Prisonnière du Levant de Darina Al Joundi Editions Grasset - Mai 2017

, par Mohammad Bakri


Editeur


Auteur(s) : Darina Al Joundi
Titre : Prisonnière du Levant
Éditeur : Éditions Grasset
Collection : Nos héroïnes
Parution : 31/05/2017
EAN : 9782246784944


Editions Drasset


« Il fait nuit. Seule dans sa chambre, Marie recherche la signification de ce nom : May… ainsi se nomment les fées de la poésie arabe. Il vient de Perse et signifie le vin. Marie est folle de joie. Elle a enfin trouvé un patronyme qui lui ressemble. May Ziadé vient de naître. »

1920 au Caire. Dans les cafés et les salons, les grands esprits du temps se rencontrent et parlent librement. Parmi eux : May Ziadé. Poétesse, féministe engagée et muse de Khalil Gilbran, l’auteur du Prophète. Une femme intense qui fascine autant qu’elle inquiète. Sans doute trop pour ses amis et ses proches, qui la feront interner dans un asile psychiatrique…

Prisonnière du Levant est son histoire, racontée par Darina al Joundi, comédienne et scénariste. Elle-même féministe, Darina a voulu accomplir son destin de femme et, comme son héroïne May, elle a vécu l’enfermement avant de se libérer.

Darina Al Joundi
Né au Liban, Darina Al Joundi est comédienne et auteur. On lui doit notamment Le Jour où Nina Simone a cessé de chanter (Acte Sud, 2008), tiré de la pièce de théâtre éponyme.

Editions Grasset




جريدة الحياة


الأربعاء، ٢٩ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٧
جريدة الحياة
مايا الحاج


دارينا الجندي تتماهى مع مي زيادة


ليس عبثاً أن تختار دارينا الجندي في مقدمة روايتها « سجينة المشرق » (دار غراسيه) اقتباساً من قصيدة « حديقة المرايا » للشاعر الإيراني المعروف أحمد شاملو : « أضعُ مرآةً أمام مرآتك/ لكي أجعل منك أبديّة ». كأنّ الكاتبة تومئ إلى قارئها منذ البداية بأنّ روايتها تقوم أساساً على لعبة المرايا بين « أنا » الروائية (دارينا الجندي) و « أنا » بطلتها (مي زيادة).

في الصفحة الأولى، نلتقط الخيط الذي يقودنا بسلاسة نحو سيرتين متباعدتين/ متقابلتين، تتداخلان في رواية واحدة بطلتها مي. ثلاث مفارقات تبدو لافتة في مستهلّ الرواية، لتكشف عن تماهٍ صريح بين الشخصيتين. المفارقة الأولى زمنية : « مي ولدت في شباط (فبراير) 1886 وأنا ولدت في شباط 1968 »، والمفارقة الثانية مكانية : « العصفورية » أو مستشفى المجانين التي أودعت فيها مي ومن ثمّ دارينا. أما المفارقة الثالثة فتكمن في « التخلّي »، وهي المرارة التي ذاقتها دارينا ومي، بعدما حجر عليهما الأقرباء وتخلّى عنهما الاصدقاء لتبقيا، كلٌّ في عصرها، حبيسة وحدتها وألمها. تقول دارينا عن قرينتها : « كلّ شيء كان يدفعني نحوها » (ص10).

هكذا قررت أن تكتب حكاية مي لتتقبّل حكايتها، « نوعُ من العلاج... كنت أحتاج إلى معرفة أنّ ثمة شخصاً آخر مرّ بما عشته. قرن يفصل بين حادثتي الحجر علينا، ولكن كلّما غصتُ في ماضي مي، أشعر بأنني أعود الى الحياة » (ص11).

