ياسين رفاعية (1934 ــ 2016) - سورية

, بقلم محمد بكري


 ياسين رفاعية


ولد ياسين رفاعية في دمشق عام 1934.

تلقى تعليمه في دمشق. عمل خبازاً وعاملاً في مصنع للنسيج وصحفياً ومحرراً أدبياً.

كما عمل في المكتب الصحفي في القصر الجمهوري (1960-1961)، وفي مجلة المعرفة سكرتير تحرير(1961-1965).

وفي مجلة الأحد اللبنانية رئيساً للقسم الثقافي وفي الصحافة العربية في لندن. ثم انتقل إلى بيروت.

عضو جمعية القصة والرواية.

له العديد من المؤلفات منها “الحزن في كل مكان” 1960 - قصص. “جراح” 1961 شعر. “العالم يغرق” 1977 قصص. “الممر” 1978 رواية. “العصافير” على 3 طبعات 1979. “العصافير تبحث عن وطن” 1979, قصص للأطفال. “الرجال الخطرون” 1979 قصص. “الورود الصغيرة” 1980قصص للأطفال. “نهر حنان” 1983 قصص. “لغة الحب” 1983 شعر. “وردة الأفق” 1985 رواية. “دماء بالألوان” 1988 رواية. “رفاق سبقوا” 1989. “الحصاة” 1990 قصص. “رأس بيروت” 1992 رواية. “امرأة غامضة” 1993 رواية. “حب شديد اللهجة” 1994 شعر. “كل لقاء بك وداع” 1994 شعر. “أُحبك وبالعكس أُحبك” - 1994 - شعر. “أنت الحبيبة وأنا العاشق” 1996 شعر. “أسرار النرجس” 1998 رواية. أصدر رواية ترجمت إلى الإنكليزية بعنوان “مصرع الماس”.



 من دمشق إلى بيروت... مسيرة في تدوين الشقاء


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٩٣ الثلاثاء ٢٤ أيار ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
خليل صويلح


أخيراً، سيتمكّن اللبنانيون، وخصوصاً الشباب، من مشاهدة العمل الذي يعدّ من أهم ما أنتجه المسرح اللبناني. «بالنسبة بدت القصص الأولى التي كتبها ياسين رفاعية (1934 ــ 2016)، كما لو أنها خارجة من بيت النار في الفرن الذي كان يعمل فيه. الصبي الذي ولد في حي العقيبة الدمشقي طحنته الحياة باكراً، فاكتشف قسوة العيش وجهاً لوجه.

كان يحمل صينية الكعك ويقف بها أمام «سينما غازي» يتفرّج عن بعد على ما يدور في مصنع الأحلام، وإذا به ينجذب إلى تلك القصص المتخيّلة في السينما أو إلى تلك التي كان يقرأها في الروايات البوليسية، قبل أن يجرّب الكتابة بنفسه.

لم يكن بحاجة إلى ابتكار عالم متخيّل. وجد ضالّته أولاً في يوميات ماسح أحذية يعرفه عن قرب، فكتب قصة عنه وأرسلها إلى مسابقة كانت قد أعلنت عنها مجلة «أهل النفط» في بغداد التي كان يديرها جبرا إبراهيم جبرا، وإذا بها تحصد الجائزة الأولى. هذه المفاجأة وضعته أمام عتبة أخرى في الكتابة. ومثلما اقتحم حدّاد في حيّ البحصة اسمه زكريا تامر الحياة الأدبية، أتى هذا الفرّان بخبزه الأسود إلى مطحنة الخيال. كان الاثنان يلتقيان ليلاً في مقبرة مجاورة يتناقشان بما أنجزاه من قصص. كان الأول كابوسياً وتجريبياً، فيما انشغل الثاني في مجموعته الأولى «الحزن في كل مكان» (1960) بالعيش في التجربة وتدوين الشقاء، فغرق في أوحال الأزقّة المهملة ونماذجها البشرية في بؤسها وعشقها وخيباتها. يهتف بطل قصة «العالم يغرق»: «الصخرة ثقيلة. الصخرة ثقيلة. وسيظل العالم في انحداره الأبدي يغرق في بحرٍ آسن». ثم أتبعها بمجموعة ثانية أكثر نضجاً هي «العالم يغرق» (1963). هكذا حفر اسمه بيديه وأعصابه وانفعالاته ليصبح واحداً من أبرز كتّاب الموجة الثانية في القصة السورية بعد جيل الروّاد. عمله في الصحافة الدمشقية في تلك الفترة، لم يشغله عن كتابة القصة، على العكس تماماً، فقد تتالت أعماله بغزارة، سواء في القصة أو في الرواية أو في الشعر. تنطوي الحكاية في أعماله الأولى على واقعية خشنة تنبئ عن عزلة الكائن البشري وبؤسه وعذاباته.

أشخاص هامشيون وبسطاء في شوارع تضج بالحياة، لا يجدون مكاناً لهم وسط الجموع، بأحلام مؤجلة يصعب تحقيقها. هكذا تتكرر مفردات مثل: القسوة والفجيعة والعدم والموت والمقابر: «أشعر كأنني ولدت على فراشٍ من شقاء» يقول. مع «الرجال الخطرون» (1979)، تذهب قصص ياسين رفاعية إلى الكثافة والاختزال يحيط بها عالم مغلق وكتيم وعنيف. أشخاص مراقبون على الدوام. مطاردات واستجوابات واتهامات تنتهي بالاعتقال أو القتل. يضيق المكان إلى حدود زنزانة معتمة، أو أقبية رطبة، أو غرف تعذيب. إنه زمن صعود المخابرات، وانتهاك حرية الفرد وحبس أنفاسه، في متوالية سردية تنطوي على وقائع مخزية. لكنه في «العصافير» (1980) ذات النبرة الشعرية، سيبلغ ذروة منجزه القصصي لجهة الابتكار والكثافة التعبيرية. قصص صاحب «مصرع الماس» إذاً، هي استرجاع وقائع معيشة أكثر منها تجارب تخييلية؛ إذ يتفوق الحكواتي على السارد في معظم نماذجها، بعيداً عن التجريبية التي وسمت تجارب مجايليه أمثال زكريا تامر، وسعيد حورانية، وجورج سالم.

هجرته المبكرة إلى بيروت الستينيات التي كانت حينذاك مركزاً ثقافياً بامتياز، وضعته أمام أسئلة أخرى أكثر جذرية، فهو لم يتردد في تغذية عوالمه السردية باعترافات جريئة، نابشاً مناطق سريّة في حياته، من دون أقنعة. وستقوده الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن العشرين إلى الرواية، إذ عاش وقائعها عن كثب. كانت روايته «الممر» (1978) وثيقة مهمة في نفض الغبار عن تلك الحرب الطاحنة، ثم استكمل جوانب أخرى من هذه الحرب في ثلاث روايات لاحقة «رأس بيروت»، و«امرأة غامضة»، و«دماء بالألوان».

رحيل رفيقة دربه الشاعرة أمل جراح (1945 ــ 2004) إثر مرضٍ عضال، أصابه بصدمة كبرى، قبل أن يستعيد ذكرياته معها في روايته الموجعة «الحياة عندما تصبح وهماً» (2008) كنوع من التوازن النفسي في مواجهة الفقد. وسوف يغرق بعد هذه التجربة في أوقاتٍ عصيبة، سعى للانتصار عليها بالكتابة المستمرة والغزيرة والمؤلمة، رغم إصابته بداء النسيان. وهذا ما جعله يلتفت في أعماله الأخيرة إلى تشريح أحوال شخصيات تعيش شقاء الشيخوخة، وأمراض الوحدة، وصعوبة العيش.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf



 «اعترافات» الأيام الأخيرة


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٩٣ الثلاثاء ٢٤ أيار ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
عناية جابر


لدى سماعي نبأ موت الأديب ياسين رفاعية، ما كان لي سوى استعادته في البال من خلال المقابلة الأخيرة (الأخبار 5/8/2015) التي أجريتها معه. أظن أنّ رفاعية تظاهر يومها، بتمام صحته، رغبة منه في حصر اهتمامي وأسئلتي في كتابه «ياسمين» (دار جداول) الصادر حديثاً عن ابنته المتوفاة (موضوع مقابلتنا)، كفعل تطهّر أخير منه، يدلي فيه الكاتب باعترافات تؤرقه.

