Manifeste pour un Islam des lumières Malek Chebel - Fayard, décembre 2012

, par Mohammad Bakri


Editeur


Auteur(s) : Malek Chebel
Titre : Manifeste pour un Islam des lumières
Editeur : Fayard
Parution : 18/12/2012 - 224 pages
EAN : 9782213676999

Présentation

Associer l’islam aux Lumières peut paraître ambitieux et téméraire. Il n’en est rien. Cette relation est inscrite dans la dynamique amorcée au XIXe siècle et poursuivie par les nombreux réformistes qui ont voulu changer le visage de cette religion en s’appuyant sur le travail de la raison. Ces penseurs ont été taxés d’hérésie.

Aujourd’hui, le débat est plus que jamais d’actualité : l’islam est-il compatible avec la République ? Quelle est la place et le statut de la parole libre, de la laïcité, de l’égalité des sexes, de la tolérance ou de la démocratie ? Faut-il adapter l’islam à la modernité ou au contraire adapter la modernité à l’islam, ainsi que le prétendent les fondamentalistes ?

En vingt-sept propositions, Malek Chebel répond à ces interrogations sans masquer les contradictions de l’islam ni éluder les questions difficiles. Interprétation des textes, guerre sainte et fetwa, statut de la femme, corruption, châtiments corporels, crime d’honneur et assassinat politique, démocratie, liberté d’expression et de conscience... tels sont quelques-uns des thèmes qu’aborde l’auteur de ce manifeste appelé à devenir la charte d’un islam nouveau.

Malek Chebel se fait ici le théoricien de l’« autre islam », un islam fondé sur le réel, dynamique et moderne, tolérant et positif, mais surtout capable de s’insérer dans le monde d’aujourd’hui et de demain.

Sur le site de l’éditeur




جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الثلاثاء - 27 شهر رمضان 1439 هـ - 12 يونيو 2018 مـ رقم العدد [ 14441]
الملاحق / ثقافة
هاشم صالح


شبل... بيان مبكّر من أجل إسلام تنويري

الباحث الجزائري يقدم سبعة وعشرين مقترحاً لإصلاح الأوضاع


بداية سوف أطرح هذا السؤال : ماذا سيبقى من مالك شبل الذي رحل مبكراً قبل الأوان (63 سنة فقط)؟ والجواب : تبقى مؤلفاته، وهي عديدة وغنية. ثم يبقى بالأخص هذا المصطلح الذي شهره أو اشتهر به : إسلام الأنوار أو إسلام التنوير. وقد كرس له كتاباً كاملاً هو : « بيان من أجل إسلام الأنوار ».

وللقيام بذلك ينخرط مالك شبل في دراسة طويلة عريضة عن الموضوع تتجاوز المائتي صفحة. وهو يبتدئ كتابه بمقدمة عامة تحمل العنوان التالي : هل إسلام التنوير شيءٌ ممكنٌ يا تُرى؟ بمعنى آخر إذا كنا قد فهمناه جيداً : هل يمكن أن ينتصر الفهم التنويري للإسلام على الفهم الإخوانجي الداعشي الظلامي السائد حالياً؟ والجواب هو بالطبع بالإيجاب. فمن دون انتصار إسلام الأنوار على إسلام الإخوان لن تقوم للعرب قائمة ولن يحظوا بأي احترام على مسرح التاريخ بين الأمم.

ثم يقدم الباحث الجزائري بعدئذ سبعة وعشرين مقترحاً لإصلاح الأوضاع داخل العالم الإسلامي. وأول مقترح يقدمه هو ضرورة بلورة تفسير جديد للنصوص الإسلامية المقدسة من قرآن كريم وحديث نبوي شريف وكذلك كتب الفقه والتشريع والعقائد. ففي رأيه أن التفسير السائد حالياً حرفي جداً وسطحي وخاطئ في معظم الأحيان لأنه لا يهتم إلا بالقشور ولا يفهم جوهر الرسالة القرآنية أو الإسلامية. كما أنه أصبح قديماً بالياً لم يعد يقنع أحداً ولم يعد يخاطب العصر. ولذلك وجب على المثقفين وعلماء الأمة أن يقدموا تفسيراً علمياً جديداً يليق بالحداثة والعصر والقرن الحادي والعشرين. فنحن لا نستطيع أن نعيش إلى الأبد على تفسيرات قديمة، متحنطة، متكلسة، متحجرة، عفا عليها الزمن... نحن لا نستطيع أن نعيش إلى الأبد على فتاوى القتل والذبح والتكفير التي روّعت العالم.

