جريدة المدن الألكترونيّة
الخميس 12-07-2017
المدن - ثقافة
محمد صبحي
عن التَّرجمة العربيَّة لكتاب “سندبادنامة”
يصدر قريباً عن منشورات الجمل كتاب “مُخاطَباتُ الوُزَراءِ السَّبْعَةِ،”التَّرجمة العربيَّة لكتاب “سندبادنامة” مِن أُصول “أَلف لَيلَة وَلَيلَة”، حقَّقَهُ وقَدَّمَ له الباحث سعيد الغانمي، هنا الجزء الأول من مقدمة الكتاب، ننشره بالاتفاق مع الناشر.
أوَّلاً: مدخل في تاريخيَّة الكتاب
يبدو أنَّ الصِّيغة العربيَّة من “كتاب الوزراء السَّبعة” هي أقدم نسخة يمكنُنا الاطمئنان إليها لمعرفة أصول “كتاب السِّندباد”، أو “سندبادنامة”. فالتَّرجمة الإغريقيَّة للكتاب بعنوان “كتاب سِنتِباس” (The Book of Syntipas)، اعتماداً على أصلٍ سريانيٍّ، قام بها ميخائيل أندريوبولس على حدود سوريا في العقد الأخير من القرن الحادي عشر، أي القرن الخامس الهجريِّ. أمّا النُّسخة الوحيدة الباقية من الصِّيغة السُّريانيَّة فهي معاصرة تقريباً لأغلب مخطوطات الكتاب العربيَّة الباقية. وعلى العموم يمكن القول إنَّ أصل الكتاب يكمنُ في نصٍّ آراميٍّ، ربَّما تشكَّلَ في بيئة مانويَّة كانت تغترف من التُّراث الآراميِّ المطعَّم بعناصر هنديَّة ويونانيَّة.
ولعلَّ أقدم إشارة تاريخيَّة تدلُّ على اطِّلاع العرب على ترجمة عربيَّة لكتاب “سندبادنامة” تعود إلى القرن الثالث الهجريِّ، حيث ذكر اليعقوبيُّ في تاريخه هذا الكتاب، ونسبه إلى الهند، حين كان يتحدَّثُ عن ملوك الهند وتاريخهم وعلومهم، فقال: “ومنهم كوش الملك، الذي كان في زمان سندباد الحكيم، وكوش هذا وضع كتاب مكر النِّساء”. وهكذا يتحدَّث اليعقوبيُّ عن الكتاب الذي عُرِفَ باسم “سندبادنامة”، ويجعل زمن كتابته معاصراً لزمن الملك الهنديِّ كوش، وقد عاش الحكيم سندباد، الذي يظهر كبطل مساعد في الحكاية الإطاريَّة لكتاب “سندبادنامة”، في كنفه. ثمَّ يوثِّقُ هذه المعرفة بالإشارة إلى تأليفِهِ كتابَ “مكر النِّساء”، وهذه هي التَّسمية الشَّعبيَّة التي عُرِفَ بها كتاب “سندبادنامة” حتى العصر الحديث.
وتأتي الإشارة الثانية لدى المسعوديِّ الذي يُطلِقُ على هذا الملك الهنديِّ اسم “كورش”، بدلاً من “كوش”، حيث يقول بعد حديثه عن الملك الهنديِّ بلهيت: “ثمَّ ملكَ بعدَهُ كورش، فأحدثَ للهندِ آراءً في الدِّياناتِ على حسبِ ما رَأَى من صلاحِ الوقتِ وما يحملُهُ من التَّكليفِ لأهلِ العصرِ. وخرجَ مِن مذهبِ مَن سلفَ. وكانَ في مملكتِهِ وعصرِهِ [الحكيمُ] سندباد؛ وله كتابُ الوزراء السَّبعة والمعلِّم والغُلام وامرأة المَلِك، وهو الكتابُ المترجَمُ بكتابِ السِّندبادِ”. وهذا العنوان هو أيضاً عنوانٌ شعبيٌّ آخرُ عُرِفَ به الكتابُ، كما سنرى.
وكان ابن النَّديم قد ذكر أنَّ كتاب السِّندباد هو ممّا نقلَهُ أبان بن عبد الحميد اللاحقيُّ إلى اللُّغة العربيَّة، فقال: “أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عقير، شاعرٌ مكثرٌ، وأكثرُ شعرِهِ مزدوجٌ ومسمَّطٌ. وقد نقلَ من كُتُبِ الفرسِ وغيرِها ما أنا ذاكرُهُ؛ كتاب كليلة ودمنة، كتاب بلوهر وبوداسف، كتاب سندباد، كتاب مزدك، كتاب الصِّيام والاعتكاف”. والأرجح أنَّ ابن النَّديم لم يعنِ التَّرجمة إلى العربيَّة، بل عنى نظمَ هذه الأعمالِ شعراً في اللُّغة العربيَّة. لكنَّ إشارة ابن النَّديم هذه لم تكن الإشارة الوحيدة إلى الكتاب، بل ذكره في موضعين آخرين وهو يتحدَّث عن كتب الأسمار، فقال: “فأمّا كتابُ كليلة ودمنة فَقَد اختُلِفَ في أمرِهِ، فقيلَ عملتْهُ الهندُ، وخبرُ ذلكَ في صدرِ الكتابِ. وقيلَ عملتْهُ ملوكُ الإشكانيَّة ونحلتْهُ الهندَ، وقيلَ عملتْهُ الفرسُ ونحلتْهُ الهندَ. وقال قومٌ إنَّ الذي عمله بزرجمهر الحكيم أجزاءً. والله أعلمُ بذلك. كتاب سندباد الحكيم، وهو نسختانِ كبيرة وصغيرة. والخلف فيه أيضاً مثل الخلف في كليلة ودمنة. والغالب والأقرب إلى الحقِّ أن يكون الهند صنَّفَتْهُ”. وبعد سطور يستعرض ابن النَّديم أعمالَ الهندِ في الأسمارِ، فيأتي على ذكر عنوانين هما “كتاب سندباد الكبير، وكتاب سندباد الصَّغير”.