قعدتُ أنتظره في المقهى القريب من بيتي وبيته في شارع الحمرا، الى أن لاح متثاقل الخطو تجرّه إحدى قريباته على ما أعتقد. خطوات متثاقلة على عكس أجوبته التي تدفّقت كقافلة مسرعة كما لو تُسابق موتاً وشيكاً.

سوريا بلده كانت المبتدأ، ثم بيروت التي أحبّ وأمضى جلّ عمره فيها، الى استعادة لغرامه بزوجته الشاعرة الراحلة أمل جراح، ثم مرضها وموتها، وصولاً الى موضوع كتابه، عن ابنته الشابة التي كانت قد قضت حديثاً إثر مرض عضال، بعد مراكمات من سوء التفاهم معها انتهت بغفرانه وغفرانها.

في حضور رفاعية ـــ وعلى الرغم من مرضه البادي ـــ هناك ذلك الملمح الذي يتصدى لليأس والموت، من خلال محاولة اجتراح فهم أفضل للحياة، عبر الوقوع في غرام المكان الذي هو فيه، والتصالح معه ومع ناسه كما في علاقته ببيروت، كذلك الاعتناء بنفسه وهندامه، محاذراً الوقوع في أسر المرض المعتم، القابض، الذي أغرق جسده بالرعب. ظلّ ياسين رفاعية يُردّد على مسمعي كلما هممت بالاستراحة قليلاً من تدوين أجوبته: «اكتبي، اكتبي بسرعة، فأنا أهديك هنا كل اعترافاتي السيئة منها والحسنة. ولعل الوقت والمرض لن يسمحا لي بعد بفعل هذا ثانية». الهاجس الوحيد كان حضور ابنته التي قضت شابة، وترقد الآن كحنين مقيم في أعماقه، رغم بقائه المؤلم على خصام معها في حياتها، وهو حافظ على جفائه لها بصرامة لافتة، حتى قضت بشكل مؤثر.
في تواز صارم، عاش رفاعية حياته البيروتية، مفرداً أوقاتاً لا تحيد، للمقهى وللأصدقاء القليلين، للمعجبات ولنساء حياته، وللكتابة المثابرة التي كان يرفدنا بها كل عام.

رغم لطف رفاعية ودماثته لمن يعرفه عن قرب، ظل بعيداً عن أجواء الشلل والجماعات بالمفهوم الصاخب للكلمة، مكتفياً بحب بيروت والتسكع في شوارعها، هي التي احترمت رأيه ومعتقده السياسي والفكري والأدبي، وهيأت له رغد الكتابة والتأليف والنشر، والحب والوحدة والعزلة الى حد، واحترمت خصوصياته على ما يرغب ويشتهي. لا يبدو رفاعية عن قرب، على كثير من التعقيد، بل تخللت جلساتنا معاً، السابقة وتلك الأخيرة، المزاح وتعداد مزايا وثراء الطبخ الشامي، ووصف الحارات السورية والأزقة، كما لو أنّه يصف لي عالماً لن تتسنى له رؤيته مجدداً.

أدار رفاعية ظهره لكل الأحكام المسبقة في كتبه ورواياته، فهو يكتب على ما كان يقول، كي يبدع نظامه الأدبي الخاص، عبر الجمال والحياة انطلاقاً مما كان يحيطه، رغم أن محيطه البيروتي هذا ليس سوى ــ على ما قال لي ــ نسخة مهلهلة عن بيروت ــ زمان، التي عرفها سابقاً.

لم يأسَ في حديثه لي على الأوضاع في سوريا، ولا على ناس سوريا، لكن لمعة الحنين كانت تطلّ بين جملة وأخرى، تُزيد من انحناءة الرجل على الطاولة ما بيننا.

تعرّض رفاعية لجميع الأفكار في أدبه: الحب، العائلة، سوريا، بيروت، الأصحاب، النساء، بيد أنه لم يسقط في فخ «الأدب الملتزم». عرف الرجل كيف يُرطّب في كتابته من آلام شعبه، عبر مفرداته الخاصة ومحاولة إضفاء أمل ما على توجسه الداخلي، ورعبه من الآتي.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf



 روايات الحرب الأهلية


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٩٣ الثلاثاء ٢٤ أيار ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون


إلى جانب دمشق، حضرت بيروت ووقائع الحرب الأهلية في القصص المحكية لياسين رفاعية، كما شكلت خلفية عدد كبير من كتبه التي تجاوزت العشرين. تسرب ثقل الحرب اللبنانية إلى أحداث «الممر» (1978) أولى الروايات التي صنفت ضمن أعمال الحرب الأهلية.

من خلال قصة حب، أدخل الروائي السوري تفاصيل الاقتتال المسيحي المسلم على الهوية، على هامش قصة مثقف يحلم بتحول إيجابي، ويدفع حياته ثمناً للحب، مصلوباً كما المسيح. وفي «رأس بيروت» (1992) التي حملت اسم المنطقة التي عاش فيها حتى رحيله أمس، تتبع رفاعية يوميات الحرب، وتفاصيل الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية. بطل الرواية هو عبد القادر الذي أتى إلى المدينة كبائع صحف ورث المهنة عن والده، ليعتاده الناس وسكان الأبنية، قبل أن يختفي فجأة في ظروف غامضة. يقدم رفاعية هنا ما يشبه الرصد الشامل لمصائر الناس في رأس بيروت، التي كانت خالية من المقاتلين، لكن الظروف القاسية كانقطاع الماء والكهرباء حوّلتهم إلى مشاريع مقاتلين. «امرأة غامضة» (1993) هي محطة أخرى مع العاصمة اللبنانية. يأخذنا رفاعية إلى الثمانينيات، آخر مراحل الحرب الأهلية من خلال قصة رجل أربعيني مغرم بشابّة عشرينية يلفّ الغموض شخصيتها، فيسعى هو إلى تبديده. وفي «دماء بالألوان» (1988)، يقف الرسام وديع الخال أمام حياته التي دمرتها أشباح بيروت بعدما خسر لوحاته ودفاتره وأوراقه.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf



 شيخوخة الصفّ الثاني


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٩٣ الثلاثاء ٢٤ أيار ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
حسين بن حمزة


مات ياسين رفاعية. بعض الموت مربك أحياناً حين يتعلق بكاتب ظل حضوره متداولاً داخل ما يمكن أن نسمّيه كتّاب الصف الثاني. لم يكن الكاتب السوري الذي أقام في بيروت منذ الستينات على الهامش تماماً ولم يكن في المتن تماماً أيضاً.

كان هذا التأرجح متاحاً، ولا يزال متاحاً في بيروت وفي صحافتها وفي مقاهيها، وفي فقاعتها الفريدة التي لا تزال تحتوي على هواء مختلف وأكثر حيوية من العواصم العربية الأخرى.

جاء رفاعية إلى بيروت في رحلة قطعها، قبله وبعده، سوريون وعراقيون وفلسطينيون ومصريون وسواهم من الكتاب والشعراء العرب. كانت بيروت مكاناً لصناعة الأسماء أو صقلها أو منحها اعترافاً ومساحات مفتوحة أكثر. كان صاحب «الحزن في كل مكان» (1960)، باكورته القصصية التي نشرها في دمشق مستدرجاً إلى هذا المناخ الفائر بكل النبرات والطموحات.