أما المقترح الثاني الذي يقدمه شبل فيتلخص في العبارة التالية : تأكيد تفوق العقل على كل أشكال التصورات والاعتقادات الأخرى. فالعقل هو القاسم المشترك الأعظم بين البشر. أما المذاهب والعقائد فتبقى خصوصية ومحصورة في أتباعها فقط مهما اتسع نطاقها. أما على أرضية العقل فيلتقي الإنسان الإنجليزي والعربي والصيني والروسي، إلخ... وهذا ما اكتشفه أبو العلاء المعري قبل مالك شبل وكل فلاسفة الأنوار المعاصرين :

كذب الظن لا إمام سوى العقل

مشيراً في صبحه والمساء

والمقترح الثالث يقول بأن مفهوم الجهاد كما ينادي به المتطرفون الحاليون خاطئ تماماً وخارج على الفهم الصحيح للشرع الإسلامي. فالإسلام لم يقل في أي يوم من الأيام بمشروعية تفجير المباني والحافلات والمخازن والمقاهي وحصد المدنيين بشكل عشوائي كيفما اتفق بالمئات أو بالآلاف... لاحِظ ما فعلته ولا تزال تفعله الحركات الإخوانجية المختلفة في مشارق الأرض ومغاربها من سوريا إلى العراق إلى درنة في ليبيا... وهؤلاء يعتبرونهم ثواراً من أجل الحرية ! تحية إلى درنة الجميلة الرائعة وهي تُحرر من براثنهم وإرهابهم وظلامياتهم في هذه اللحظة بالذات. وبالتالي فهذا الفهم الخاطئ للجهاد أو للحرب المقدسة في الإسلام ينبغي أن يتوقف فوراً لكي يحل محله فهم آخر جديد يتناسب مع الشرع والعقل والعصر. فالجهاد يكون أولاً من أجل تصحيح انحرافات النفس ونوازعها والتغلب على نواقصها. ثم بعدئذ يعني أو ينبغي أن يعني التنمية الشاملة والنهوض الحضاري وتخليص شعوبنا من مستنقع الأمية والجهل والفقر. هذا هو الجهاد العظيم الذي تحتاج إليه مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم. هذا هو الجهاد الأكبر لا الأصغر. ولكن الجميع نسوه.

أما المقترح الرابع لصاحب « إسلام الأنوار » فيتمثل في ما يلي : منع صدور أي فتوى تشرّع الاغتيال والقتل والتفجيرات العمياء. فهذا شيء مضاد لروح الإسلام وللفهم الصحيح لرسالته وجوهره. وبالتالي فلا يحق لأي شيخ كائناً من كان أن يصدر فتوى دينية تحلل اغتيال هذا المثقف أو ذاك لمجرد أن كتاباته لم تعجبه... هذا شيء خطير يؤدي إلى انتشار الفوضى والفتنة والرعب في المجتمع. كما وينقلب بالعاقبة السيئة على الجميع. انظر الفتاوى التي كفّرت بعض روائع نجيب محفوظ أو حيدر حيدر أو سواهما. وانظر الفتوى التي أدت مباشرة إلى اغتيال المفكر المصري فرج فودة، إلخ... وهناك فتاوى أدهى وأخطر تدعو إلى تكفير طوائف بأسرها وإبادتها. وهي التي أشعلت الحروب الدموية في المشرق العربي مؤخراً ودمّرت النسيج الاجتماعي وجعلت التعايش مستحيلاً بين أبناء الوطن الواحد !

وهناك مقترحات أخرى عديدة لا نستطيع أن نتوقف عندها كلها من مثل : ضمان حرية الاعتقاد والضمير والتفكير في العالم الإسلامي. وكذلك احترام الآخر وعقائده سواء أكان هندوسياً أو صينياً كونفشيوسياً أو يهودياً أو بوذياً، إلخ. وكذلك ينبغي تحديث القانون المدني وقانون الأحوال الشخصية الخاص بالزواج، والطلاق، والإرث، إلخ... ينبغي احترام المرأة وإعطاؤها حقها كاملاً، فهي ليست ناقصة عقل أو دين كما توهمت العصور القديمة.

