السبت، ١٦ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٧
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
«أخي إبراهيم» لفدوى طوقان : صورة الشاعر في مرآة داخلية
«... ونهكت الأسقام إبراهيم، فنقل الى المستشفى الفرنسي في القدس، وبعد أيام قليلة، وفي مساء يوم الجمعة، الثاني من شهر أيار (مايو) سنة 1941 أسند إبراهيم رأسه الى صدر أمه، وقد نزف دمه، وخارت قواه، وهناك أسلم روحه الطاهرة الى بارئه، واستراح استراحة الأبد. كان لإبراهيم - رحمه الله - مصحف صغير، لا يخلو منه جيبه، متبركاً به من جهة، وليكون في متناول يده كل حين من جهة أخرى. فلما توفاه بارئه، كان ذلك المصحف تحت وسادته، ولا تزال الى اليوم ثنية ثناها في إحدى صفحات سورة التوبة، وكانت هذه الآيات الشريفة آخر ما تلاه إبراهيم من كتاب الله أثناء مرضه...».
إبراهيم هذا هو الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، الذي رحل يومها عن ستة وثلاثين عاماً وكان لا يزال في أوج عطائه. أما من يروي ساعاته الأخيرة على هذه الشاكلة فهو شقيقته الشاعرة فدوى طوقان التي كرست لحياته كتاباً عنوانه «أخي إبراهيم»، ولم تتوقف حتى أيامها الأخيرة عن إحياء ذكراه في كل مرة يكون هذا مناسباً. علماً بأن كتابها «أخي إبراهيم» اتبر دائماً المرجع الأساس للتعرف الى هذا الشاعر الرقيق. لكنه اعتبر أيضاً أفضل تكريم قدّمته أديبة وشاعرة الى ذكرى أخيها.
وإذا كان في الإمكان اعتبار كتاب «أخي إبراهيم»، نوعاً من سيرة، تتسم بقدر كبير من الشاعرية والوجدانية، للشاعر، فإنه في الوقت نفسه أشبه بسيرة للعلاقة التي قامت بين الشاعر وأخته. وهي علاقة جعلت فدوى لا تترك لحظة تمر في حياتها تبعدها من ذكرى شقيقها، الذي تقول سيرتها، ويفيدنا الكتاب نفسه بالتالي، بأن علاقتها معه بدأت منذ وقت مبكر من حياتها، فكان بالنسبة اليها «الأمل الوحيد المتبقي في عالمها المثقل بعذابات المرأة وظلم المجتمع». وترينا فدوى في كتابها كم أن «عودة إبراهبم من بيروت الى نابلس في تموز 1926، بعد أن أكمل دراسته وحصل على شهادته من الجامعة الأميركية في بيروت، كان عاملاً مساعداً لإعادة بعض الفرح إن لم نقل الفرح كله» الى حياة فدوى التي رأت في قربه «عاملاً مساعداً في إعادة ثقتها بنفسها وترسيخ خطواتها على درب التعليم الذاتي الذي ألزمت نفسها به بعد أن أُجبرت على ترك المدرسة». وتقول فدوى نفسها عن هذا في الكتاب: «كانت عاطفة حبي له قد تكونت من تجمّع عدة انفعالات طفولية سعيدة كان هو مسببها وباعثها. أول هدية في صغري تلقيتها منه. أول سفر من أسفار حياتي كان برفقته. كان هو الوحيد الذي ملأ فراغ النفس الذي عانيته بعد فقدان عمي، والطفولة التي كانت تبحث عن أب آخر يحتضنها بصورة أفضل وأجمل، وجدت الأب الضائع مع الهدية الأولى والقبلة الأولى التي رافقتها (...). كان تعامله معي يعطيني انطباعاً بأنه معني بإسعادي وإشاعة الفرح في قلبي، لا سيما حين كان يصطحبني في مشاويره الى الجانب الغربي من جبال عيبال».
ولكن كان لا بد لتلك السعادة أن تنتهي يوماً، كما تروي لنا فدوى طوقان، في «أخي إبراهيم»، إذ إن القدر لم يشأ أن يترك لها ذلك النور الذي شعّ في سماء ظلماتها. فالذي حدث هو أن إبراهيم سرعان ما أُقيل من عمل أُسند اليه في محطة الإذاعة الفلسطينية ما اضطره الى المغادرة، مع عائلته، الى العراق ليعمل. غير أنه ما لبث أن تفاقم المرض عليه هناك ما استدعى عودته الى فلسطين التي مات فيها من دون أن يمهله القدر طويلاً. وعن هذا تقول فدوى: «وتوفي شقيقي إبراهيم فكانت وفاته ضربة أهوى بها القدر على قلبي ففجر فيه ينبوع ألم لا ينطفئ، ومن هذا الينبوع تتفجّر أشعاري على اختلاف موضوعاتها». والواقع أن فدوى كانت قد بدأت منذ وقت مبكر وبفضل عصامية إبداعية حقيقية، تتابع أخاها في كتابة الشعر. وهي تروي كيف حدثت بداية إبراهيم في اهتمامه الشعري بها. إذ ذات يوم سمعته يحدث أمه عن تلميذين له وجههما في كتابتهما الشعر. فعلقت هي قائلة «نيّالهم». فما كان منه إلا أن قال لها: «تعالي سأعلمك نظم الشعر». وهكذا بدأت فدوى حياتها كشاعرة كما يبدو.