سنعود لاحقاً إلى موضوعة نسختي الكتاب الصَّغيرة والكبيرة، اللَّتين أشار إليهما ابن النَّديم. لكنَّنا نودُّ أن نُلفِتَ الأنظار إلى أنَّ هذا الكتاب قد تُرجمَ إلى العربيَّة، أو ربَّما جُمِعَ فيها في الأصل مع بعض التَّعديلات، منسوباً إلى الهند السَّرديَّة، لا الهند الواقعيَّة، منذ بواكير القرن الهجريِّ الثاني. لكنَّ الباحثين الفرس المحدثين، بما عُرِفَ عنهم من نزعةِ استيلاءٍ ثقافيٍّ، صاروا يُبالغون جدّاً في نسبة النُّصوص السَّرديَّة للتُّراث الفارسيِّ، مستغلِّين تجاهل العرب لتراثهم السَّرديِّ. ومن الأعمال التي حاولوا الاستيلاء عليها كتاب “سندبادنامة”. ولمّا كانت أقدم ترجمة فارسيَّة للكتاب قد تمَّتْ عن العربيَّة في القرن السادس الهجريِّ، بقلم أديبٍ فارسيٍّ اسمه الظَّهير السَّمرقنديُّ، فقد اخترع هؤلاء الباحثون الفرس تاريخاً وهميّاً للكتاب، وزعموا أنَّه نُقِلَ عن الفهلويَّة، لا عن العربيَّة، في زمن نوح بن نصر السامانيِّ في القرن الرابع الهجريِّ. “فأمرَ هذا الأميرُ الخواجة العميدَ أبا الفوارس القناوزيَّ بأن يترجمه إلى الفارسيَّة، ويُزيلَ ما كان قد تطرَّقَ إليه من تفاوت واختلال، ويصحِّحه، فنهض بهذه المهمَّة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة (950م). ولكنَّ عبارة هذه التَّرجمة -على قوله- كانت منحطَّةً للغاية، وعارية وعاطلة من كلِّ زينة وحلية. وفي منتصف القرن السادس الهجريِّ تناول الأزرقيُّ الهرويُّ الشاعر الخراسانيُّ هذه التَّرجمة، فنظمَها كلَّها أو بعضَها شعراً، وقدَّمَها إلى والي خراسان شمس الدَّولة طغانشاه بن ألب أرسلان السَّلجوقيِّ. ثمَّ جاء بعده الخواجة بهاء الدِّين محمَّد بن عليّ بن محمَّد بن الحسن الظَّهيريُّ الكاتب السَّمرقنديُّ، صاحب ديوان رسائل السُّلطان طغماج، خاقان ملك ما وراء النَّهر، في نهاية القرن السادس، فأخرج ترجمة القناوزيِّ من بداوتها وكساها ثوباً أدبيّاً جديداً مزيَّناً بالأمثال والأحاديث والآيات والأشعار الفارسيَّة والعربيَّة وقدَّمَها إلى مولاه”.
نعتقد أنَّ هذه الرِّوايات مبالغات سرديَّة ترمي إلى خلق تاريخ لا وجود له للكتاب في اللُّغة الفارسيَّة. فالكتاب إذا كان قد تُرجِمَ فعلاً في القرن الرابع الهجريِّ إلى الفارسيَّة، فقد حصل ذلك عن العربيَّة، لا عن الفهلويَّة. وهذا لسَبَبَينِ في الأساس؛ الأوَّل أنَّ التَّرجمة من الفهلويَّة إلى الفارسيَّة لم تكن بالصُّعوبة التي يصوِّرها الباحثون الإيرانيُّون في الوقت الحاضر، لأنَّ المسافة اللُّغويَّة بين الفارسيَّة والفهلويَّة هي مسافة بين لهجتين، لا بين لغتين، تستخدمانِ نظاماً كتابيّاً مختلفاً. فضلاً عن ذلك، فإنَّ التَّحليل السَّرديَّ لمادَّة الكتاب، بالصِّيغة التي توصَّلنا إليها في هذه الطَّبعة تدلُّ دلالة قطعيَّة على أنَّ الكتاب قد تكوَّنَ في بيئة البحر الأبيض المتوسِّط، لا في الهند ولا فارس، وجمعَ مادَّته الأساسيَّة منها، لأنَّه ينطوي على فقرات مستمدَّة من محاورات إيسوب، التي تحوَّلت أصلاً عن مادَّة في حكمة أحيقار، بالإضافة بالطَّبع إلى الحكايات المشتركة مع “كليلة ودمنة”. كما ينطوي الكتاب على قصص كانت تتناقض تناقضاً كلِّيّاً مع الثَّقافة الفارسيَّة المجوسيَّة الرَّسميَّة، بحكم انطوائها على الدَّعوة إلى النُّسك.