وفي ما يخص حرية المعتقد والضمير فيرى مالك شبل أنها ستكون أصعب مقترح يمكن فرضه على العالم الإسلامي. لماذا؟ لأن المحافظين والمتشددين يعتبرون أن حرية الاعتقاد تؤدي إلى الفوضى أو حتى الإلحاد. وبالتالي فينبغي تحريمها بشكل قاطع. ولكن الفكر الحديث يقول لنا : هذا غير صحيح، فالحرية الفكرية تعني التعددية العقائدية والمناظرات الخصبة بين أتباع المذاهب المختلفة. وهذا الشيء كان مقبولاًً سابقاً إبان العصر الذهبي للإسلام. انظر المناظرات الرائعة التي كانت تحصل في جلسات الخليفة العظيم المأمون والتي خلّدها مؤخراً أندريه ميكيل في كتاب ممتع بعنوان « محاورات بغداد »... وكنا قد استعرضناه سابقاً هنا على صفحات « الشرق الأوسط ».

وأخيراً، هذه هي الثورة الكوبرنيكية -أو التنويرية- التي يدعونا إليها تيار إسلام الأنوار الذي يتجاوز مالك شبل بكثير. ينبغي العلم بأن عبد الوهاب المؤدب كان أكثر جرأة وقد ذهب في نقد الأصولية إلى أبعد منه بكثير. وقيل الأمر ذاته عن الفيلسوف عبد النور بيدار الذي جدد الفكر الإسلامي بشكل غير مسبوق مؤخراً من خلال عدة كتب مهمة فعلاً وتنويرية حقاً وينبغي أن تُترجم فوراً إلى العربية. وهناك آخرون حتماً لا تستطيع هذه العجالة أن تذكرهم كلهم للأسف الشديد... ولكن يبدو واضحاً أن باريس التي نوّرت أوروبا في القرن الثامن عشر هي التي ستنور العرب في القرن الحادي والعشرين. فـ« إسلام الأنوار » ظهر فيها ومنها سيشع على العالم العربي. ولكن لكي تنتصر الأنوار ينبغي على المجتمعات العربية أن تنفض غبار القرون الوسطى عن برامج التعليم الديني في كل المدارس والجامعات بل وحتى الفضائيات. كما ينبغي منع التيارات الإخوانجية الظلامية من بث أفكارها وسمومها في المدارس وكليات الشريعة والتعليم العام. لماذا؟ لأنها لم تعد ملائمة للعصر، ولأنها تزرع بذور الشقاق والفتنة الطائفية المذهبية بين تلامذة الوطن الواحد وهم على مقاعد الدرس. إنها طائفية تكفيرية على المكشوف. وهي التي دمرت المشرق العربي أو توشك أن تدمره من خلال فتاوى ابن تيمية التي أحياها مؤخراً يوسف القرضاوي على شاشات « الجزيرة » داعياً بشكل علني إلى ارتكاب الجريمة. هذا هو إسلام الظلام الذي يريد إسلام الأنوار استئصاله عن بكرة أبيه !

هل حقاً أن مالك شبل هو مخترع مصطلح : إسلام الأنوار؟

هذا ما كان يعتقده هو شخصياً. وهذا ما صرح به لجريدة « المساء » البلجيكية. ولكن يبدو أن المصطلح أقدم من ذلك. وربما كان قد ظهر في العربية أولاً قبل الفرنسية. وربما كان قد ظهر في مصر أو لبنان أو تونس أولاً للتعبير عن تيار تجديدي طويل عريض يريد أن يضع حداً للموجة الأصولية الطاغية. أقول ذلك وأنا أفكر بالمرحوم الدكتور محمد الشرفي الذي نشر كتاباً بعنوان « الإسلام والحرية »، وآخر بعنوان « معركتي من أجل الأنوار ». وأعتقد أنه تمت ترجمة كل ذلك إلى اللغة العربية من قبل رابطة العقلانيين العرب التي أسسها الدكتور محمد عبد المطلب الهوني ووضع على رأسها أحد كبار التنويريين العرب في هذا العصر : الأستاذ جورج طرابيشي. ومن أبرز ممثلي هذا التيار المفكر التونسي الشهير العفيف الأخضر، ونصر حامد أبو زيد، وعبد المجيد الشرفي، ومحمد الحداد، ورجاء بن سلامة، وريتا فرج، وأحلام أكرم، وعشرات الآخرين من المثقفات والمثقفين العرب. والواقع أنه يصعب تحديد من هو أول مخترع لهذا المصطلح. وربما لم يكن ذلك مهماً جداً. المهم أنه أصبح شائعاً ويعبّر عن حاجة تاريخية ماسّة، وإلا لما نجح وانتشر على أوسع نطاق.