على رغم الحياة القصيرة التي عاشها، عرف إبراهيم طوقان خلالها الكثير من المشقات والآلام كما يُروى لنا في «أخي إبراهيم»، وهي كلها كانت سرعان ما تنعكس في شعره الذي بدا على الدوام متراوحاً بين الرومانسية والكلاسيكية، كما عبر في العديد من قصائده عن الأوضاع التي كانت فلسطين تعيشها خلال الثلث الأول من القرن العشرين، أي تلك الحقبة التي يعتبر إبراهيم طوقان أحد أبرز شعرائها، الى جانب عبدالرحيم محمود.
ولد إبراهيم طوقان في مدينة نابلس في 1905. وهو منذ صباه الباكر تفتح، وسط عائلة تميل الى العلم والأدب معاً، على روائع القصص الشعبي، وعلى الشعر العربي الكلاسيكي. وكان لا يزال في عامه العاشر حين بدأ يحاول تقليد الحكايات الشعبية والأشعار التي كان يحفظها. وقد تلقى دراسته الابتدائية في «المدرسة الرشادية الغربية» التي كان يدرّس فيها أساتذة ضليعون في العربية من خريجي الأزهر في القاهرة، ممن كانوا منفتحين على أشعار حافظ وشوقي ومطران، ما أعطى طلاب المدرسة، ومن بينهم إبراهيم طوقان، توجهاً حداثياً لا ريب فيه. وبعد أربع سنوات أمضاها في تلك المدرسة وأسسته تأسيساً عربياً قوياً، انتقل إبراهيم الى مدرسة المطران في القدس حيث نال دراسته الثانوية، لينتقل بعدها الى الكلية الإنكليزية ومن ثم الى الجامعة الأميركية في بيروت، في فترة كان قد بدأ فيها بمحاولة كتابة الشعر، مستوحياً المناسبات التي تعرض له لذلك.
أما قصيدته الأولى التي عرفت طريقها الى النشر فكانت تلك التي نشرت، حاملة اسمه، في 1923، أي في العام الذي انتقل فيه الى بيروت حيث كان من حظه أن بدأ الاختلاط بعالم الجامعة الأميركية، ولكنْ بخاصة بعالم الأدب من خلال تعرفه بسعيد تقي الدين الذي بدأ يوجهه توجيهاً صحيحاً في عالم كتابة الشعر (وفق ما تذكر فدوى طوقان). فكانت بعد ذلك قصيدته «ملائكة الرحمة» التي لفتت اليه الأنظار وحددت مساره الشعري واستخدامه الحديث والبسيط للغة في كتابة شعر يزخر بالصور. وبالتواكب مع بداياته الشعرية الحقيقية تلك بدأت الأمراض تنخر جسد إبراهيم طوقان وعملت على تأخير دراسته، إذ إنه بعد ثلاث سنوات أمضاها في الجامعة الأميركية اضطر للعودة الى نابلس ليمكث فيها فترة، يعود بعدذاك الى الجامعة الأميركية في بيروت حيث كان له غرام أول بفتاة فلسطينية تتلقى العلم هناك، فبدأ يكتب فيها قصائد مميزة ساهمت في إضفاء طابع رومانطيقي على شعره ككل.
في 1929 تخرج إبراهيم طوقان من الجامعة كما أشرنا. وبدلاً من أن يعمل ويعيش في مصر كما كان يرتجي، نراه يعود الى نابلس حيث مارس التدريس لمدة عام في مدرسة النجاح، وهو خلال ذلك العام، وتحت وطأة الظروف السياسية، راح يكتب وينشر الشعر الوطني الذي كانت أشهره قصيدته «الثلاثاء الحمراء» التي تتحدث عن إعدام شهداء فلسطين الثلاثة فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير. وبعد مدرسة النجاح عاد إبراهيم الى بيروت، مدرّساً في الجامعة الأميركية هذه المرة، وعاد الى كتابة شعر الغزل، وفي أواخر 1932 كان قد ترك بيروت وعاد الى القدس مدرساً في «المدرسة الرشيدية» في وقت راحت الأمراض تشتد عليه من جديد. وفي 1936 تحول من العمل التدريسي الى العمل الإذاعي، حيث تسلم مسؤولية القسم العربي في إذاعة القدس التي تأسست في ذلك العام. وهو من خلال عمله الإذاعي راح يبث النصوص والأشعار مقبلاً على الكتابة بكثافة ملحوظة، في الوقت الذي راح فيه يخوض معركة حادة ضد أولئك الذين كانوا يريدون إعطاء اللغة المحكية الأولوية على الفصحى في البث الإذاعي. وهو في النهاية خسر تلك المعركة كما خسر غيرها فاضطر الى ترك العمل الإذاعي في 1940، ولكن لم يكن قد تبقى له سوى شهور يعيش خلالها. آنذاك زار بغداد حيث كان يفترض به ان يعلّم لسنوات في «دار المعلمين»، لكن المرض سرعان ما أقعده، ليقضي عليه بعد شهور قليلة، من دون أن يخلف سوى القليل مما كان يحلم بكتابته ونظمه.
إبراهيم العريس
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.