قلنا إنَّ هناك ما يدعو إلى التَّشكيك بكون الكتاب فارسيَّ الأصل، وأهمُّ موضوعة تستدعي التَّشكيك هي موضوعة النُّسك، كما تظهر في “حكاية الناسكة والعقد المسروق”. وخلاصة هذه الحكاية أنَّ ناسكةً كانتْ تعتادُ زيارة قصر الملك، وذات مرَّة سلَّمتْها الملكة عقداً قيمته ألف دينار، وأرادت منها أن تحتفظَ به حتّى تخرج من الحمّام. وفعلاً وضعتْهُ الناسكة على سجّادتها، وشرعتْ بالصَّلاة. وحين خرجَتِ الملكة من الحمّام، طلبتْ منها العقد، فحلفت أنَّها لم تَرَهُ منذ استغرقت في صلاتها. وبالطَّبع لم يصدِّقْها الملك والملكة، وصارا يعرِّضانِها لأبشع أنواع العذاب، لكنَّها رفضت بإصرارٍ أن تقرَّ بمصير العقد. وحين كان الملك يجلس في حديقة منزله، رأى طائرَ عقعقٍ يُخْرِجُ العقدَ من تحت حجرٍ، ويُريد أن يدحرجَهُ ليضعَهُ في مكانٍ آخرَ. فجرتْ مطاردةُ العقعق واستعادة العقد. وحينئذٍ اعتذر المَلِكانِ من الناسكة، لكنَّها آلَتْ على نفسها ألّا تجامِلَ أحداً بعد ذلك بالدُّخول إلى بيته.
والفكرة الأساسيَّة في هذه الحكاية هي فكرة النُّسك والامتناع عن إيذاء الحيوان مع الاصطبار على تلقِّي أبشع أنواع التَّعذيب. ومن الواضح أنَّ هذا النُّسك كان يتعارض تماماً مع الدِّيانة الزَّرادشتيَّة، التي كانت تعاقبُ عليهِ أحياناً عقاباً شديداً قد يصل إلى حدِّ القتل. كما أنَّه يختلف عن النُّسك الهنديِّ أو النُّسك المسيحيِّ المعتدلين. فالامتناع عن إيذاء الحيوان إلى درجة قبول إيذاء النَّفس هو نسكٌ مانويٌّ لا غبار عليه. وهذه الحكاية بالتَّحديد تذكِّرُنا بقصَّة يرويها الجاحظ عن اثنين من نُسّاك المانويَّة في الأهواز. ومن المعروف أنَّ نسّاكَ المانويَّة كانوا يتجوَّلون اثنينِ اثنينِ. وحصل أن دخل ناسكانِ مانويّانِ إلى الأهواز، وأرادَ أحدُهما أن يذهب باتجاه المقابر للتَّغوُّط، فجلس الآخر بانتظاره أمام دكّان صائغ. وكان بالقرب منه ظليمٌ أو ذكرُ نعامٍ. فجاءت امرأةٌ تحملُ علبةً من الجواهر إلى الصائغ، لكنَّها عثرت، فتطايرت أحجار الجواهر من يدها في الشارع، وابتلعَ الظَّليمُ أكبرَ حَجَرٍ فيها أمام مرآى الناسك المانويِّ. فجمع الصائغ ومَن معه الجواهر المتناثرة، لكنَّهم افتقدوا الحجر الأكبر الذي ابتلعه ذكرُ النَّعام. واتَّهموا الناسك المانويَّ بسرقتِهِ. وحين عاد صاحبُهُ من الغائط، اتَّهموه أيضاً بالتَّغطية عليه وإخفاء الحجر. وانهالَ الناسُ بالضَّرب والتَّعذيب على الناسكين، حتّى أوشكا على الموت. قال الجاحظ: “فبينَما هم كذلك، إذ مرَّ رجلٌ يعقلُ، ففهمَ عنهمُ القصَّةَ، وَرَأَى ظليماً يتردَّدُ فقالَ لهم: أكانَ هذا الظَّليم يتردَّدُ في الطَّريق حينَ سقطَ الحجرُ؟ قالوا: نَعَم. قالَ: فهو صاحبُكم. فعوَّضوا أصحابَ الظَّليمِ وذبحوه وشقُّوا عن قانصتِهِ، فوجدوا الحَجَرَ”. ويسكت الجاحظ عن تتمَّةِ القصَّة، وهل اعتذر هؤلاء للناسكَينِ عن اتِّهامِهما أم لا. لكنَّنا نعرف أنَّ هذين الناسكين تحمَّلا أشدَّ أنواعِ العذابِ، ليتجنَّبا إلحاقَ الأذى بالحيوان، تماماً كما تحمَّلتِ الناسكة العذاب تجنُّباً للوشاية بالعقعقِ حتّى لا يُؤذى بسببِها.
وقد لاحظ الدارسون من قبلُ وجودَ حكايتين في كتاب “سندبادنامة” تشابهانِ حكايتين في “كليلة ودمنة”. وهذا صحيح، فـ"حكاية انتقام الحمامتين"، كما نسمِّيها، ترد في كتابنا هذا، كما ترد في “كليلة ودمنة”. وعلى النَّحو نفسِهِ فإنَّ “حكاية قاتل الكلب الأمين”، التي وردت في النُّسخة الطَّويلة من الكتاب، ولم ترد في النُّسخة الصُّغرى، ترد أيضاً في “كليلة ودمنة”، لكنَّ قاتل الكلب يتحوَّل إلى ناسكٍ، ويتحوَّل الكلبُ إلى ابن عرس.