عاش في سخاء تلك الحقبة وثرائها، وارتبط اسمه بأسماء عديدة ظل حتى أيامه الأخيرة يستعيدها داخل مرويّاته عن بعض خبايا وأسرار تلك الحقبة، بل إنه ظل منتمياً في كتاباته ونصوصه إلى ذاك الزمن أيضاً، وبدا عالقاً في سياق ولغة كانت سائدة في زمن أقدم حتى من ستينات بيروت ذاتها. كان رفاعية حكّاء وراوياً شفوياً يمزج بين بساطة الحديث وخصوبة الزمن الذي يروي عنه. يمكنه أن يحدثك طويلاً عن غسان كنفاني وغادة السمان وليلى بعلبكي وسامي الجندي وزكريا تامر وعصام محفوظ... ويبتهج بحيازته لانطباعات ووجهات نظر وأسرار شخصية حول تلك التجارب. تلك الانطباعات والحكايات والسرديات تسربت بالمذاق البسيط نفسه إلى قصصه ورواياته، وخصوصاً الأخيرة منها. ولعل معظمنا قرأ تلك الروايات التي أقامت في الصف الثاني أيضاً، ولم تكن حاضرةً في الواجهة التي تضم أحدث الروايات وأكثرها راهنية على مستوى الكتابة.

وفاة رفيقة دربه الشاعرة أمل جراح (1945 ـــ 2004) أفقدت رفاعية تلك الصحبة الثمينة التي كانت ستؤنس كهولته في المقلب الأخير من العمر. الزوجة الراحلة كانت حاضرة باستمرار، وكان باستطاعته أن يُقحم اسمها وحنينه إليها في أي حديث معه. في سنواته الأخيرة، كان يتحدث عن قصص حب يعيشها، ويبالغ ربما في حضور تلك القصص التي وجد فيها منافذ ضيقة ومنعشة لوحشته المتمادية التي قضاها وحيداً في منزله في نهاية شارع الحمرا. الشارع الشهير الذي انحصرت حياة ياسين رفاعية وكتاباته على أرصفته ومقاهيه وصداقاته. هناك، كتب معظم أعماله عن الحرب وعن رأس بيروت وعن كتّاب وشعراء يرتادون مقاهي الشارع، وعن قصص حب بين كهول وفتيات في مقتبل العمر.

ظل ياسين رفاعية يغرف من ماضيه ومن سيرته ومن سيرة بيروت التي احتضنته. كتب شعراً أو نصوصاً ذات نفَس شعري كما كان يسميها، وكتب القصة والرواية، وظل يعمل في الصحافة، وأصدر أكثر من عشرين كتاباً. كتب عن زوجته، وأعاد نشر روايتها «الرواية الملعونة» التي فازت بجائزة مجلة «الحسناء» سنة 1968. وفي كل ذلك، ظل ياسين رفاعية يشبه نفسه وذاكرته وسيرته. كأن كل تلك الكتابات ترابطت فيما بينها بقوة تلك الذاكرة وتلك السيرة. سيرة وذاكرة لم يُكتب لهما الالتحاق بالتطورات والانعطافات التي حدثت في الرواية المعاصرة، ولم يُكتب لصاحب السيرة والذاكرة أيضاً أن يعيش شيخوخة كتّاب الصف الأول، وأن يحظى بصيت وبريق وترف رحيل هؤلاء أيضاً.

رحل ياسين رفاعية في الظل تقريباً. شيخوخته ومرضه ساهما في ذاك التواري البطيء الذي اكتمل أمس وهو في الثانية والثمانين.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf



 تابع الحب بعد الموت


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٩٣ الثلاثاء ٢٤ أيار ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
محمد علي شمس الدين


بموت ياسين رفاعية، ينفرط عقد زمن جميل كنا عشناه معاً. كنا متجاورين في الزمن ومتجاورين في السكن ومتجاورين في تبادل أسرارنا وحفظها حتى أوان اللحظة المناسبة.

فما بيني وبين ياسين وبيني وبين أمل جراح، وما كان بين أولادنا، أمر روائي بحق.

ولست أدري ما ذكره ياسين رفاعية في روايته التي كان على أهبة توقيعها ولم يفعل بعد أن أجبره الموت على توقيع روايته. هذه الرواية اسمها «من خرم الابرة»، وكان قد نقل لي اسمها قبل أسبوع من موته. كان في المنزل، ولم يكن متأهباً للرحيل. كل ما في الأمر، كما قال، هو أنه سيدخل المستشفى ليجري عملية في عينه اليمنى بعد أن أجرى عملية في عينه اليسرى.

وكان ممتلئاً برغبة الحياة ودفق الكتابة. قال لي إنه ستصدر له عن «دار الساقي» ثلاث روايات من بينها «من خرم الأبرة»، وقال لي إنني مذكور في الرواية كشخص من أشخاصها بالاسم. وأنني مدعو من الآن لحضور توقيع الرواية.
لم أرغب في سؤاله عن ملامحي في الرواية، بل احتفظت بذلك إلى القراءة. وها أنا الآن أقرأ موت صديقي ولم أقرأ روايته بعد. ترى ماذا سيقول؟ ترى أي صفحة من حياة ورواية وشعر طويت هذا اليوم؟

ترى أيلتقي بأمل جراح من جديد؟ وكيف؟ ترى أيسلم لي على امرأة أخرى هو يعرفها وأنا أعرفها ولا أحد سوانا يعرفها وماتت.. أيراها هناك؟

لقد جلست الجميلة بيننا في رحلة إلى المغرب... وكان أن... ثم ماتت الجميلة. ياسين وحده يعرف ذلك. ولست أدري إذا كان ذكر ما كان في روايته.
ياسين رفاعية شاعر في أصل روايته. شغفه بالشعر قرنه بأمل جراح. وهذا الشغف هو الذي عقد بيني وبينه صداقة حياة. والحياة بمفاجآتها، التي عاشها ياسين كانت التربة التي نمت فيها رواياته. وقد كان الرجل محاطاً بأمرين ملتبسين: الحب والموت. لقد أحب الرجل حتى الثمالة. أمل ماتت وابنته (وكانت صديقة ابنتي اَسيا) ماتت. ولم يبق له سوى بسام.
أعطى ياسين لكل أصدقائه من ذاته. وهذه الكتابة عنه في يومه الأخير ستكون أول الإشارات إلى إبداعه الغزير الحي. إبداعه الذي لا ينطوي مع جسده في قبر لا أعلم أين سيكون. في دمشق التي غادرها أم في بيروت التي حضنت أيامه.

تابع يا ياسين الحب بعد الموت.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf



 عن الجناس الناقص بين ياسين والياسمين الدمشقي


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٩٣ الثلاثاء ٢٤ أيار ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
شوقي بزيع


كم هو شاق على المرء أن يكتب عن الموت «الطازج» لأحد أقرب الأصدقاء إلى قلبه، كما هو الحال مع ياسين رفاعية. وكم هو صعب ومدعاة للحرج والمرارة أن تدعى إلى رثاء شخص عزيز ولصيق بحياتك، فيما جثمانه لم يوار التراب بعد، وفيما أنت منشغل بترتيبات موته وإخراجه من المستشفى ونشر نبأ رحيله حيث يجب أن ينشر.