وما يدعم ذلك أن الدكتور مالك شبل نفسه يقول لنا ما معناه : ربط الإسلام بالأنوار ليس جديداً. إنه يندرج داخل ديناميكية فكرية بدأت في القرن التاسع عشر إبان عصر النهضة واستمرت حتى اليوم. وقد جسدها مفكرون إصلاحيون كثيرون. ولكنهم اتُّهموا بالهرطقة أو الزندقة من قبل الإخوان المسلمين ومن شاكلهم. انظروا هجوم الجماعة المتزمتة على طه حسين أو علي عبد الرازق أو عباس محمود العقاد أو سواهم. والآن تعود المناقشة إلى الساحة كأقوى ما يكون. وأصبح السؤال المطروح هو التالي : هل ينبغي تعديل الإسلام لكي يتماشى مع الحداثة أم تعديل الحداثة لكي تتماشى مع الإسلام؟ بمعنى آخر : هل ينبغي تحديث الإسلام أم أسلمة الحداثة؟ وأنا شخصياً أعتقد أنه ينبغي أن نأخذ من التراث أفضل ما فيه ومن الحداثة أفضل ما فيها ونصهرهما في بوتقة واحدة. ولكن القول سهل والفعل هو الصعب.

وأخيراً، فإن إسلام الأنوار وأضواء العقل كان موجوداً في العصر الذهبي. فهو الذي قدم للعالم علم الجبر والحساب وبيت الحكمة للمأمون والفلسفة والعلوم. وهو الذي قدم للبشرية بعضاً من أعظم الفلاسفة والمفكرين والأدباء والشعراء : كالكندي، والجاحظ، والفارابي، وابن سينا، والتوحيدي، والمتنبي، وأبي العلاء المعري، وبقية العباقرة الكبار. بهذا المعنى، فالتنوير العربي سبق التنوير الأوروبي بعدة قرون. وهو الذي علّم المسلمين احترام الآخر وهضم كل منجزات الحضارات السابقة وصهرها في بوتقة العروبة والإسلام بغية تشكيل حضارة عظيمة. وبالتالي فالإسلام هو دين النزعة الإنسانية ومكارم الأخلاق. إنه دين الأنوار الحضارية لا الظلمات التكفيرية الداعشية التي تبث الرعب والذعر في شتى أنحاء العالم.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط

عن جريدة الشرق الأوسط

جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.
لقراءة المزيد



جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الأحد - 23 محرم 1439 هـ - 15 أكتوبر 2017 مـ رقم العدد [ 14201]
الملاحق / ثقافة
هاشم صالح


أندريه مايكل يعود إلى المأمون ومحاورات بغداد

لكي يساعد المثقفين العرب على مواجهة أصوليتهم الظلامية


إنه لشيء مهم أن يكون المستشرق الكبير أندريه مايكل قد نزل إلى الساحة، وأدلى بدلوه بين الدلاء. إنه لشيء ممتع أنه شمر عن ساعديه ونزل إلى المعمعة لكي يساعد المثقفين العرب على مواجهة أصوليتهم الظلامية التي أصبحت بحجم العالم. وقد فعل ذلك بكل هدوء ورصانة، ودون أي صراخ أو عويل وتهويل، كما يفعل بعض المثقفين الفرنسيين الجهلة بالموضوع. وهذه ليست حالة أندريه مايكل الذي أمضى عمره في دراسة تاريخ الإسلام وثقافته وحضارته، ونتجت عن ذلك مراجع كبرى ينبغي أن تترجم كلها يوماً ما إلى اللغة العربية. فقد قدم هذا المستشرق الفذ لثقافتنا وتراثنا خدمات جلية لا تقدر بثمن.