بعد هذه البداية الكاشفة، تختفي دارينا الراوية لتحلّ مكانها مي، وتستبدل صيغة المتكلّم بالغائب، فتغدو الـ « هي » كنايةً عن « الأنا ». تنطلق الأحداث بوثبة زمنية تتجاوز مرحلة الطفولة في حياة مي زيادة لتبدأ من لحظة فسخ خطوبتها من ابن عمها نعّوم. وإذا قرأنا دلالات هذه الحادثة لوجدنا أنّها الإشارة الأولى لولادة مي، المرأة الثائرة، الواثقة، الطموح. والأهمّ أنّ قرار الانفصال عن خطيب ارتبطت به إرضاءً لرغبة العائلة يتزامن مع قرار الوالد بالانتقال إلى مصر، بوابة المشرق العربي وملتقى كتّابه ومثقفيه. ولعلّ اختيار كلمة « المشرق » في عنوان الرواية بدلاً من الشرق جاء مقصوداً للتعبير عن زمنٍ كان يُشكّل فيه المشرق العربي عالماً نهضوياً فاعلاً غنياً بنخبه الثقافية والفنية والفكرية، على خلاف واقع شرقنا اليوم بدوله العربية الغارقة في أحزانها ومآسيها. ولا تقتصر صفة « السجينة » في عنوان دارينا على معانٍ سلبية لأنّها، هي التي اقتيدت إلى مصحة نفسية أشبه بحبس، تدرك أنّ السجين يغدو أكثر امتلاءً بالأمل والحلم من غيره.

يبدو وصول عائلة زيادة الى مصر مفروشا بالورود، بحيث يجد الوالد عملا مرموقا في احدى اهم الصحف القاهرية، وكذلك ابنته الموهوبة ماري، التي تبدأ مسيرتها باسم مستعار « ايزيس كوبيا » قبل ان تستقرّ على اسم « مي »، الشاعرة الجميلة والكاتبة المتمردة وصاحبة صالون الثلاثاء الذي يجتمع فيه رجالات ذاك الزمن كالعقّاد وطه حسين وغيرهما. ثمّ تفرد دارينا صفحات لقصة غرامها الطوباوي مع جبران خليل جبران، الذي غدا جزءاً من حياتها وأنفاسها وكلماتها، من دون أن تلتقي به، ولو لمرّة واحدة.

لا تعتمد الكاتبة في روايتها تقنيات أدبية معقدة أو مستويات لغوية متعددة، إنما تعتمد المباشرة أسلوباً في كتابتها. تتبع كرونولوجية الزمن الروائي وتنتقل ببساطة الحديث الشفهي من حادثة إلى أخرى، ما يدلّ على هيمنة شخصية دارينا الجندي الممثلة المسرحية على شخصيتها ككاتبة. ولا شكّ أنّ فكرة المرآة، وهي عصب الرواية تقنياً، مستوحاة أولا من العمل المسرحي الذي يكترث أكثر من غيره بأغراض المرآة المختلفة، إذ يقوم على أساس « غرفة المرايا » التي تتيح للممثل أن يشاهد نفسه في عيون الآخرين (الجمهور)، فكأنه يرى الى نفسه من مسافة معينة، ومن كل الزوايا. وعن هذه التقنية تقول دارينا إنّها تكتب فعلا بذهنية المخرجة والممثلة المسرحية التي لا تنفصل عنها بتاتاً. لذا فإنها تؤثر المباشرة على الفذلكة والمواجهة على التواري والكشف على الغموض ».

بعد حياة صاخبة وواعدة، تلقت مي في فترة زمنية واحدة ثلاث ضربات موجعة : وفاة والدها ووالدتها وجبران. وأحدثت هذه الخسارات المتلاحقة انعطافاً في حياتها الشخصية والمهنية. وبعدما كانت مُحاطة بالأصدقاء والأحباب، غدت وحيدة وتعرضت لظلم الأقارب الطامعين بإرثها واقتيدت عنوةً إلى مصحة نفسية بتهمة الجنون، من دون أن يُحرّك أي أحد من أصدقائها النافذين ساكناً. هكذا، تصوّر دارينا الجندي صمت العقاد كأنه غدر وسلبية طه حسين بأنّها خيانة. تظلّ مي وحيدة في سجنها من دون أن تخسر صلابتها ومخيلتها. وعن مفهوم الوحدة التي اختبرتها تقول دارينا : « دهشت فعلاً حينما قرأت ما كتبته مي زيادة عن تجربتها في المصحة. والعجيب أنني كتبت مشاعري في طريقي الى المصحة في نصّ اسميته « موكب الخجل » وصفت فيه أحاسيس اختلجتني وقتها فقلت بما معناه لأكتشف بعد خروجي من المصحة وبداية بحثي عن مي زيادة، اننا وضعنا الكلمات نفسها على الأحاسيس ذاتها. لم أجد أجمل وأصدق وأغرب من شعور الإنسان عند اكتشافه انّ ثمة شخصية أخرى من زمن آخر سبق أن اختبرت ما اختبره وعاش الوجع الذي عاشه هو. مي زيادة انتشلتني من وحدتي ومن غربتي وغدوت أنا هي وهي أنا ».