كما أنّ عليّ من جهة ثانية أن أصدّق النبأ الفاجع كي تصدّقني اللغة وتمنحني ما أشاء من المفردات التي تليق بفداحة الخسارة وغصة الفقدان. ذلك أنّ علاقتي بياسين تعود إلى أكثر من أربعة عقود من الزمن، كانت أكثر من كافية لمنح صداقتنا فرصاً ومطبات كثيرة لاختبار رسوخها المتجدد يوماً بعد يوم، ولتحويلها إلى مناسبة مديدة للمناومة وتبادل المسرات والأحزان ولاحتساء ما أمكن من ملذات الحياة وشقاءاتها. وحين انتقلت إلى منزلي الجديد في رأس بيروت، تكفلت المصادفة من جهتها أن توثق ما بيننا من مودة، حيث كنت أستطيع أن أطل من إحدى النوافذ على شرفة منزل ياسين التي زينتها زوجته أمل جراح بنباتات الفل والغاردينيا وبالياسمين الذي كان شذاه العطر يعود بالزوجين الكاتبين إلى مرابع دمشق، وأحيائها الفواحة، بقدر ما كان يصنع مع اسم صاحب «مصرع الماس» جناساً شبه كامل يدفعني على سبيل الطرفة إلى أن أسميه «ياسمين رفاعية». لم تكن الكتابة وحدها هي ما ربطني بياسين، ولا تلك الشرفة الزاهية التي أطلقت أمل جراح من وراء نباتاتها المعلقة زغرودتها الحنون، محتفيةً بزفافي المفاجئ قبل 13 عاماً، مغالبةً مرضاً خطيراً في القلب وضع حداً لحياتها القصيرة بعد عدة أشهر. ولا القدر الذي جعلنا نلوذ بالمكان عينه حيث كان كل منا يخلد إلى ركنه المنعزل في مقهى «دبيبو»، لكي يعاقر أحدنا لغة الشعر ويصنع الآخر مصائر مناسبة لأبطال رواياته. بل كان ثمة شيء يتصل بالكيمياء، وشيء آخر يتصل بالموقف من العالم، وبعشق الجمال حيثما انعكست تجلياته، وبانتزاع الضحك من جذور المفارقات، وبالاحتفاء بالأنوثة الكونية التي تجد في المرأة مرآتها الأصفى وظهيرها الساحر. ولعل فرح ياسين بالحياة وانجذابه الواله إلى عقد صلات المودة مع ينابيع العذوبة الأم، هما ما جعلا حياته آهلة بالصداقات، وهما ما دفعا شاعراً رائعاً وفائق الحساسية كأنسي الحاج إلى جعله جليسه الأثير الذي يأنس إليه كلما انسدت أمامه سبل الفرح والابتهاج. ولعل أنسي المتردد باستمرار إلى منزل ياسين كان، وهو يكتب «الوليمة»، يرى في صاحب «حب شديد اللهجة» التمثل الأصدق لشغفه بحب العالم، ولرغبته في التهام أطايبه من ظاهر القشور حتى صميم النواة.

كان ياسين رفاعية، بقامته الفارعة وجسمه الممتلئ، نهراً عارماً من الحكايات يمشي على قدمين. كان خزاناً من السرد والاستعادات الشفوية لشوارد الذكريات التي لم يكتب منها، على غزارة ما أنتجه، سوى القليل. صحيح أن سيرته الشخصية كانت حافلة بالانتصارات والنكسات، بالمفقودات اللقى، بالأمل وخيبات الأمل، غير أنّه كان يظفر في الحالتين بغنيمة القص، وبتحويل كل ما خبره إلى جنة من المرويات التي كان يعرف كيف يعيد اختراعها بذاكرته المتوقدة ورشاقته في توليف الحكايات. وكان كريماً في كل شيء، في الهدايا التي يغدقها على نسائه دون حساب، كما في مظهره الاحتفالي. في أناقته الباذخة، كما في لغته المتدفقة التي يسيل لها سامعاته وسامعيه. وكنا نشعر، نحن أصدقاءه ومجالسيه، بأنّ رواياته وقصصه التي أصدرها بالعشرات لم تكن سوى الجزء اليسير مما يخفيه طي نفسه، أو مما حال الموت بينه وبين إنجازه في كتب. فقد كان قادراً على التقاط كل سانحة من سوانح عيشه، وتحويلها إلى عمل سردي. والنساء اللواتي وقع في عشقهن، لم يكنّ في الواقع سوى ذرائع مختلفة للوقوع في عشق اللغة، أو لتحويلهن إلى روايات.

أما كهولته الزاحفة وشعره الذي اكتسى بالبياض، فلم يخففا أبداً من هيجان روحه، ولا من وسامته المهيبة والمشبعة بالظرف، ولا من لمعان عينيه الراغبتين في افتراس كل ما تقعان عليه من مباهج وملذات.

كأبطال الأساطير عاش ياسين رفاعية، وكأبطال الأساطير قضى ياسين بجلطة عنيفة في الدماغ، في أحد مستشفيات بيروت. غريباً وشبه وحيد، ذهب الفارس الدمشقي، الذي اتخذ منذ يفاعته من بيروت التي أحبها سكناً له، إلى حتفه الأخير، بعدما أنفق كل ما في جعبته من نهم للحياة، ولم يدخر قروشه البيضاء لأيامه السود.

وكما حدث لبدر شاكر السياب، انفض عنه معظم أصدقاء زمن الرفاه، ولم يتحلق حوله على سرير الموت إلا رفاق ستة: أخته نجاح، وابنه بسام، وزينة سعيفان، ورنيم ضاهر، ورفيق لابنه الوحيد لا أذكر اسمه، وكاتب هذه السطور. لا شيء في منزله سوى مكتبة بيته، وبعض لوحات أصدقائه من الرسامين، وصور أمل جراح، وبعض النساء اللواتي أحبهن، وشتلات الغاردينيا والياسمين التي لن تجد بعد أيام من يشاطرها الدموع قبل أن تستسلم للذبول. أما أنا، الناظر كلما خرجت من البيت نحو شرفته المقابلة، فلن أجد بعد من يرافقني في أمسيات الشعر، أو يشاطرني الجلوس في ركن المقهى، أو يعاتبني على التخلف عن زيارته كلما استبد به الحنين وأثقله جليد العزلة.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf



 «منزل أمل جراح»


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٩٣ الثلاثاء ٢٤ أيار ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون


اسمها مكتوب على باب البيت في آخر شارع الحمرا. «منزل أمل جراح»، هناك، في الطبقة السادسة حيث صار ياسين يسكن وحيداً بعد وفاة زوجته الشاعرة والروائية السورية (1945 ـ 2004).

الكنبة التي كانت تجلس عليها لا تزال في الزاوية، وضع عليها أكسسواراتها وبعض أغراضها، كي يحتفظ بقعدتها الأخيرة عليها. كان ياسين لا يجد صعوبة بإقناع من حوله بأنه يعيش معها. صورتها تغطي الحائط أمام مكتبه، ولوحات وصور أخرى على الجدران المتبقية في غرفة الجلوس. بعد رحيل أمل، صار رفاعية يعيش حياة اضطرارية، يمضيها بالكتابة، وبذكرياته معها. الذكريات نفسها التي راح يرويها لزواره دائماً، عن جلستها، وكلامها، وعن المصعد الذي أتوا به إلى المبنى رأفة بقلبها المعطوب. في «الحياة عندما تصبح وهماً»، روى محطات من حياتهما الزوجية التي بدأت عام 1967، ثم استقرارهما في بيروت، وسفرهما إلى لندن... حياة ممزوجة بآلامها مع مرض القلب. وفي ذكرى وفاتها الخامسة، أشرف رفاعية على إصدار روايتها «الرواية الملعونة» (دار الساقي) التي فازت بجائزة مجلة «الحسناء» عام 1968 بعنوان «خذني بين ذراعيك». هذا الفقدان سيظل يرافقه حتى أيامه الأخيرة، متحايلاً على ألمه بالغزارة في الكتابة.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf



 ياسين رفاعية رحل تاركاً «الحزن في كلّ مكان»


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٩٣ الثلاثاء ٢٤ أيار ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون


«فما كان منّي إلا أن صرخت: يا إلهي... ماذا فعلتَ بي؟!». كانت هذه العبارة الأخيرة من رواية «ياسمين» (دار جداول) آخر إصدارات الروائي والقاص السوري ياسين رفاعية (1934 ــ 2016).
82 عاماً ثريّة عاشها صاحب «العصافير» طواها الموت صباح اليوم، في بيروت، التي عشقها وأقام فيها قرابة الأربعين عاماً.