غير أنَّ هناك حكايةً ثالثةً يشترك بها كتاب “الوزراء السَّبعة” وكتاب “كليلة ودمنة”، ولكن ليس في النُّسخة الصُّغرى، بل في الحكايات المضافة إليها، ألا وهي “حكاية القرد مع الزُّحلف”. وفيها تنعقد أواصر الصَّداقة بين القرد والزُّحلف أو ذكر السُّلحفاة الكبير. فيبدأ القرد بالتقاط أندر الثِّمار وأطيبِها ورميِها لصديقه. وحين تتوثَّقُ العلاقة بينهما وتشتدُّ، تشعر امرأة القرد بالغيرة من هذه العلاقة، لأنَّ الزُّحلف صار يتغيَّبُ عنها طويلاً. وحينئذٍ تفكِّر بافتعال المرض، والادِّعاء أنَّها لا شفاءَ لها إلّا عن طريق تناولها قلبَ قردٍ. فتعمل على إغراء زوجها بقتل صديقه القرد للاستشفاء بقلبه. وفعلاً يستدرج الزُّحلف صديقَهُ إلى جزيرة نائية للانفراد به، لكنَّه في الطَّريق يشعر بتأنيب الضَّمير، فيصارحُ صديقَهُ بحقيقة المهمَّة. وحينئذٍ يرد عليه القرد بأنَّه على استعداد للتَّضحية بقلبه من أجل إرضاء صديقه، لكنَّه للأسف لم يحملْ قلبَهُ معه، وما كان ليتردَّدُ في ذلك لو أخبرَهُ بطَلَبِهِ من قبلُ، فقد ترك قلبه معلَّقاً على الشَّجرة التي التقيا تحتَها. والأولى به أن يُعيده من حيث أتى، لكي يتبرَّعَ له بقلبه عن طيب خاطر. لكنَّه ما كادَ يصل إلى الساحل حتّى صبَّ جام لومه عليه، لأنَّه قابل إحسانَهُ بالإساءة. ولا شكَّ أنَّ القارئَ أدرك أنَّ هذه الحكاية هي بعينِها “باب القرد والغيلم” (أي ذكر السُّلحفاة) من كتاب “كليلة ودمنة”. لكنَّ الحكاية في “كليلة ودمنة” أَجمَلُ ترتيباً، وأَحْلى أُسلوباً، وأكثَرُ انتِظاماً.
ولكن لا ينبغي أن يجعلنا هذا التَّشابه نتصوَّرُ اشتراك الكتابين في أصلهما الفارسيِّ، كما يفترض الكتاب الفرس المعاصرون، بل يحصل هذا التَّداخل بسبب اشتراك الكتابين في أصلهما الآراميِّ المانويِّ الطابع. فكتاب “كليلة ودمنة” أيضاً ليس بكتابٍ فارسيٍّ، كما شاع خطأً في القرون الأخيرة، بل هو كتابٌ آراميٌّ مانويٌّ، مستمَّدٌ من ثلاثة مصادر هنديَّة، وأضافَ إليه المانويُّون قبل الإسلام حكاية إطاريَّة، وسَّعها ابن المقفَّع في حكايته عن برزويه، وبعد ثلاثة قرون أُخرى، أضاف له عليّ بن الشاه الفارسيُّ مقدَّمة أخرى منحولة. ومن هنا يأتي اشتراك الحكايات في أُصولها الآراميَّة، وليس في أُصولها الفارسيَّة المجوسيَّة، كما يشيع ذلك الكتّاب الفرس المعاصرون.
وتأخذُنا “حكاية التاجر والأعمى في بلد العيّارين” إلى مسارٍ مختلف، لأنَّها تقودُنا إلى دروبِ مصادرَ مُغايرةٍ بطريقةٍ لا تخلو من مفاجآت. ومفاد هذه الحكاية أنَّ تاجراً قرَّرَ السَّفر إلى مدينةٍ من المدن، فسأل عن أنفس بضاعةٍ يمكن أن يُتاجر فيها مع أهلها، فقيل له الصَّندل. وحين وضع كلَّ ما يمتلكه في تجارة الصَّندل، فوجئ بأنَّ سكّان المدينة لصوصٌ عيّارون، لا يتردَّدون في ابتزاز مَن يدخلُ إليهم وسرقتِهِ. في البداية تظاهروا أنَّ الصَّندل عندَهم لا يزيدُ سعرُهُ عن سعرِ الحَطَبِ. فعرض عليه أحدُهم أن يشتريَهُ بما يعادل ملء الصاع ممّا يريد، وهو يفكِّر بالدَّراهم. فوافق. وحين أخذ يتجوَّل في المدينة، وكان من الواضح أنَّه تاجرٌ غريبٌ، تمسَّكَ به أعورُ، واتَّهمه بأنَّه سرق عينه، ولم يتركه إلّا بعد أن وعده بإعطائِهِ عينَهُ، أو يتنازل له عن كلِّ ما يملكُ. ثمَّ مرَّ بقومٍ يتقامرون على الحكم والرِّضى، أي أن يقرِّرَ الفائزُ طريقةَ الغرم، فاشترطوا عليه أن يشرب جميع ماء البحر، أو يتنازل عن كلِّ ما يملكُ.
طلب منهم إمهاله إلى الغد، وذهب مغموماً حائراً. وفي الطَّريق قابلته امرأة عجوز، فحكى لها عن سبب حيرتِهِ، فدلَّتْهُ على مكانِ شيخ العيّارين الأعمى، الذي يجتمع لصوصُ المدينة عنده ليلاً، ويروون له وقائع سرقاتهم في النَّهار. وأوصته أن يستمعَ إلى كلامهم، ويحرصَ على أن لا يراه أو يفطنَ إلى وجودِهِ أَحَدٌ.
أخفى التاجر نفسه فعلاً في المكان، ورأى العيّارين يتقاطرون لاستشارة شيخِهم الأعمى. وابتدأ بالتَّقدُّم إليه صاحب الصَّندل، فأخبره بأنَّه غلب تاجراً عابراً حين اشترى صندله بملء الصاع ممّا أحبَّ. فقال له الشَّيخ الأعمى: قد غلبَكَ، فسأله: كيف ولو أراد ملء الصاع ذهباً لكنتُ الرابح؟ فقال: ماذا لو قال لك: أريد ملء الصاع براغيثَ، نصفُها حيٌّ ونصفُها ميِّتٌ، ونصفُها ذكورٌ ونصفُها إناثٌ؟ ثمَّ تقدَّمَ الأعور، وروى له خبره، فقال له: قد غلبك أيضاً، لأنَّه إذا وافقك وقال لك: اقلعْ عينك لنرى هل تُشْبِهُ عيني، ولو قلعتَ أنت عينَكَ، وقلعَ هو عينَهُ، لصرتَ أنت أعمى وصار أعورَ، فيكون بذلك قد غلبك. ثمَّ تقدَّمَ من اشترط عليه أن يشرب ماء البحر، فدلَّهُ الشَّيخ على أنَّه قد غلبه أيضاً، إذا طلبَ منه أن يوقفَ انصباب أفواه الأنهار إلى البحر حتّى يشربَهُ دون مياه الأنهار.