من يقرأ الرواية ينتبه الى أن مي زيادة هي الصورة المرآوية لدارينا نفسها، وهذا هدف العمل أصلاً. ولكن، ماذا عن بداية التأمل الانعاكسي بين سيرتي مي زيادة ودارينا الجندي؟ عن هذا السؤال تجيب دارينا الجندي قائلة : « عام 2001، بعد وفاة والدي بفترة قصيرة، تمّ اقتيادي بطريقة وحشية إلى مستشفى المجانين. هناك تذكرتُ مي التي نعلم جميعاً أنها اقتيدت بعد وفاة والدها أيضاً إلى المصحة كي يبقى إرث عائلتها بين أيدي أقاربها. تذكرت كيف ضُربت وسُجنت أمام مرأى الأصدقاء، تماماً كما حصل مع مي التي ظلمت أمام أعين أصدقائها من دون أن يُحرّك أحدهم ساكناً. وبعد خروجي من المصحة بدأت رحلة البحث عن مي. قرأت أدبها، مقالاتها، زرت الأماكن التي زارتها، سافرت الى مصر، قصدت الأحياء التي سكنتها. غصتُ في عالمها الى حدّ التماهي. وجدتُ فجأة أنّ سيرة مي زيادة لم تُكتب روائياً. هكذا انطلقت في الكتابة عنها. وحين جاء عرض دار « غراسيه » لأكتب عن شخصية نسائية ضمن سلسلة « بطلاتنا »، وهدفها أن تقوم امرأة بالكتابة عن امرأة أخرى، أخبرتهم أنّ المشروع جاهز بين يدي. أعدت كتابة الرواية بما يليق مع شروط السلسلة التي تتوجه اصلا الى الشباب وحذفت أكثر من 300 صفحة حتى لا تبدو رواية ضخمة ».

يتوقف الكتاب عند بعض التفاصيل الجميلة في حياة مي مثل أغنياتها المفضلة، لنكتشف أنها كانت تردد دائماً أغنية « يا حنيّنة » بينما صارت تغني « يا ظلام السجن » بعد خروجها من سجنها القسري. وكذلك علاقتها بالبيانو والعود، إذ اعتادت أن تختم لقاء الثلثاء بأغنية أو معزوفة تؤديها في حضور ضيوفها الدائمين. والأهمّ أنّ سيرة مي تعكس سيرة عصر ذهبي عاشته بصحبة الريحاني وجبران وطه حسين الذي بدت علاقتها فيه ملتبسة، إذ إنّ زوجته سوزان التي كانت تملأ حياته لم تستطع أن تغطّي حاجته إلى قراءة الأدب العربي فظلّت مي زيادة هي من يقرأ له بلغته الأم.

« سجينة المشرق » رواية سير ذاتية بطلتها امرأتان عاشتا الحياة نفسها في زمنين مختلفين، كتبتها دارينا الجندي باللغة الفرنسية، لأنها تقتنع بوجوب الكتابة بلغة البلد الذي تعيش فيه، وإن كانت العربية هي لغتها المفضلة. رواية تحمل صورة مرآوية مزدوجة تكشف عن تشابه واضح في الخطوط العريضة للسيرتين، مهما بدت التفاصيل متباعدة.

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

"الحياة" صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت "الحياة" سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت "الحياة" لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت "الحياة" منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت "الحياة" وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل "الحياة" رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم "الحياة" نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة التاسعة والعشرون العدد 8970 الإثنين 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2017 - 19 محرم 1439 هـ
رشا الأمير


مي زيادة برواية دارينا الجندي : « العصفورية » : بيْت الطاعة عندما تضيق البيوت !