منذ مجموعته القصصية الأولى «الحزن في كل مكان» (1960)، عرف رفاعية أنّ «الحزن في كل مكان»، فعمل عبر كتاباته على الخوض في الحزن وأمكنته، محاولاً ابتكار مفردات جديدة للحياة التي عرف بحبه لها. ولد رفاعية في دمشق عام 1934، لعائلة فقيرة، وتنقل في عديد من الأعمال مطلع شبابه، قبل أن يبدأ مشواره الأدبي بعد صدور مجموعته القصصية الأولى، ليتحول بعدها إلى صحافي، ومحرر أدبي، ومن ثمّ سكرتير تحرير لمجلة «المعرفة»، فمديراً لمكتب صحيفة «الرأي العام» الكويتية في بيروت. أسس مجلة «سامر» للأطفال وترأس تحريرها لسنتين. وتزوج من الشاعرة أمل جراح (1945 ــ 2004)التي ترك رحيلها أثراً بالغاً في نفسه حاول مداواته بغزارة كتابية حتى أيامه الأخيرة.

اليوم يغادرنا رفاعية مكلوماً بما تعيشه بلاده من مأساة، بعدما ترك لنا إرثاً من الأعمال الأدبية ناهز الثلاثين مؤلفاً من أشهرها: «العالم يغرق»، «العصافير تبحث عن وطن»، «أنت الحبيبة وأنا العاشق»، «الممر»، «رأس بيروت»، «سوريو جسر الكولا».

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 روابط إضافية


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٩٣ الثلاثاء ٢٤ أيار ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون


ياسين رفاعية : الكاتب الذي عاش في ظل الغياب

المقالات بالـ PDF



 ياسين رفاعية أحد رواد القصة العربية القصيرة يرحل في بيروت


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 24-05-2016، العدد : 10285، ص(15)
الصفحة : ثقافة
العرب - أوس داوود يعقوب وكمال بستاني


الكتابة فعل إبداعي لا يمكن أن يتعلمه الإنسان ما لم تكن الموهبة والروح الإنسانية الشفافة أرضيته الأولى، ولا يمكن للتعلم الأكاديمي أن ينتج كتابا موهوبين متجاوزين للسائد، وهذا تثبته الكثير من تجارب الكتاب والشعراء العصاميين الذين غيروا وجه الأدب على مر العصور والأقطار ولكنهم لم يتعلموا الكتابة في الجامعات أو المدارس، فكانت مدرستهم هي الحياة منها أخذوا وإليها أعطوا حياة أخرى. هكذا هو الكاتب والشاعر السوري ياسين رفاعية الذي غادر الحياة التي أعطته تجربتها المرة فبادلها بكتاباته الغزيرة ومتنوعة الأجناس.

توفي الكاتب والشاعر السوري ياسين رفاعية الإثنين عن عمر ناهز 82 عاما ببيروت، وهي المدينة التي استقر بها منذ ستينات القرن الماضي.

ياسين رفاعية كاتب عصامي، حيث منعته ظروف حياته القاسية من مواصلة الدراسة لكنها لم تمنعه من الكتابة، والكتابة الغزيرة التي شملت مختلف الأجناس الأدبية من شعر وقصة ورواية، هذا إضافة إلى اشتغاله في الصحافة التي قدم فيها تجربة فريدة في رحلته بين الشرق، لبنان، والغرب، لندن. فـفي عام 1961 عمل رفاعية سكرتير تحرير في مجلة “المعرفة”، كما عمل بعدها رئيسا للقسم الثقافي في مجلة “الأحد” اللبنانية، واشتغل في الصحافة العربية في لندن وانتقل منها إلى بيروت.

تنوعت كتب ياسين رفاعية حيث أصدر مجموعات قصصية عديدة أغلبها كان يتميز بنفس ذاتي وعفوي نذكر منها “الحزن في كل مكان” و”رأس بيروت” و”الممر”، كما أصدر عددا من المجموعات الشعرية نذكر منها “أنت الحبيبة وأنا العاشق” و”وردة الأفق” و”العالم يغرق” و”أسرار النرجس”، إضافة إلى عدد من الروايات مثل “امرأة غامضة” و”دماء بالألوان” و”مصرع الماس”، وقد ترجمت هذه الرواية إلى الإنكليزية.

ويبقى الملاحظ في أعمال ياسين رفاعية قدرته على النفاذ من جنس أدبي إلى آخر، حيث لا فرق بين شعره وقصصه ورواياته من حيث اشتغاله على اللغة وخاصة من حيث انطلاقه دائما من رؤية خلاّقة تدفعها ذات صادقة تسعى إلى إرساء قيم الإنسانية والسلام رغم السواد الذي يحيطها، حيث عانى الكاتب كثيرا من تجربة حياتية قاسية لاحقته بفقد أحبته – زوجته وابنته- والملاحقة السياسية والقمع.

رحل غريبا
“غريباً ومهيضاً ومحاطاً برواياته العشرين رحل ياسين رفاعية. الطابق السادس من المبنى المقابل لمنزلي في رأس بيروت سيخلو من شاغله الأخير. وحدها الياسمينة، التي رعتها أنامل زوجته الراحلة أمل جراح، ستذرف قبل أن تذبل دموعاً بيضاء”. بهذه الكلمات رثى الشاعر اللبناني شوقي بزيع صاحب الكاتب السوري ياسين رفاعية الذي غادرنا يوم الإثنين في بيروت عن عمر يناهز 82 عاماً. وقالت الشاعرة والإعلامية عبير شرارة “مات ياسين رفاعية، الروائي والكاتب الجميل والحساس، الحكواتي بالفطرة، الإنسان صاحب القلب الأبيض”.

كان آخر حوار تلفزيوني أجري مع الكاتب في نوفمبر 2015 عبر برنامج “خوابي الكلام” على شاشة تلفزيون لبنان، مع عبير شرارة، وتحدث من خلاله عن رواياته وعن تعرضه للخطف ومحاولة الاغتيال، وروايته “مصرع ألماس” التي سرقت كاملة في مسلسل “باب الحارة” على حد قوله. وفي روايته هذه يتحدث رفاعية عن دمشق الأربعينات، أيام طفولته المبكرة. وتعكس هذه الرواية الحياة الاجتماعية في سوريا.

وطوال مسيرته الأدبية حاول رفاعية أن يفجر حزنه في كتاباته. يقول في أحد حواراته الصحافية في 2011 إن هذا الحزن نابع من حياته الشخصية. فقد عاش في عائلة فقيرة، واضطر أن يمارس عدة مهن، بينها عامل في شركة نسيج وصانع أحذية وبائع كعك في الطريق، لكن قراءات الكاتب الكثيرة نمت لديه موهبة الكتابة وشجعته عليها.

كتب صاحب ”أهداب” أولى قصصه “صانع الأحذية” ونال عليها جائزة في القصة القصيرة من مجلة “أهل النفط” بالعراق التي كان يرأس تحريرها الكاتب الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا.

ويقول رفاعية “هذه القصة غيّرت مجرى حياتي وانتقلت بعدها للعمل في الصحافة وبدأت أنشر قصصي في الصحف السورية (الشعب، دمشق المساء، النصر، الأيام، الأخبار).

وتقول عنه الكاتبة والصحافية اللبنانية عناية جابر “ليس الهوس بكتابة الروايات والقصص (13 رواية لغاية الآن، عدا القصص القصيرة والمجموعة الشعرية وروايتين لم تُنشرا بعد)، مجرد اكتظاظ فنّي وسيولة أدبية عند رفاعية. بل إنّها الكتابة المتواصلة التي تُنقذه من الجنون والانتحار. أمر نصحهُ به طبيبه النفسي المُعالج، طالباً منه عدم التوّقف عن الكتابة، بغية استعادة الاتزان إثر حياة طويلة شابها فقدٌ موجع. فقد أحبّة تمثّل في موت ابنته الشابة لينا عن سبع وثلاثين سنة، وموت حبيبته وزوجته الشاعرة أمل الجراح قبل موت ابنته بسنة واحدة”.