وقياساً إلى هذه الخدمات يخيل إليّ أحياناً أنه لم يحظ بكل التقدير الذي يستحقه، فهذا الرجل ما انفك منذ أكثر من نصف قرن يهتم بتراثنا، ترجمة وكتابة وبحثاً أكاديمياً. من الذي ترجم « كليلة ودمنة » إلى لغة موليير وفولتير؟ إنه أندريه مايكل؛ ومعلوم أنها إحدى روائع التراث العربي الكبرى. بل لقد ألف عنها كتاباً يثبت فيه أن حكايات لافونتين الشهيرة مستوحاة في قسم كبير منها؛ فهل كان من السهل على مثقف فرنسي أن يعترف بمديونية الثقافة الفرنسية في أعلى ذراها تجلياً للثقافة العربية؟ نقول ذلك خصوصاً لأن حكايات لافونتين تمثل إحدى مفاخر التراث الفرنسي؛ فبها يضرب المثل، والجميع يحفظونها عن ظهر قلب. ولكن أندريه مايكل، ككل باحث أكاديمي كبير، يعترف بالحقيقة الموضوعية، وينحني أمامها.

ومعلوم أن كلتيهما، أي « كليلة ودمنة » و« حكايات لافونتين »، تتحدثان عن الحكمة والموعظة من خلال حكايات خرافية جميلة، تتم على ألسنة الحيوانات. وقد ضرب المثل بالحكم والمواعظ والعبر الناتجة عنهما. وهذا يعني أنه لم يكتف بالترجمة، وإنما أرفقها بالبحث المعمق في تاريخ الآداب المقارنة، وهذه صفة كل باحث أكاديمي ضليع. ونحن بأمس الحاجة إلى تطوير تاريخ الآداب المقارنة، بل وتاريخ الأديان المقارنة، في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا العليا، فمن لا يعرف تراث الآخرين لا يعرف تراثه الخاص بالذات على حقيقته. « من لا يقارن لا يعرف »، كما يقول المثل الصيني، وإنما يظل مسجوناً داخل شرنقته الخاصة. وهنا، تكمن إحدى النواقص الكبرى للثقافة العربية الحالية. لو أن تاريخ الأديان المقارنة مدرس في بلادنا وجامعاتنا، لما نمت وازدهرت كل هذه الأصوليات الجاهلية المتعصبة، فنحن مسجونون داخل سياجاتنا الدوغمائية المغلقة، وأقفاصنا العقائدية الضيقة. وما دمنا لم نخرج منها ونشم الهواء الطلق في الخارج، وننفتح على العالم، فسوف نظل في مؤخرة الأمم والشعوب، ولن نخرج من المغطس الذي غرقنا فيه حتى بعد مليون سنة.

هذا وقد ترجم أندريه مايكل رائعتنا الكبرى الثانية، وحللها على ضوء أحدث مناهج النقد الأدبي؛ عنيت بها « ألف ليلة وليلة »، التي شاركه فيها الباحث الجزائري جمال الدين بن شيخ، ونشرت في سلسلة « لابلياد » الشهيرة عن « غاليمار »؛ وهي سلسلة مخصصة فقط للروائع الأدبية الكبرى لعباقرة فرنسا. والشيء المدهش الذي لا يكاد يصدق هو أن أندريه مايكل اهتم اهتماماً بالغاً بقيس بن الملوح، الملقب بـ« مجنون ليلى »؛ وهذا دليل على مدى حساسيته المرهفة، بل وشاعريته ونزعته الإنسانية الفياضة. ولو لم يفعل غير هذا لكفاه ذلك فخراً. فالمجنون شخص شبه مقدس بالنسبة لآدابنا العربية؛ لقد احترق في الحب احتراقاً، ومن لا يحب المجنون والشعر العذري برمته لا أعترف به أنا شخصياً، ولا أعطيه أي وزن أو قيمة. هؤلاء هم ملائكة الشعر العربي : المجنون وجميل بثينة وكثير عزة، ناهيك بذي الرمة ومعبودته مي؛ إنهم من أرقى وأصفى ما أعطاه العرب للعالم.