بلا تردد، ولا لف ولا دوران، ومن الجملة الأولى، من الفقرة الأولى، من الصفحة الأولى، تصدع دارينا الجندي في « سجينة الشرق »(٭) بما يحدو بها أن تنكب على وضع سيرة، أو ما يشبه السيرة، باللغة الفرنسية، وهي اللغة التي تكتب بها الجندي وتنشر منذ سنوات، لمي زيادة : « كانت ولادة مي زيادة في 11 شباط/فبراير 1886 وكانت ولادتي في 25 فبراير 1968. من ثم، وباعتبار هذا البون الزمني الشاسع ما كان لنا أن نلتقي. على أنه فإن ما عبرتْ به كل واحدة منا لم يكف عن مخاطبة ما عبرتْ به الأخرى ». وبلا مزيد انتظار وبلا تردد أيضًا تسارع الجندي إلى مكاشفة قرائها بما تعنيه : « طفلة، كنت أؤثر العزلة… وعندما كنت أجدني في ضيافة خالتي التي تسكن منزلًا منيفًا في الحازمية من ضواحي بيروت، كثيرًا ما حلا لي أن أعدو سور حديقتها إلى الحديقة المجاورة وهناك كنت أرى نساء متأزرات بالأبيض يساعدن أشخاصًا تبدو عليهن مظاهر التعب على السير والتمشي. هنا، في هذا المكان، احتجزت مي، وبعد عشرات السنوات، في مكان مشابه لهذا المكان، ارتضت عائلتي أن أحتجز وأن يطبق علي… ».

أما المكان الذي تشير إليه الجندي فهو « العصفورية »، مصحة الأمراض العقلية والعصبية الأشهر في تاريخ لبنان. و« العصفورية »، بالمناسبة، اسم، في الأصل، لسفح من سفوح جبل لبنان الجنوبي، كانت تكثر فيه العصافير، حوله الاستعمال إلى كنية لتلك المصحة التي يعود الفضل في الشروع في تأسيسها إلى نهايات القرن التاسع عشر (1898) إلى مرسل بروتستنتي سويسري يدعى تيوفيلوس فالدماير كانت له أدوار كثيرة في تاريخ لبنان (علْمًا أن القرار بتأسيسها يعود إلى 1896). وبما أن الشيء بالشيء يذكر فمما يستحق الإشارة إليه هو أن « العصفورية »، المصحة، أقامت على ذلك السفح الذي أنشئت عليه حتى مطالع السبعينيات، حيث حلا العقار الوسيع ذو المائة وثلاثين ألف متر مربع، والذي كان قد تأثث في ما بين الشروع في إنشاء المصحة ويومذاك بستة وأربعين مبنى ذات طراز معماري يجمع بين التراث المحلي والحداثة الكولونيالية ــ نقول : أقامت المصحة، (التي استعار غازي القصيبي اسمها لإحدى أشهر رواياته)، على ذلك السفح حتى مطالع السبعينيات حيث حلا العقار في عين إحدى الشركات فاشترته بغية « تطْويره »، وهاجرت المصحة وناسها وذكرياتها إلى أمكنة أخرى…

إلى حديقة هذا المكان الذي لا يمكنها أن تعود إليه لسبب بسيط هو أنه لم يعد موجودًا، تعود دارينا الجندي، على مشارف الخمسين من عمرها هي، لتروي لنا فصولًا من سيرة ماري زيادة الناصرية (فلسطين) مولدًا، اللبنانية (الكسروانية المارونية) محْتدًا ومحنة، القاهرية هوى ومماتًا. ولأن الجندي لا تكتب سيرة ماري/مي فقط، بل تكتب سيرتها أيضًا، ولربما أولا، فهي لا تأبه بما قد يعز على مؤرخ محقق مدقق من تفاصيل ألا تفوته، فتراها، من ثم، لا تبالي بأن تروي لنا شيئًا من طفولة ماري/مي في مدرسة الراهبات اليوسفيات في الناصرة، حيث خربشت أولى خواطرها، وحيث تعرفت إلى الموسيقى متعلمة العزف على البيانو، ولا تبالي بأن تروي لنا شيئًا عن هجرتها الأولى، عام 1899، السنة التالية على المباشرة في إنشاء « العصفورية »، من مسقط رأسها إلى وطنها الافتراضي لبنان والتحاقها بالقسم الداخلي من مدرسة عينطورة وما أورثه ذلك على المراهقة ماري/مي من كآبات ولا غير ذلك من محطات ومواقف بل تختار لميها أن تبدأ قصتها منْ قطيعتين اثنتين : فسخ خطوبتها بقريبها نعوم، (وهي خطوبة كانت اليد العليا فيها، على ما يبدو، للعائلة التي ارتأت أن تزوج ماري/ميا بنعوم فلا تتشتت أملاكها)، وقرار الياس زيادة، والد مي، العامل في مجال التعليم وذي الطموحات الكتابية، والذي ضاقت به، على ما يبدو أيضًا، الناصرة، أن يهاجر مع عائلته إلى القاهرة التي كانت، أيامذاك، منارة الشرق ومختبر حركته الثقافية.