استمع التاجر بهدوء إلى وصايا الشَّيخ، واتَّبَعَها في اليوم الثاني عند اجتماعِهِ بهؤلاء، وهكذا تخلَّصَ من أحابيلِهم.
بالطَّبع ليس من المنتظر أن نجدَ هذه الحكاية بحذافيرها، لأنَّنا نجدها حتّى في نُسَخِنا من الكتاب نفسِهِ على شيءٍ من الاختلاف، فهي مختصرة جدّاً في مخطوطة (ش)، وغائبة عن مخطوطة (ر) بسبب سقوط بعض الأوراق الأخيرة. ولكنْ من المتوقَّع أن توجد في بنيتها العامَّة. والواقع أنَّ تعدُّد روايات هذه الحكاية شيءٌ يدعو إلى الفضول، فهي ترد في مصادر مختلفة شرقيَّة وغربيَّة. في كتب الحكمة، مثلاً، يُروى على لسان لقمان الحكيم، الذي كان عبداً مملوكاً، فدخل سيِّدُهُ ومالكُهُ في مقامرةٍ مع شخصٍ آخرَ، فقمرَهُ، فاشترطَ عليه أن يشرَبَ ماءَ البحرِ. أمّا في كتبِ قصصِ الأنبياءِ فقد “سكرَ مولاهُ يوماً، فخاطَرَ أقواماً على أن يشرَبَ ماءَ بُحَيرةٍ. فلمّا أفاقَ عرفَ ما وقعَ فيه. فَدَعا لقمانَ ثمَّ قال له: لمثلِ هذا اليومِ كنتُ خبئتُكَ. قالَ: أَخْرِجْ كرسيَّكَ وأباريقَكَ ثمَّ اجمعْهم. فلمّا اجتَمَعوا قالَ لهم: على أيِّ شيءٍ خاطرتموني؟ قالوا: على ماءِ هذِهِ البُحَيرة. فقالَ لهم لقمانُ: إنَّ لها موادَّ فاحبسوا عنها موادَّها حتّى يشرَبَها. قالوا: وكيف نستطيعُ أن نحبسَ موادَّها؟ فقالَ لقمانُ: وكيفَ يستطيعُ شرْبَها ولها موادُّ؟
لكنَّ المصدر الأقدم من المصادر العربيَّة هو”حكايات إيسوب" اليونانيَّة، حيث يرد “في سيرة إيسوب أنَّ سيِّدَهُ كانَ في حالِ سكرٍ، وأنَّه تعهَّدَ بأن يشرب البحر. فأشار عليه إيسوب أن يقول لمن طالبه بالوفاء: ثمَّة أنهارٌ كثيرةٌ وجداولُ تصبُّ في البحر، فأوقفوها عن الانصبابِ فيه لكي أشرَبَ ماءَهُ”.
لكن يبدو أنَّ هذه الحكاية أقدم أيضاً من إيسوب نفسِهِ، لأنَّ محتواها السَّرديَّ موجودٌ في “حكمة أحيقار” الآشوريِّ. فحين طلب ملك مصر من سنحاريب ملك آشور أن يبعث له حكيماً يتمكَّنُ من بناء قصر في الهواء، وجد أحيقارُ أنَّه قادرٌ على قبول هذا التَّحدِّي. وهكذا أحضَرَ نسرَينِ كبيرَينِ يحملُ كلٌّ منهما سلَّةً كبيرةً، وضع فيها صبيين صغيرين، وجعل الصَّبيين يناديانِ: أينَ الطابوق؟ أين الآجرُّ؟ أين الجصُّ؟ هاتوا لنا موادَّ البناء لنبنيَ لكم قصراً في الهواء. لماذا أنتم أيُّها المصريُّون عاطلون عن العمل؟ وبهذه الطَّريقة تمكَّنَ أحيقار من الخلاص من مقلب ملك مصر الذي أعدَّهُ له. ومن الواضح أنَّ حكاية إيسوب تقلِّدُ حكاية أحيقار في اجتهادها السَّرديِّ.
وهناك حكاية أُخرى تعيدنا أيضاً إلى حكايات لقمان في التُّراث العربيِّ، ألا وهي “حكاية زوجة التاجر الغيور وابن الملك”. وخلاصة هذه الحكاية أنَّ تاجراً كان يغارُ على زوجته، فأسكنَها في قصرٍ منعزلٍ حتّى لا يراها أحدٌ. لكنَّ ابن الملك كان يتجوَّل في البريَّة فلمح الجارية من نافذة القصر، فبعث لها رسالة غرام وأطلقها بسهمٍ. وحين تجاوبت معه أرسلَ لها بالطَّريقة نفسِها مفتاحاً. ثمَّ طلب من وزير أبيه أن يُقْفِلَ عليه صندوقاً، ويودعَهُ لدى التاجر في قصره. وانطلت الحيلة على التاجر الغيور، فكانت زوجته كلَّما خرج تفتح الصُّندوق، وتُخرجُ ابن الملك، وتنفرد معه في أكلٍ وشربٍ وعبثٍ لمدَّة سبعة أيّامٍ متواصلةٍ. لكنَّ الملك طلب ابنه من الوزير، فأسرع هذا في طلب استرداد الصُّندوق من التاجر. ونسيت الجارية في عجلتها أن تقفل الصُّندوق. فما كاد الخدم يرفعونه حتّى تدهده، وظهر فيه ابن الملك أمام التاجر والوزير. فعلم التاجر أنَّ الوزير احتال عليه، فطلَّقَ الجارية، وعاهد الله ألّا يتزوَّجَ أبداً.
