اشتغال العرب بعلوم الفضاء

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الثلاثاء، ٢٠ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٥
جريدة الحياة
أ. م.


نموذج عن اشتغال العرب بعلوم الفضاء : مؤلف «المجسطي» لأبي الوفاء البوزجاني


اشتغل كثير من علماء الحضارة العربيّة - الإسلاميّة بالفلك وعلوم الرياضيات المرتبطة به. وتأثّرت أعمالهم في الفلك بما نقلوه ترجمة عن علماء اليونان، خصوصاً أرسطو وبطليموس. وسمّى كثير من علماء العرب مؤلفاتهم بإسم «مجسطي»، إحتذاءً بكتاب شامل لبطليموس عن هذا الأمر.

وُلِدَ بطليموس قرابة العام 100م، ومات في العام 170م. وعاش مصرياً، لكنه كتب باليونانية. وحاز شهرته بفضل مؤلفه «مجموعة الرياضيات» الذي لخّص فيه معارف عصره في الفلك. وأطلق العرب على ذلك المؤلَّف اسم «المجسطي» (ومعناه «الكتاب الكبير»). والحق أن التعبير العربي مستوحى من اليونانية، حيث كلمة «ماجسطي» تعني الضخم والكبير والفاخر والفائق والبهي وما إليها.

البداية من خرسان

وضع عالِم الفلك الإسلامي أبو الوفاء البوزجاني كتابه الكبير ( «مجسطي») في القرن الرابع للهجرة. لُقّب بـ»أبو الوفاء»، أما إسمه فهو محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العبّاس البوزجاني. ولد في بوزجان، وهي بلدة صغيرة بين بلدتي هُراة ونيسابور التي كانت عاصمة إقليم خراسان. وحاضراً، يقع قسم صغير من هذا الإقليم في العراق، لكن معظمه موجود في إيران. وإلى نيسابور، ينتمي الشاعر الشهير عمر الخيّام، الذي لا يعرف كثيرون عنه أنه إشتغل في الرياضيات بعُمق. وكذلك أنجبت خراسان كثيراً من علماء الحضارة الإسلاميّة في الفلك والرياضيات، لعل أبرزهم محمد بن موسى الخوارزمي، وهو واضع علم الجبر Algebra ومؤلّف جداول اللوغاريتمات Logarithmic Tables، التي ما زالت ركناً أساسياً في الرياضيات الحديثة لحدّ الآن.

ولد أبو الوفاء في حزيران (يونيو) 940 م. وتربّى في كنف عائلة تشتغل بالعِلم. إذ عُرف عمّه عمرو المغازلي وخاله أبو عبدالله محمد بن عنبسة، كعالمي رياضيات. وتتلمذ في الهندسة على يد عالمين شهيرين هما: أبو يحيى الماوردي وأبو علاء بن كرنيب، فعّرفاه أيضاً الى أعمال عالِم الفلك الشهير البتّاني. وقبل أن يكمل العشرين، إنتقل أبو الوفاء الى بغداد (959 م)، وقضى فيها بقية عمره. وتوفي ترجيحاً بين عامي 997 م و998 م، بعد أن عاش قرابة 58 عاماً.

عندما كان للعرب علوم

تضمّن «مجسطي البوزجاني» بحوثاً في ثلاثة علوم هي: الرياضيات والرصد، والآلات الفلكيّة، وعلم الفلك النظري. واعتبر دوماً من ذخائر المكتبة العلميّة العربيّة - الإسلاميّة. وحقّق كاملاً، للمرّة الأولى، على يد الدكتور علي موسى في أطروحته لنيل الدكتوراة في تاريخ العلوم. ونوقشت الأطروحة وأُجيزت في جامعة باريس السابعة (السوربون) في 2005، تحت إشراف الدكتور رشدي راشد، وهو مرجع بارز في تاريخ العلوم عند العرب. وصدر الكتاب محقّقاً عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» (2010)، بعنوان «مجسطي أبي الوفاء البوزجاني».

في تقديمه للكتاب، رأى راشد أن علماء القرن الثالث الهجري، أحدثوا تقدّماً مهمّاً في علوم الرياضيات والفلك، خصوصاً مع إشتغالهم في المراصد التي أُنشئت في دمشق وبغداد. وتصدّوا لمهمة تنقيح ما وصل إليهم من وسائل علميّة، كما توصّلوا إلى معارف جديدة. وحضّهم على تلك الأمور تصدّيهم لحل مسائل أثارتها حضارتهم، كتحديد القبلة ورؤية الهلال وتحديد أبعاد الأماكن وغيرها.

ولعل القسم المتعلّق باشتغال البوزجاني على «علم المثلثات» Trigonometry، استحقّ تنويهاً خاصاً من المُحقّق موسى، مع ملاحظته أن البون أضحى شاسعاً بين معارف علوم الرياضيات والفلك حاضراً وما يحتويه «مجسطي» البوزجاني. وأشار موسى الى أنه ربما يُدهش كثيرون لدى ملاحظتهم أن معظم ما يتعلّمه الطلاب حاضراً في الثانويات عن قوانين علم المثلثات، يرجع إلى أبي الوفاء وتطبيقاته في علم الفلك، وهي الطريقة التي استخدمها العرب في تدريس علم المثلثّات.

وبصورة عامة، يفيد علم المثلثات في معرفة أبعاد الأمكنة وهيئتها ومساحاتها وتقاطعاتها والعلاقات بين أبعادها، حتى عبر مسافات بعيدة، باستخدام ما يتوافر للراصد من قياسات وزوايا.

ويثير القسم الثاني من الكتاب اهتماماً كبيراً بإحتوائه على ما ابتكره البوزجاني من آلات لرصد الأبعاد والمسافات والأشكال والمسارات. وأما القسم الثالث، فهو بحث في علم الفلك النظري Theoretical Cosmology وفيه، يتّضح مدى تأثّر البوزجاني بعلوم اليونان عموماً، خصوصاً بطليموس. إذ قَبِل فكرتهم الأساسية القائلة بأن الأرض هي مركز الكون، ما يوجب على الراصد أن يفكر في حركة الأفلاك والنجوم والكواكب، باعتبارها أفلاكاً تتحرك على مسطح ملفوف على هيئة كرة ضخمة، مركزها الأرض! بديهي أن هذا التصوّر قد أصبح وراء ظهر العلم.

وفي المقابل، يبقى لما رصده البوزجاني وسجّله من أحوال الفلك أهمية تاريخية، بمعنى أنها تساهم في رسم ما كانته صورة السماء بالنسبة للمراقب الأرضي، في ذلك الزمان. ويمكن النظر إلى تلك «اللقطة» التاريخية، من وجه كونها جزءاً من تراكم معارف العلماء عن أحوال الفضاء والنجوم.

ويبقى أن «مجسطي» أبو الوفاء البوزجاني، يعبّر برمّته عن المسار التراكمي للعلم، ما يوجب إعطاء كل مساهمة إنسانية فيه حقّها، والتخلي عن التكبّر، وكذلك التنبّه إلى التقدّم المستمر في العلوم، وعدم التخشّب في صيغ البكاء على الماضي، مقابل عدم القدرة على التعاطي مع الحاضر، ولا التجهّز للمستقبل!

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عن الصورة المرفقة بهذا المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)