للوهلة الأولى، لا وجْه شبهٍ ولا وجه قياسٍ بين فسخ خطوبة شابين وقرار عائلة بالهجرة من بلد إلى آخر، ولكن الأمر، في حالة آل زيادة، لم يكن كذلك تمامًا. فعلى قرب المسافة بين الناصرة والقاهرة لم تكن هجرة آل زيادة من بلد إلى آخر، بل من عالم إلى آخر، بل قل من ضاحية من ضواحي الشرق إلى حاضرته بامتياز؛ وعلى مجهرية الواقعة المتمثلة بأن يفسخ شاب وصبية خطوبتهما، بل على وضاعة هذه الواقعة، فنزول عائلة مي عند رغبتها بوضع حد لخطوبتها من قريبها نعوم، (« الصالح الخامل » على ما وصفته ذات يوم)، وارتضاؤها بقرار ماري/مي أن تقطع الطريق، منْ أولها، على الاستسلام لحياة زوجية أسرية كان من الصعب التفلت منها فيما لو سارت في مناكبها، أطلق يدها، يد ماري/مي، في إدارة حياتها وفي التصرف بها. في القاهرة التي وصلها آل زيادة عام 1907، تبدو حياة ماري/مي، وأسرتها، برواية دارينا الجندي، أشبه بإقامة مخملية في قصر مسحور بكل ما للكلمة من معنى. فبلا كبير جهد تفتح أبواب العمل الصحافي أمام الوالد الياس، واستطرادًا أمام الابنة، ومع انفتاح هذه الأبواب تنفتح بدورها أبواب الاندماج الاجتماعي. في 1911، السنة الرابعة من الهجرة ــ هجرة آل زيادة إلى القاهرة ــ تقدم الشابة المجدة في تحصيل اللغات أولى أوراق اعتمادها في عالم الأدب على هيئة مجموعة من الخواطر الشعرية، باللغة الفرنسية، تحت عنوان « أزاهير حلم ». وفي سعي منها إلى اجتراح هوية جديدة تختار ماري أن توقع هذه المجموعة باسم مستعار هو « إيزيس كوبيا ». وإذ لا تخْطئ العين الإحالة الفرعونية في القسم الأول من الاسم، (إيزيس في الأسطورة الفرعونية شقيقة الإله أوزيريس وزوجته)، فالقسم الثاني منه أدعى إلى التأمل : فمن معاني كوبيا، باللاتينية، الوفرة والغزارة والكثرة، ولعل في هذا الاختيار المبكر للإبقاء، ولو تحت طي الترجمة من العربية إلى اللاتينية، على وشيجة معنوية خفية باسم عائلتها (زيادة)، ومن خلالها بعائلتها نفسها، وفي هذا التفصيل، لربما، ما يفسر بعضًا من التردد الذي رافقها طيلة حياتها والذي كان من أسباب محنتها.

على متن هذه الأزاهير تابعت الكاتبة الشابة المتحمسة لقضية « تحرير المرأة »، الرافلة في رغد من العيش، والمتمتعة بهامش من الحرية يحميه انفتاح والدها من محاولات والدتها تضييقه، ــ تابعت تأسيس وجاهتها القاهرية وما يمكن تسميته حملة علاقاتها العامة. وإذ بدا لها أن « إيزيس كوبيا » ليس الاسم المستعار الذي يخدم هذا الغرض عدلت عنه إلى اسمٍ أقل تورية فاقتطفت من ماري الحرفين الأولين وردت كوبيا إلى أصله وهكذا، على قرابة الخامسة والعشرين من عمرها الطبيعي ولدت « مي زيادة ».