لا يخفى أنَّ الهدف من هذه الحكاية هو بيان غدر النِّساء، واستعمال وسيلة الصُّندوق للتَّستُّر على الخيانة. وعلى النَّحو نفسِهِ تظهر حكاية عن إحدى زوجات لقمان، تُخفي عشيقها في رزمة من الرِّماح والأسلحة، بدلاً من الصُّندوق. قال سبط ابن الجوزيِّ: “عن عليّ بن سليمان الأخفش، قال: قال ابنُ الكلبيِّ: كان لقمان بن عاد، حكيمُ العربِ، غيوراً. فبنى لامرأتِهِ صَرْحاً وجعلَها فيه. فنظرَ إليها رجلٌ من الحيِّ فعلقَها. فأتى قومَهُ فأخبرَهم وَجْدَهُ بها، وسألَهم الحيلةَ في أمرِهِ. فأمهلوه حتّى أراد لقمانُ الغزوَ، فعمدوا إلى صاحبِهم، وشدُّوه في حزمةِ سيوفٍ، وأتوا إلى لقمانَ فاستودعوها إيّاه. فوضعَ السِّلاحَ في بيتِهِ. فلمّا مضى تحرَّكَ الرَّجلُ في السُّيوف. فقامَتِ المرأةُ تنظرُ، فإذا هي بالرَّجلِ. فشكا إليها حبَّهُ إياها، فأمكنتْهُ من نفسِها. فلم يَزَلْ معها مُقيماً حتّى قدمَ لقمانُ، فردَّتْهُ في السُّيوفِ كما كانَ. وجاءَ قومُهُ فاحتملوه. وإنَّ لقمانَ نظرَ يوماً إلى نُخامة [: أي قطعة بلغم يابس] في السَّقف. فقالَ: مَن تنخَّمَ هذه؟ فقالَتْ: أنا. قالَ: فتنخَّمي. فقصرتْ [أي لم تصلْ إلى السَّقف]، فقالَ: يا ويلتاه، والسُّيوف دَهَتْني. فقتلَها، ثمَّ نزلَ فلقيَ ابنته صخرَ صاعدةً، فأخذَ حجراً فهشَّمَ رأسَها، فماتَتْ. وقال: أنت امرأةٌ أيضاً. فضربتِ العربُ بذلك المثل. فكانَ يقولُ المظلومُ منهم: ما أذنبتُ إلّا ذَنْبَ صَخْرَ”.
وتكشف “حكاية الدَّعَوات الضائعة الثَّلاث” عن أُصولها التَّوحيديَّة أيضاً. فهي في هذا العمل حكاية إسلاميَّة تحدث لمسلمٍ أطاعَ اللهَ حتّى انفتحت بوجهِهِ أبوابُ السَّماءِ في ليلةِ القدر. لكنَّها أيضاً ذات أصول إسرائيليَّة، إذ يُروى في “قصص الأنبياء” أنَّ “رَجُلاً قد أُعطيَ ثلاثَ دعواتٍ مستجاباتٍ. وكانَتْ له امرأةٌ وله منها ولد، فقالت له: اجعلْ لي منها واحدةً. فقالَ: لكِ منها دعوةٌ، فما تريدينَ؟ قالت: ادعُ اللهَ أن يجعلَني أجملَ امرأةٍ في بني إسرائيلَ. فدعا فجُعِلَتْ أجملَ امرأةٍ في بني إسرائيلَ. فلمّا علمتْ أن ليسَ فيهم مثلُها رغبتْ عنه. فغضبَ الرَّجُلُ، فَدَعا عليها، فصارتْ كلبَةً نبّاحةً. فذهبَ فيها دعوتانِ. فجاءَ بنوها، فقالوا: ليسَ لنا على هذا قرارٌ ولا صبرٌ، صارتْ أُمُّنا كلبَةً نبّاحةً، وإنَّ الناسَ يعيِّروننا بها، فادعُ اللهَ أن يردَّها إلى الحالِ التي كانَتْ عليها. فدعا اللهَ، فصارتْ كما كانتْ. فذهبتْ فيها الثَّلاث دَعَواتٍ كلُّها”.
ولعلَّ من المفيد أيضاً أن نشير إلى أنَّ بيري في مقالتِهِ المذكورة سابقاً عن أصل كتاب “سندبادنامة” كان قد أشار إلى احتواء كتاب “الوزراء السَّبعة” على “حكاية أحمد اليتيم”، وهي الحكاية التي انفردت بها مخطوطة (ر) في عملنا هذا وأدرجناها في بداية الملاحق. ومن خلال المشابهة مع عنوانِ سَمَرٍ من أسمار الفرس لدى ابن النَّديم، وهو “كتاب روزبه اليتيم”، لا يستبعد بيري أن تكون الخلاصة العامَّة لهذه القصَّة قد انتشرت في القرون الوسطى، وهو يستشهدُ عليها بنموذجين مماثلين لها في الخرافات الأرمينيَّة.
والحدث الأبرز في تاريخ الكتاب هو اندراجُهُ في ضمن كتاب “ألف ليلة وليلة”. فقد دخل الكتاب بكامله في “ألف ليلة وليلة”، وهو يشغل فيها اللَّيالي من اللَّيلة (578) حتى اللَّيلة (606). غير أنَّ اندراجَهُ فيها يُثير بعض الأسئلة. إذ متى حصل هذا الاندراج؟ واستناداً إلى أيَّة نسخة من “ألف ليلة وليلة”، وأيَّة نسخة من “سندبادنامة”؟ وأين؟ وهل هناك تشابه في البنية بين الكتابين يُبيح اندراج الأصغر فيهما في الأكبر؟ ربَّما لا نستطيع الإجابة عن جميع هذه الأسئلة على نحوٍ قاطعٍ، لكنَّنا قد نتمكَّنُ من تقديم بعض الاقتراحات الممكنة.