والواقع أن أندريه مايكل ليس فقط باحثاً أكاديمياً من أعلى طراز، وأستاذاً للآداب العربية في السوربون، ثم الكوليدج دو فرانس (أعلى من السوربون)، وإنما هو أديب شاعر أيضاً؛ اقرأوا كتابه الفاجع « الابن المنقطع ». وفيه يتحدث عن طفله « بيير »، الذي رحل عن هذا العالم وهو في عمر الزهور (14 سنة). رحل وهو يتساءل أمام والديه : لماذا أنا؟ لماذا لم تكتب لي الحياة؟ لماذا أغادركم وأنا صغير؟ إني أحبكم. كتاب تتقطع له نياط القلوب. وأتذكر أني قرأته دفعة واحدة بعد وصولي إلى فرنسا بفترة قصيرة نسبياً، ولم أخرج منه سليماً معافى؛لم أستطع تركه حتى فرغت منه بعد أن دمرني وطهرني في الوقت ذاته. متى سأكتب كتاباً ضخماً بعنوان « لوعة الفراق »؟ ولكن لا فراق؛ أحباؤنا يبقون معنا حتى لو لم نرهم لحظة واحدة؛ هناك غياب أقوى من كل حضور. أين انتصارك يا موت؟ ! راح يصرخ القديس بولس. وأعتقد أن هذا الفاجعة الرهيبة عمقت إيمان أندريه مايكل في نهاية المطاف، بدلاً من أن تقضي عليه. وبالتالي، فأندريه مايكل شخص تراجيدي، بالمعنى النبيل والعالي للكلمة، أو قل إنه يعرف معنى التراجيديا. لقد دفع ثمنها عداً ونقداً. وربما لهذا السبب بذل جهداً كبيراً، وأمضى وقتاً طويلاً، في ترجمة ديوان مجنوننا الرائع قيس بن الملوح، ذلك الإنسان التراجيدي المفجوع. نقول ذلك ونحن نعلم أن ترجمة الشعر من أصعب الصعب، والبعض يعتبرها مستحيلة، لأن الشعر هو جوهر اللغة : أصالتها، وخصوصيتها، وعصارتها.

وبالطبع، لم أذكر رائعته الأكاديمية الكبرى عن « الجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي »؛ إنها موسوعة فكرية في ثلاثة مجلدات، وعليها نال شهادة دكتوراه الدولة. وهي تلقي أضواء ساطعة على تراثنا كله، وليس فقط الجغرافي منه. وفيها، يثبت أندريه مايكل أن أجدادنا القدماء كانوا أكثر انفتاحاً منا على ثقافات العالم، من هندية وفارسية، وبالأخص يونانية. كانوا يأخذون العلم من حيث أتى، أو حيث وجدوه، دون أي تردد. وبناء على ذلك، تشكلت ذخائر العرب وكنوزهم التي لا نزال نفتخر بها حتى اللحظة.

لكن ما عن كل هذا سأتحدث لكم الآن، وإنما عن كتاب واحد أصدره البروفسور مايكل، بعنوان « محاورات بغداد : إسلام الأنوار »، وهو مكرس كله للإعجاب بخليفة العرب والمسلمين المأمون بن هارون الرشيد، وهو أعظم خليفة مثقف شهده تاريخنا. وإعجاب أندريه مايكل به لا حدود له، ولذلك كرس له هذا الكتاب الذي يروي مقامات أو محاورات متخيلة جرت في حضرته؛ قلت متخيلة لأن الباحث الفرنسي تخيلها وركبها وصاغها، ولكنه في الواقع اعتمد على مراجع تاريخية تعود إلى تلك الحقبة. وبالتالي، فهي حقيقية، والكلام الوارد على لسان المأمون وحاضري جلساته من فقهاء وعلماء وفلاسفة شيء مستمد من كتب التراث، ولم يختلقه أندريه مايكل، وإنما فقط أعطاه صياغات أدبية على هيئة حوارات ممتعة. لقد تخيل أندريه مايكل في هذا الكتاب الفريد من نوعه حصول عشر مقامات أو جلسات وحوارات بين المأمون وكبار علماء الدين في عصره. ولم يكونوا كلهم من المسلمين، فقد شارك في هذه الحوارات علماء اللاهوت المسيحي، بل وحاخامات اليهود ! من يصدق ذلك؟ نعم، كان يحق لهم أن يفتحوا فمهم، ويدلوا بدلوهم بين الدلاء، تماماً كعلماء المسلمين. بل وشاركت فيها زوجة الخليفة نفسه؛ تلك الرائعة بوران. وحول أي شيء كانوا يتناظرون أو يتسامرون في سهراتهم الطويلة تلك؟ حول موضوعات خطيرة جليلة، كعلاقة الإيمان بالعقل مثلاً، أو حول مكانة المرأة في المجتمع، أو حول الحرب والتجارة بين البلدان والشعوب المختلفة، أو حول الفقه والقانون، أو حول الفنون والعلوم، أو حول الشعوب الأجنبية على العرب والمسلمين، أو حول العلاقة بين الأديان المختلفة؛ كل هذا كان عرضة للنقاش في حضرة الخليفة المأمون، وكان هو يتدخل طبعاً بشكل شخصي في النقاش، ويعطي رأيه، وربما الكلمة الفصل في نهاية المطاف.