لعلنا نظلم مي زيادة ــ نظلمها بعض الشيء ــ إذ نذهب إلى إن هاجس الوجاهة الأدبية الاجتماعية كان أغلب عندها، وعليها، من هاجس الكتابة، غير أن شيئًا من هذا القبيل من الظلم ضروري لفصل القمح من الزؤان في بيدر هذه الشخصية، التي لا يقلل من فذاذتها أن حياتها التي امتزج فيها الشخصي بالعام، وامتزجت فيها « ثقافة العفة » بـ« ثقافة التحرر » كانت، وتبقى، أبهر بكثير من كتاباتها التي قلما تعبر عن هذا الجدل، بل نقول، ولو بدا في ذلك بعض المبالغة، إن الظلم في هذا المقام أداة من أدوات النقد الأدبي، وعمدتنا في ما نقول سيرة مي برواية دارينا الجندي. فحيث لم يخل أحد من الذين كتبوا في سيرة مي من استجرار الاستشهادات من كتابات مي غصبًا عنها للتمثيل على هذا المشهد أو ذاك من مشاهد حياتها، تنجح الجندي في أن تقترح سيرة لمي يحل فيها الوصف الروائي الذي لا يعرف القارئ، تمام المعرفة، هل أن مأتاه الحقيقي تجربة مي في « العصفورية » أم تجربة الجندي في المكان الشقيق من « العصفورية » محل الاستشهادات.

عرفت مي جمهرة من كبار عصرها فراسلت جبران، وتنزهت صحبة الريحاني، وعزفت لطه حسين، وأغرمت وأغرم بها، ثم دقت الساعة التي لم يملك أحد ممن تعاقبوا على سرد سيرة مي في تفسيرها تفسيرًا مانعًا. أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي، على مشارف الخمسين من العمر، بدا وكأن مي اكتفت بكل ما عاشته، وهنا يبدأ الفصل الثاني من سيرتها الذي اقتيدت فيه، من خلال دسيسة عائلية تحركها أطماع بعض أقربائها إلى الاستئثار بالإرث الذي آل إليها بعد وفاة والديها، إلى « العصفورية » حيث حجر عليها قرابة أربع سنوات قبل أن تفلح مساعي البعض، وفي الطليعة منهم أمين الريحاني والشيخ فؤاد حبيش، في الفك عنها، وفي إعادة الاعتبار لها. يصف جميل جبر، وهو ممن كتبوا في مي، هذه المرحلة من حياتها فيقول : « في هذا الطور من حياتها أعادت مي إلى أكثر مراسليها الرسائل التي وردتها منهم، وانكمشت على نفسها وتشرنقت ». وإن يغامر الواحد في تأويل هذا الوصف الخفر لما أصاب مي، فله أن يفترض، أن محنة مي الكبرى ليست في الدسيسة التي دسها عليها أقرباؤها، والتي انتهت بها إلى « العصفورية »، وإنما في أنها، وسط عزلتها تلك، لم تجد السبيل إلى حياة أخرى، وإلى استئناف مسيرتها خارج القصر المسحور وحاشية الجن والجنيات التي كانت تحملها على الراحات.

هل نقول : لحسن الحظ إن مي أخفقت في تجاوز ما يسميه النفسانيون « أزمة منتصف العمر » فكتبتْ نفْسها، من جشع عائلتها التي لم تشأ يومًا أن تتخلى عنها، وعلى غفلة منها، وعلى غير إرادة على الأرجح، أيقونة من أيقونات الحركة النسائية العربية؟ حق، لربما، لمحنة مي زيادة أن تحمل على محمل الضارة النافعة لو أن ماري/مي كانت الأخيرة من بني جنسها التي تضيق بها البيوت ويضيق بها المجتمع فيحجر عليها في بيت طاعة هو الاضطراب العصبي، أما وأنها لم تكن الأخيرة، بشهادة دارينا الجندي، فبالطبع لا ــ أقله حتى إشعار آخر. شكرًا دارينا الجندي.

٭ روائية من لبنان

(٭) صدر الكتاب، لأشهر خلت، ضمن سلسة « بطلاتنا » عن دار غراسيه الفرنسية.
(٭٭) عدد كبير من محفوظات « العصفورية » متوفر للمطالعة على موقع مكتبة الجامعة الأمريكية

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي

عن جريدة الشرق الأوسط

جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.
لقراءة المزيد

Partager

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)