قسَّم المرحوم د. محسن مهدي نسخ كتاب “ألف ليلة وليلة” إلى مجموعتين؛ المجموعة الشاميَّة، التي تركِّز على قصص البطولة ذات الطابع الملحميِّ، وهي النُّسخة الأقدم التي تحملُ مؤثِّراتِ التُّراث العراقيِّ والشامي القديم، والمجموعة المصريَّة، المتأخِّرة نسبيّاً عن المجموعة الأولى، وفيها تكثرُ قصص العيّارين واللُّصوص والشُّطّار وما أشبه. وتنطوي مخطوطة باريس المرقَّمة (3609، 3610، 3611) على أقدم نسخة معروفة من الكتاب. وفي رأي د. محسن مهدي، فهي تمثِّل المجموعة العراقيَّة والشاميَّة خير تمثيل. لكنَّ هذه النُّسخة تتوقَّف عند اللَّيلة (282)، وليس فيها أيُّ أثر لكتاب “سندبادنامة” أو قصصه على الإطلاق. والنَّتيجة المترتِّبة على ذلك أنَّ المجموعة العراقيَّة أو الشاميَّة كانت تخلو من هذا الكتاب، بينما أدرجتْهُ المجموعة المصريَّة في داخلها، والمرجَّح أنَّ ذلك حصل في وقت متأخِّر. وهنا تظهر مفارقةٌ من نوعٍ ما. فهذا الكتاب الذي يُفترَضُ أنَّه رأى النُّور في العراق، وتولَّى سهل بن هارون صياغته شعريّاً، لم يندرجْ في المجموعة العراقيَّة المبكِّرة أبداً، بل انتظر عدَّة قرون، ليندرج في المجموعة المصريَّة بعد اللَّيلة (578). والأرجح أنَّ ذلك حصل في وقت متأخِّر، ربِّما لا يتجاوز القرنين السادس عشر أو السابع عشر.
أمّا أيَّة نسخة من كتاب “سندبادنامة” هي التي اندرجت في “ألف ليلة وليلة”، فلا شكَّ أنَّها النُّسخة الكبرى، لأنَّ عدداً من الحكايات الواردة فيها لا يردُ فيما سمَّيناه بالنُّسخة المعياريَّة الصُّغرى، بل يرد بطريقة أو أخرى في نسخ المجموعة الكبرى. لكنَّ “ألف ليلة وليلة” استخدمت صورةً أخرى من الكتاب، لم يُعثرْ عليها حتّى الآن، وربَّما كانت تزيد قليلاً عن النُّسختين اللَّتين عثرنا عليهما من الكتاب في صيغته الموسَّعة.
الأمر المهمُّ الآخر هو انطواء كتاب “مائة ليلة وليلة” على كتاب “سندبادنامة”. فهو يشغل اللَّيالي من (56- 75). وبرغم أنَّ حكايات “مائة ليلة وليلة” تنطوي على تفاصيلَ لا توجد في النُّسخ التي عثرنا عليها أو حتّى في “ألف ليلة وليلة” إلى حدٍّ ما، فإنَّ اشتماله عليه ذو دلالة هامَّة. لقد ذهب محرِّر كتاب “مائة ليلة وليلة” إلى أنَّه سابقٌ على كتاب “ألف ليلة وليلة”، واستشهد على رأيه في قِدَمِ الكتابِ بنصوص كتاب “مخاطبة الوزراء السَّبعة” تحديداً. “ففي حين نجد الملك الذي حُرِمَ إنجاب الأولاد يتوسَّل في”ألف ليلة وليلة" بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الله تعالى ويسألُهُ بجاهِ الأنبياء والأولياء والشُّهداء من عبادِهِ المقرَّبين أن يرزقَهُ بولدٍ ذكرٍ حتّى يرثَ الملك من بعده، ويكون قرَّة عينه، فيسمع الله دعاءه، نجد نفس الملك في “مائة ليلة وليلة” يجمع الأطبّاء والمنجِّمين والحكماء فيحسبون له القرعة وخطَّ الرَّمل، وينظرون في النُّجوم ويقولون له: أيُّها الملك، سيكون لك مولود ذكر تسرُّ به عن قريبٍ إن شاء الله". وهذه ليست بحجَّة على الإطلاق، لأنَّ النَّصَّ المذكور في “ألف ليلة وليلة” إنَّما هو إعادة صياغة في النُّسخ المطبوعة من الكتاب، أمّا في مخطوطات الكتابين؛ اللَّيالي الألف والوزراء السَّبعة، فهما متماثلان.
ويمكن القول استناداً إلى ما يتوفَّرُ بين أيدينا من وثائقَ حتّى الآن إنَّ “مائة ليلة وليلة” ليس سوى مختارات من نسخة متأخِّرة من المجموعة المصريَّة من “ألف ليلة وليلة” بعد اندراج كتاب “الوزراء السَّبعة” فيها في القرون الأخيرة. لكنَّ هذه المختارات بالطَّبع اُخضعت للخطَّة العامَّة للكتاب وما كان يحتاجُهُ من تعديلات ضروريَّة. أمّا فيما يتعلَّقُ بالتَّشابه بين الكتابين، فلا شكَّ أنَّ كتاب “الوزراء السَّبعة” ينطوي على حكاية إطاريَّة، وعلى مادَّة مماثلة للمادَّة في “ألف ليلة وليلة”، وهذا ما سنراه عند تحليل البنية السَّرديَّة للكتاب. لكنَّ الأهمَّ هو أنَّ كتاب اللَّيالي نفسه عملٌ مفتوحٌ مستعدٌّ لالتهام الكتب، سواء أكانت مماثلة له في بنيتها أو لم تكن.