وتعد السيرة الروائية “ياسمين” الصادرة عن “دار جداول” في بيروت في العام الماضي، هي آخر أعمال رفاعية. وتقدّم الرواية في مستهلها صورة عن الصراع ما بين القيم الأخلاقية عند الرجل الشرقي والرجل الغربي، حيث تنظر القوانين إلى الأب كمجرم حاول قتل ابنته، فيما الأب يدافع عن شرفه وما يؤمن بشرعيته وتقاليده في عقاب الابنة التي خانت تقاليد أسرتها.

حكايات للتوثيق

يعتبر الناقد محمد الراشدي أن ياسين رفاعية من الأسماء التي يختطف ما تكتب دون تصفحه وتشرع في قراءته فور اقتنائه، فما يجعله قريبا من القلب هو صدقه العجيب في تكوين المشهد الذي ينجح في أن يمسّك بكتابته كما أن سرده المدفوع بحيرته الخاصة يجعل منه إنسانا يحكي لك مباشرة وبنفسه فحكاياته ليست مجرد كلمات على الورق وحسب، فهو من الكتاب القلائل الذين يجعلونك تشعر بأنهم يهمسون لك بالحكايا كما يعرفونها ويرونها وكأنك المتلقي الوحيد.

عن مجموعته القصصية الأولى “الحزن في كل مكان” يقول القاص السوري ياسين رفاعية في مفتتح أعماله الكاملة الصادرة عام 2012، عن دار جداول، في بيروت “الحزن في كل مكان قصصي الأولى، كتبتها وأنا شاب في العشرين، وصدرت طبعتها الأولى عام 1960، ويوم كتبتها قصة بعد قصة كنت أرى الحياة بغير ما أراها الآن، كنت أقل كآبة، وأقل حزنا، وأكثر فرحا، ومع ذلك كانت القصص سوداوية وقليلة الحظ، ولا أدري وقعها الآن، وقد تكاثرت الكآبة وكبر الحزن ومات الفرح”.

ويضيف رفاعية عن الظرف الحياتي الذي أنتج فيه مجموعته “يومذاك، كنت قليل الثقافة، فأنا في الأصل عامل لم تتح لي ظروف حياتي أن أتابع دراستي، وبسبب ذهابي إلى المخبز الذي كنت أعمل فيه منذ الرابعة صباحا حتى السادسة مساء، لم أكن أستطيع القراءة حتى، كنت أعيش حياة صعبة، وبسبب التعب كنت أذهب إلى النوم مباشرة … كانت أوضاعنا صعبة وشرسة”.

ويقر الناقد أن مجموعة رفاعية القصصية “العصافير” هي المجموعة التي شكلت مرحلة مختلفة وناضجة في مسيرة الكاتب. حتى أن جبرا إبراهيم جبرا قال فيها “العصافير من أجمل وأبدع ما قرأت منذ زمان، أصيلة، عميقة الإنسانية، فاجعة، مفرحة، تترك أثرا معقدا وطيبا في النفس كأحسن الشعر”. وقد أورد الكاتب هذه الشهادة رفقة شهادات أخرى خاصة لصالح جودت، وعصام محفوظ، وأمين العيوطي، وغيرهم في مقدمة الأعمال الكاملة.

كاتب في بيروت

وكتبت عناية جابر أن “ياسين رفاعية الذي أمضى جلّ عمره في لبنان، أي أكثر من أربعين سنة، كان يراه البلد الوحيد الذي عاش فيه حراً”. وتذكر بأن الكاتب الراحل كان يقول عن بيروت «لم يدق بابي يوما أي شرطي سير! كنت أشعر بالأمان المطلق. يحبونني ويحترمونني وكل دور النشر تقبل كتبي. كما أنني مارست الصحافة هنا، وراسلت كل وسائل الإعلام المكتوبة وصنعت اسمي. لبنان حاليا بعد الحرب الأهلية التي عايشتها بكل فجائعها، انكسر أخلاقيا وانفرز طائفيا، وأصبح الآن على كف عفريت. لا رئيس ولا مؤسسات ولا دولة ولا جهات قادرة حتى على رفع النفايات من الشوارع. هذا سببه أن لبنان ولد ولادة قيصرية وانتزع انتزاعاً من خاصرة سوريا. بيروت هي النافذة التي انفتحت لي على الأفق، بعد بدايات خانقة في سوريا عملت فيها في كل المهن، من صبي فرّان في فرن أبي إلى العمل مع صانع أحذية. حين جاءت لور غرّيب إلى دمشق، أجرت معي حوارا وكنت قد بدأت الكتابة. وعندما عادت إلى بيروت، نشرت حواري ووضعت صورتي على غلاف ملحق «لو جور» وفي الخلفية فرن أبي، وقالت في العنوان: من هذه الجامعة تخرّج ياسين رفاعية. نتاجاتي كما قلت لاقت ترحيبا هنا وفي مصر، والنتاج الجيد يفرض نفسه، خصوصا في سوق الرواية المفضلة عند الناشرين».

حب العراق

يقول محمد حياوي إنه على الرغم من أن “الحزن في كل مكان” و” العالم يغرق”، بل ويحترق منذ أكثر من عقد من الزمان، إلّا أن ياسين رفاعية تمكن بشكل أو بآخر من تبديد الحزن الذي مزّق خاصرته وابتكر أشكالا أخرى من التسرية للمضي قدماً في الحياة، بكبد مفتت ومحترق نتيجة لفقد أحبابه، وبروح ملتاعة يكتنفها الخوف المزمن من شرطي يتوقع أن يخرج له من العطفة المقبلة، أو زوّار فجر يتوقع منذ سنين أن يطرقوا بابه عند الفجر.

لم يدر بخلد حياوي وهو يقرأ رواية رفاعية “رأس بيروت” عن المدينة الجميلة المكتوية بنار الحرب وتفصيلاتها وروائح شرفاتها وقدرة نسائها على ابتكار الجمال وسط هباب تلك الحرب، أن ياسين رفاعية سيتمكن منه الموت فجأة بعد أن ملّ الترقب.
ويؤكد أنه لا يدري أين قرأ عن وصية طبيب نفسي له بضرورة مواصلة الكتابة، كنسغ للحياة، فأنتج العشرات من الروايات والمجاميع القصصية وكتب الأطفال، بينما كان الموت يترصده عن كثب، عله يلقي سلاحه ذات ليلة فيداهمه، لكن ياسين كان قد أدرك اللعبة جيداً، فصار يكتب من دون توقف، تحوّل عنده هاجس الكتابة إلى فعل مرادف للحياة، بالضبط كما كان الأمر مع شهرزاد وهي ترى الموت المترصد بطرف عينها مثل حافز لمواصلة الحكاية. لم يتوقف ياسين عن الكتابة حتّى اللحظة الأخيرة، ليس عملا بنصيحة طبيبه في الواقع، بل لأن فعل الكتابة عنده بات يوازي فعل الحياة نفسها. حتى الموت لا يشعر بنشوة الانتصار في حالته، بعد أن قارعه كل تلك العقود على الرغم من جراحه التي أثخنته.

ويضيف “المدهش في الأمر هو عمق علاقة ياسين رفاعية بالعراق وحبه للعراقيين وحضوره المؤثر في وجدانهم وذاكرتهم، فهو أوّل من وضع سبّابته على جرح العراق عندما أشار إلى أن الحصار الموغل بوحشيته ولا إنسانيته، هو من دمر البنى النفسية والمجتمعية للعراق وليست الحروب، على الرغم من قبحها. وقراءة العارف تلك طالما ألهمتني وجعلتني أعيد تفصيلات هدر الكرامة العراقية والتحول البطيء للناس إلى ما يشبه النمور في اليوم العاشر”.