المحاورة الأولى مخصصة لدراسة العلاقة بين الإيمان والعقل، ليس فقط من وجهة نظر الإسلام، وإنما أيضاً من وجهة نظر المسيحيين واليهود. ولذلك، حضرها حاخام يهودي يدعى موسى، ولاهوتي مسيحي يدعى يحيى. وقد أفسح لهم حق الكلام مثل علماء المسلمين، أو قل بعدهم مباشرة. وهذا تقدم هائل بالنسبة لذلك العصر : أي قبل أكثر من ألف سنة. بل إنه تقدم هائل بالنسبة لعصرنا ذاته. فهل نستطيع في الوقت الراهن أن نجمع ممثلي الأديان التوحيدية الإبراهيمية لكي يتناظروا بكل حرية عن الشؤون الدينية في جامعاتنا أو كليات الشريعة على وجه الخصوص؟ مستحيل. وهذا يعني أن المأمون كخليفة عقلاني كان سابقاً لعصره بكثير. والأسئلة التي طرحت في حضرته ممنوع طرحها حالياً في معظم بلدان الإسلام؛ وهذا أكبر دليل على مدى التخلف الذي نعيشه فيما يخص الدراسات العقائدية والدينية. إنه تخلف مخيف هائل مرعب.

ولكن أندريه مايكل، على الرغم من كل ذلك، يظل متفائلاً. فهو يقول ما معناه : إذا كان الإسلام المنفتح المتنور قد وجد عند العرب قبل ألف سنة، فلماذا لا يوجد بعد ألف سنة : أي الآن؟ إذا كان العرب المسلمون هم أساس التنوير والعلم والفلسفة التي صدروها إلى أوروبا، فلماذا لا ينتصرون على ظلامياتهم الداعشية الحالية ويستعيدوا أمجادهم؟ بمعنى آخر، وبكلمة واحدة : لماذا لا يعود العصر الذهبي مرة أخرى ويشرق على العالم؟ أقصد بالعصر الذهبي هنا عصر المأمون والمعتزلة والفلاسفة والجاحظ والتوحيدي والفارابي والمتنبي والمعري وابن سينا وبقية العباقرة. هذا هو فحوى كلام أندريه مايكل؛ إنه يريد بشكل غير مباشر استنهاض العرب والمسلمين، وتذكيرهم بأمجادهم الغابرة التي نسوها كلياً. فالواقع أن إسلام عصر الانحطاط طغى على إسلام العصر الذهبي، وغطى عليه وطمسه طمساً. لقد أصبح كالحجاب الحاجز الذي يفصل بيننا وبينه. وقد حصل ذلك إلى درجة أن كثيراً من العرب المعاصرين يعتقدون أن الإسلام الوحيد الممكن هو إسلام الإخوان المسلمين ! بل وكثير من المثقفين أيضاً !! وهنا تكمن الطامة الكبرى؛ إنهم لا يمكن أن يتخيلوا وجود إسلام آخر غيره. ولكن كتاب أندريه مايكل يثبت لهم العكس تماماً، فإسلام المأمون، أي إسلام الأنوار، وجد قبل إسلام الإخوان بزمن طويل، وله طول العمر والمستقبل، بشرط أن نستعيده ونضيف إليه أنوار الحداثة الأوروبية. فهو وحده لا يكفي، باعتراف مايكل ذاته. إنه عظيم بالنسبة لعصره، قبل ألف سنة، ولكنه لم يعد كافياً بالنسبة لعصرنا الذي شهد الاستقلالية الكاملة للعقل قياساً إلى النقل. وقد حصل ذلك لأول مرة على يد فولتير وديدرو والموسوعيين وكانط، إلخ. وهذا الشيء ما كان ممكناً في عصر المأمون، فقد كان يشكل اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة لذلك الزمان القديم. وهذا لا يقلل أبداً من جرأة المأمون وعظمته، ولكنه يموضعه ضمن تاريخيته وظروف عصره وإمكانياته.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط

عن جريدة الشرق الأوسط

جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.
لقراءة المزيد

Partager

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)