وأُزمع هنا أن أقدِّمَ عرضاً سرديّاً لمحتويات الكتاب، ثمَّ أعود في النِّهاية إلى استعراض المعلومات الفيلولوجيَّة عن مخطوطاته. ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الفضل في اكتشاف النُّسخة الأولى من كتاب “سندبادنامة” يعود إلى الباحث الإيرانيِّ أحمد آتش، الذي نشر التَّرجمة الفارسيَّة المتأخِّرة للكتاب بقلم الظَّهيريِّ السَّمرقنديِّ، وأتبعه بنسخة مخطوطة عثر عليها في مكتبة شهيد علي برقم (2743)، تضمُّ ما سمّاه كتاب “سندبادنامة” في أصله العربيِّ. وقد نشر العملين معاً في إسنطبول سنة 1948. وقد حصلنا نحن على ثلاث مخطوطات أخرى من الكتاب، قسَّمناها إلى مجموعتين اثنتين بحسب الخصائص السَّرديَّة لكلٍّ منهما. فالمخطوطتان (ب) و(س) تتشابهانِ إلى حدٍّ كبيرٍ. ويمكن استخلاص نسخة معياريَّة منهما تمثِّل الصِّيغة الأولى التي كان عليها الكتاب. وهذا ما فعلناه هنا، حيث حاولنا قدر الإمكان إنتاج نصٍّ يقتربُ إلى أقصى مدىً ممكنٍ ممّا سمَّيناه بـ"النُّسخة المعياريَّة الصُّغرى"، أي الصِّيغة الصُّغرى التي اطَّلعَ عليها ابن النَّديم، دون أن نُغْفِلَ بالطَّبع أنَّ الكتاب تعرَّضَ لطبقاتٍ من الرِّوايات الشَّفويَّة، التي أثَّرت إلى حدٍّ كبيرٍ في شكلِهِ وأُسلوبِهِ.
أمّا النُّسختان (ش) و(ر) فيستعصي تصنيفهما، لأنَّهما تتضمَّنانِ مادَّتَينِ متشابهتَينِ من حيث المحتوى السَّرديُّ وتصنيف الحكايات، لكنَّهما تختلفانِ اختلافاً كبيراً في أُسلوب عرض الأحداث واللُّغة المستخدمة فيهما، وتنطويانِ في بعض الحالات على حكايات تتماثلُ في صيغتها العامَّة، لكنَّها تختلف من حيث الأُسلوب ومن حيث التَّوسُّع أو الاختصار. وقد تنطوي إحداهما على حكاياتٍ لا توجد في الأُخرى، كما هو الحال في “حكاية أحمد اليتيم” التي انفردت بها (ر). لكنَّهما معاً تضمّانِ عدداً من الحكايات التي لم ترد في النُّسخة “المعياريَّة”، التي قلنا إنَّها تمثِّل النُّسخة الصُّغرى من الكتاب، أو نسخةً تقتربُ منها، كما تحدَّثَ بها عنها ابن النَّديم.
ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أنَّ الاختلاف بين نسختي (ش) و(ر) في أسلوب صياغة الحكايات إنَّما يعود في الأساس إلى الطابع الشَّفويِّ للنُّسختين. فالنُّسختانِ هما صياغة شعبيَّة شفويَّة من الكتاب، ومع انطوائها على زيادات لا تتوفَّرُ في النُّسخة المعياريَّة الصُّغرى، فمن المحتمل أنَّها صياغة شعبيَّة مستمدَّة من النُّسخة الكبرى، وإن لم تكن مطابقةً لها تماماً. وبسبب طابع الرِّواية الشَّعبيَّة فالنُّسختانِ مكتوبتانِ بأسلوبٍ عاميٍّ، لا يمكن مطلقاً نشره إلّا بالصِّيغة التي يوجد فيها، أي بعبارةٍ أخرى، لا تسمح الطَّبيعة الشَّفويَّة العامِّيَّة المتَّبعة في النُّسختين بالتَّوصُّل إلى نسخة معياريَّة واحدة منهما. بل يمكن فقط نشر إحداهما كما هي، أو مع بعض التَّغييرات الضَّروريَّة لغويّاً وأسلوبيّاً.
ونزعمُ أنَّنا توصَّلنا إلى نسخة معياريَّة مستمدَّة من النُّسختين (ب) و(س). لكنَّنا لم نستطع التَّوصُّل إلى نسخة معياريَّة مستمدَّة من النُّسختين (ر) و(ش). ومن هنا فإنَّنا لم نستطع أن نتوصَّلَ إلى صيغة موحَّدة للحكايات التي وردت في النُّسختين (ر) و(ش)، ولم ترد في النُّسخة المعياريَّة المستمدَّة من (ب) و(س). فهذه الحكايات تختلف روايتها في النُّسختين الطَّويلتين عن بعضهما. ولذلك كنّا ندرج هذه الحكايات كما وردت في أحد الأصلين، وفي بعض الحالات نورد الرِّواية الأخرى في الهامش، إشعاراً للقارئ بمقدار التَّفاوت الأسلوبيِّ بينهما.
من ناحية أخرى، هناك حالة واحدة انفردت فيها الصِّيغة المعياريَّة الصُّغرى بحكاية طويلة نسبيّاً، وهي “حكاية التاجر والأعمى في بلد العيّارين”، بينما ترد هذه الحكاية في نسخة (ش) على نحوٍ مختصرٍ جدّاً، لا يكاد يتجاوز صفحةً واحدةً، وتختفي تماماً من نسخة (ر) بسبب سقوط ورقة كاملة منها.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.