يقول محمد حياوي “ليس الموت نهاية الأشياء بالنسبة إلى الكاتب على ما أعتقد، بل هو بدء معجزته وخلود رؤاه وأفكاره وتعليق شخصياته وأبطاله على مشاجب الذاكرة إلى الأبد. هكذا أفهم موت الكاتب في الحقيقة، وهكذا أفهم ياسين رفاعية وأنا أقلّب الآن صفحات روايته أسرار النرجس”.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر



 رحيل الكاتب السوري ياسين رفاعية… حكّاء الحزن


جريدة القدس العربي


السنة الثامنة والعشرون العدد 8474 الثلاثاء 24 أيار (مايو) 2016 - 17 شعبان 1437هــ
جريدة القدس العربي
ثقافة
باريس - صهيب أيوب


يسجل غياب الأديب السوري ياسين رفاعية نقطة فارقة في عالم القصة القصيرة، فالأديب الذي رحل أمس في بيروت عن عمر الـ82 عاماً، كان من أبرز الأصوات العربية في كتابة القصة، وخط مع رفيق دربه زكريا تامر، ما يعرف بـ«القصة السورية» الحديثة.

وعلى اختلافهما في الأسلوب والطرح، إلا أنهما كانا يؤسسان لأدب سوري طليعي، يخرج من عباءة التقليد.

ويبدو تقاطع موت رفاعية، في ظروف مأساوية يعيشها بلده الأم، يلزم بشيء من النقد إعادة إنتاج موروثه، الذي لم يخرج عن كلاسيكيته، إلا أنه لم يضمر حجم المهانة والذل والاستبداد للفرد العربي، والسوري على وجه الخصوص. وعلى الرغم من تعايش رفاعية، مع هموم لبنان، بعد انتقاله للسكن في بيروت، إلا أن الهم السوري لم يفارقه لغة وإنتاجاً. وكانت شخوص رواياته وقصصه آتية من هناك. وما آخر أعماله الروائية، «سوريو جسر الكولا»، إلا ترسيخ لهذا البدء. فهو حمل في لغته أيضاً، مشقة الموت. كأنه تماه أصيل لما يحدث اليوم.

ولزوم هذه القراءة لا بد من مرورها على أعماله الصحافية أيضاً. فهو تميزّ بإجراء مقابلات طويلة مع أهم الأدباء والكتاب من مجايليه. وشكل بيته في شارع الحمراء البيروتي، مكان التقاء لأدباء وشعراء سوريين وعرب، ساهمت دور النشر البيروتية وصحافتها في انتشارهم، قبل أفول هذا الدور وتراجعه. ولا تبدو تجربة رفاعية، على توسعها، الا تأكيداً على تفرده. فهو انتقل من حرفة «فران» في أحد أحياء دمشق القديمة، إلى الكتابة، بشكل دراماتيكي. بدءاً من النشر في صحافة سورية ولبنان، ووصولاً إلى نشره مجموعته الأولى «الحزن في كل مكان» (1960)، التي دفعت باسمه دفعاً إلى عالم النشر والصحافة. وكانت هذه المجموعة محاولة سردية، أكثر منها إتقانا لتقنيات القصة، التي عبّر بلغتها عن أحزان جيله وخيبات مجتمعه وأفراده. لكنها كانت تنبوءاً بأحزان الفرد العربي، ومشقاته.

وخاض رفاعية مذاك الوقت، في الحزن وسردياته. لكنه انتصر دوماً للفرح. وعلى الرغم من عذابات طفولته، وعمله المبكر في أشغال قاسية، إلا أن هذه الفجوة الشخصية كانت دافعاً في عوالم كتابته، وأسيرتها. فتعامل مع الذكريات ووظفها في الكتابة، على أنها تجاوز لليأس، وفعل حياة.

وأصدر بعد سنتين عمله الثاني «العالم يغرق»، ثم مجموعة «الرجال الخطرون» (1979)، التي اتخذت لغتها صوتاً يدين الاستبداد السلطوي عبر السرد المباشر. واستخدم فيها رفاعية الحكاية للرفض، إلا أن المرحلة الفاصلة في مسيرة الكاتب، هي مجموعة «العصافير»، التي كرست اسمه في القصة القصيرة، كرائد من روادها. وكتب عنها أبرز النقاد، ومن بينهم الراحل جبرا إبراهيم جبرا، فقال إن «العصافير من أجمل وأبدع ما قرأت منذ زمان. أصيلة. عميقة الإنسانية. فاجعة. مفرحة. تترك أثراً معقداً وطيباً في النفس كأحسن الشعر».

وبعد مجموعته الأولى تحول رفاعية إلى صحافي ومحرر أدبي، وشغل منصب سكرتير تحرير لمجلة «المعرفة»، ومن ثم مديراً لمكتب صحيفة «الرأي العام» الكويتية في بيروت. وأسس مجلة «سامر» للأطفال وترأس تحريرها لسنتين. وتزوج من الشاعرة أمل جراح (1945 ــ 2004) التي ترك رحيلها أثراً بالغاً في نفسه حاول مداواته بغزارة كتابية حتى أيامه الأخيرة.

وعلى الرغم من احتفاظ رفاعية، بكلاسيكية مفرطة في تقنيات السرد، إلا أنه استطاع أن ينتج أعمالاً أقل ما يقال عنها أنها لم تخسر دهشتها. وبالعكس بقي رفاعية، في محاولته الحثيثة في ترسيخ فن القص، يواظب على نقل القارئ إلى عوالم كثيرة وأمكنة وشخوص، بلغة سلسة وبسيطة. وكما في القصة، كذلك في الرواية، تعامل رفاعية مع التقنية بانتقال سارد متين. له مفرداته وغضبه ومشاعره المختلطة. ومن هذه الروايات «أهداب» و«ياسمين» و«حياة من خرم الإبرة» (2016) و«أول قبلة أول حب»، وبعض هذه الأعمال ألهمته بها الحرب اللبنانية.

ولم تنحصر تجربة رفاعية في القص والرواية، بل تعامل مع الشعر بعفوية العاشق. فأصدر عدة مجموعات شعرية، ومنها «جِراح» و«حب شديد اللهجة» و«أحبك وبالعكس أحبك». وكلها كانت أعمال مغمورة، لم تلق رواجاً لوفرة رومانسيتها، وتأثرها بلغة رفاعية الأولى وانتماء خطابها الى جيل الستينيات.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد القدس العربي للمقال بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.



 ياسين رفاعية قاصاً وروائياً في تقاطع الأقدار والأمكنة


جريدة الحياة


الأربعاء، ٢٥ مايو/ أيار ٢٠١٦
جريدة الحياة
نبيل سليمان


في رواية ياسين رفاعية «راس بيروت» (1992) يستذكر الراوي أبو بسام حضوره إلى بيروت ليبيع فيها الكعك، ويتحدث عن بائع الكعك الذي صار كاتباً من غير أن يستهدف ذلك.

ليس أبو بسام الذي يضن في الرواية باسمه، فيكتفي باللقب، إلا ياسين رفاعية نفسه، الذي تحدث في مواقع شتّى خارج الرواية عن عمله صبياً في بيع الكعك في سينما غازي. وعن نشأته، قبل بيع الكعك وبعده، تحدث رفاعية أيضاً عن توقفه عن الدراسة في الرابعة عشرة، ولحاقه بأبيه ليعمل في الفرن، كي يساهم في حمل أعباء الأسرة الفقيرة. وقد عمل رفاعية أيضاً مساعداً لحذّاء (كندرجي). ومن تلك النشأة متح قصصه القصيرة الأولى، والتي جمعتها باكورته «الحزن في كل مكان» (1960). فمن قصة تنبض بحزن الصبي الذي ترك المدرسة اضطراراً، ومضى إلى الفرن بالقبقاب حيث يتشمّم عبق الخبز والكعك، إلى قصة تلو قصة، وقوام كل قصة ما اختزنه صبيّ الفران من حكايات وصور أقرانه في العمل.

