها، ثم انتقلوا الى اشبيلية».

وفي فصل تالٍ يتحدث كاتبنا عن حياته في غرناطة وإشبيلية فيقول: «ثم خرجت الى غرناطة، وكتبت الى السلطان ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب بشأني. وليلة بت بقرب اشبيلية على بريد منها، لقيني كتاب ابن الخطيب يهنئني بالقدوم. ثم أصبحت من الغد قادماً على البلد، وذلك ثامن ربيع الأول عام أربعة وستين. وقد اهتز السلطان لقدومي، وهيأ لي المنزل من قصوره (...) وأركب خاصته للقائي (...) ثم دخلت عليه فقابلني بما يناسب ذلك وخلع علي وانصرفت (...). وسفرت عنه سنة خمس وستين الى الطاغية، ملك قشتالة يومئذ، تبره بن الهنشة بن أدفونش، لإتمام عقد الصلح ما بينه وبين ملوك العدوه (...) فلقيت الطاغية بإشبيلية، وعاينت آثار سلفي بها، وعاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه وأظهر الاغتباط بمكاني، وعلم أولية سلفنا بإشبيلية فطلب الطاغية مني حينئذ المقام عنده وأن يرد علي تراث سلفي بإشبيلية، وكان بيد زعماء دولته، فتفاديت من ذلك بما قبله (...)». وفي فصل ثالث يتحدث ابن خلدون عن لقائه تيمورلنك فيقول: «قلت أيدك الله، لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك! فقال لي الترجمان عبدالجبار: وما سبب ذلك؟ قلت أمران، الأول انك سلطان العالم، وملك الدنيا، وما أعتقد انه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف، فإني من أهل العلم وأبين ذلك فأقول: انما الملك يكون بالعصبية، وعلى كثرتها يكون قدر الملك. واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد، ان أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والترك. وأنتم تعلمون ملك العرب كيف لما اجتمعوا في دينهم على نبيّهم. وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس، وانتزاع ملكهم أفراسياب خراسان من ايديهم شاهد بنصابهم على الملك. ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض(...) وأين الفرس من الترك؟(...)».

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عن الصورة المرفقة بالمقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)