تنادي نشأة ياسين رفاعية نشأة زكريا تامر، الذي ترك المدرسة اضطراراً أيضاً عام 1944، وهو في الثالثة عشرة، ليعمل في الحدادة. وقبل رفاعية وتامر كان حنا مينه قد عمل حلاقاً في اللاذقية، قبل أن يمضي إلى الصحافة في دمشق. أما ما يجمع رفاعية وتامر فهو ظهور المجموعة القصصية الأولى لكل منهما عام 1960: للأول «الحزن في كل مكان» وللثاني «صهيل الجواد الأبيض». ولعل من المفيد هنا أن نذكر أيضاً من أعلام الرعيل الذي ظهر فيه رفاعية: وليد إخلاصي، وقد صدرت مجموعته الأولى «قصص» عام 1963، ومن قبل: كوليت خوري وسعيد حورانية وعادل أبو شنب وصدقي إسماعيل وحسيب كيالي... ما يؤشر إلى ما كانت عليه القصة القصيرة آنئذٍ، وهي الفن الذي سيخلص له ياسين رفاعية ويتألق فيه، كما في مجموعة «العالم يغرق» (1963) و»العصافير» (1973) و»الرجال الخطرون» (1979) قبل أن تميل به عنها الصحافة والرواية، وكذلك الشعر وقصص الأطفال.

على رغم أن لبنان صار وطن ياسين رفاعية الثاني أو الأول، فقد ظل مسكوناً بدمشق بخاصة، وظل حيّ العقيبة، حيث نشأ، يسري في نسغه. وقد جبل من زمنه الدمشقي رواية «مصرع الماس» (1981)، فأبدع في صياغة الشخصية الروائية الشعبية «الماس» الذي تصدى للاستعمار الفرنسي في الحارة الدمشقية. وأبدع رفاعية في صياغة الشخصيات النسائية في هذه الرواية التي شكت من أنها بنيت كروايتين. وقد ذهب رفاعية أبعد في رواية «أسرار النرجس» (1998) في هتك العتمات التي يحفل بها المجتمع. ومنذ ثلاث سنوات خصّ الكاتب العمال السوريين المياومين في لبنان بروايته «سوريّو جسر الكولا»، والتي ضفرت لكل من شخصياتها حكايته اللبنانية إلى حكايته السورية.

تتركز الأهمية الروائية لياسين رفاعية في رواياته السيرية، والتي هي في غالبيتها من المدونة الروائية للحرب اللبنانية. ففي آخر رواياته «ياسمين» سرد قصة حب ابنته لينا مع الإنكليزي جون، والصراع بين قيم الأب الشرقي وقيم جون الذي تزوج لينا. وعلى رغم بعض الانحرافات الطفيفة والساذجة عن السيرية في هذه الرواية، وفي سائر روايات رفاعية السيرية، فالمثل يصح هنا: «يكاد المريب أن يقول خذوني»، حتى في رواية «أهداب» (2008) التي تنادي لوليتا فيما ترسم من العلاقة المشتبهة بالسفِاح بين السبعينيّ وابنة الثامنة عشرة. وقد رصدت رواية «وميض البرق» (2002) الوحدة الموحشة لعجوز أرمل، بعدما غادره ابنه وابنته، وتركاه يجترّ صور حياته الزوجية. أما رواية «الحياة عندما تصبح وهماً» (2006) فتستعيد حياة الكاتب مع زوجته الشاعرة والروائية أمل الجراح (1945-2004). ولعل هذه الرواية كسابقتها أن تتعلقا بشيخوخة الكاتب الذي أقام في حي راس بيروت، وباسم الحي عنون روايته التي تنادي روايات الحارة، بل والعمارة، لأن رواية رفاعية تتركز في العمارة التي أقام فيها هو أو راوي الرواية وبطلها أبو بسام. وتحفل الرواية بالحنين إلى بيروت عندما اختارها الراوي وطناً بعد سوريا، وكانت جوهرة وواحة ديموقراطية حقيقية في تلك الصحراء الشاسعة. ومن زمن الحرب يتميز تصوير الرواية للقمامة، مما توقد أضعافاً في رواية السوري مروان طه مدور «جنون البقر»، لكأن الروايتين تخاطبان منذ ربع قرن بلوى القمامة اليوم.

من سمات السيرية في القسم الثاني من رواية «راس بيروت» سفر زوجة الراوي الشاعرة إلى لندن، وعمل الراوي في الصحافة الثقافية، وذكرياته عن صديق الطفولة محي الدين الذي ربما كان الناقد الراحل محي الدين صبحي... وقبل ذلك سرد أبو بسام قصة خطف الفلسطيني أبو الجماجم له، وعلى نحو يتطابق مع اختطاف ياسين رفاعية الذي ختم كل ذلك بقوله في بيروت: «هذه مدينة ستغرق بدماء أبنائها... فكن شاهد هذا العصر أيها الشهيد».

ومن اللافت ان رواية رفاعية «الممر» التي تتعلق بالحرب اللبنانية أيضاً، خلت من السيرية. وإذا كانت سلطة السارد قد آذت في غير موضع رواية (راس بيروت) فقد بدت رواية «الممر» ساذجة في محاولتها الحداثية، ابتداءً من لعبة الأقواس والبنط الغامق في الطباعة لتمييز التداعيات، إلى لعبة التناص مع رواية باربوس «الجحيم»، بما ينوف على عشر الرواية. وفي سائر روايات رفاعية عن الحرب اللبنانية، إلحاح على تعرية الطائفية. ولذلك يبني دائماً العلاقة بين رجل مسلم وامرأة مسيحية أو العكس.

في ميعة الصبا كان ياسين رفاعية وزكريا تامر والروائي الفلسطيني المنسي يوسف شرورو، يلتقون في المقبرة، يتسامرون في الأدب، ويقرأ أحدهم قصة مما كتب، للآخرين. وقد حصلت قصة رفاعية «ماسح الأحذية» على الجائزة الأولى في مسابقة «مجلة النفط» التي كان يديرها جبرا إبراهيم جبرا. وتابع رفاعية نشر قصصه - مجاناً بالطبع - في الصحف الدمشقية إلى أن كوفئ على مقالة تبتهج بالوحدة السورية المصرية (1958-1961) بالعمل في المكتب الإعلامي في القصر الرئاسي. وقد أخذته الصحافة إليها من بعد، فعمل مع فؤاد الشايب في مجلة «المعرفة»، وفي جريدة «الثورة»، ثم في الصحافة اللبنانية وفي صحافة الطفل. وعبر ذلك تنقل رفاعية بين دمشق وبيروت ولندن، لكن بيروت ظلت ملاذه الأثير، فآثرها برواياته: الممر، راس بيروت، وميض البرق، دماء بالألوان، من يتذكر تاي، امرأة غامضة. وفي هذه الروايات، كما في أغلب رواياته، تسيّدت السيرية. ومما يؤخذ على ياسين رفاعية في الصحافة والسياسة، مديحه معمر القذافي كما فعل علي عقلة عرسان وعبدالله أبو هيف وكوليت خوري وسواهم من السوريين ومن غير السوريين. أما رفاعية فقد خلّف كتابه «معمر القذافي وقدر الوحدة العربية» (1974). بينما كان البعث الحاكم في سورية قد آذاه مرتين في ستينات القرن الماضي، الأولى عندما طرده وزير التربية سليمان الخش من مجلة «المعرفة» لأنه رفض نشر مقالة للوزير في المجلة، والثانية عندما طرده نصر الشمالي رئيس تحرير جريدة «الثورة» من الجريدة، لجريرة مماثلة، فيمّم شطر لبنان.

ترك رفاعية للأطفال مجموعات عدة (العصافير تبحث عن وطن - 1979، الورود الصغيرة - 1980...) وترك عدداً من المجموعات الشعرية (جراح 1961- لغة الحب 1983 - حب شديد اللهجة 1994 - أنت الحبيبة وأنا العاشق 1996...). لكن رهان الكاتب الأكبر ظل في الرواية، بعدما برح القصة القصيرة إلى الصحافة فالرواية. وهنا ينبثق السؤال عن أي روايات ياسين رفاعية الثلاث عشرة لم تثر من اهتمام النقد إلا قليلاً، فهل يحضّ الموتُ النقدَ على أن يعوّض ما فات؟

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)