L’invité des Médicis de Carole Dagher Éditions Philippe Rey - 2020

, par Mohammad Bakri


Éditions Philippe Rey


Présentation

En novembre 1613, un invité inattendu débarque en Toscane, à la cour de Cosme II de Médicis, fuyant l’invasion de son pays : Fakhreddine II, prince du Liban. Son but est de lever une armée européenne contre la Sublime Porte qui veut sa perte. Mais son séjour à Florence, capitale de la Renaissance italienne, prend une tournure imprévue car jalonné d’embûches et d’intrigues.

Venu en Italie pour quelques mois tout au plus, celui qui y fut surnommé « Faccardino » restera cinq ans. Cinq années qui vont métamorphoser cet homme, changer la face du Levant et le cours de son histoire.

Au long de ce récit puissant et solidement documenté, Carole Dagher se glisse dans la peau du grand émir Fakhreddine II. Cet homme raffiné, brillant militaire et stratège, va découvrir la cour des Médicis, l’univers des artistes, la puissance des guildes, l’amour aussi… Un roman qui restitue à merveille les richesses et les rebondissements d’une exceptionnelle rencontre entre l’Orient et l’Occident.

En savoir plus sur le site de l’éditeur


موقع رصيف 22


موقع رصيف 22
الخميس 4 مارس 2021
جان نايف هاشم


"ضيف آل ميديتشي" لكارول داغر رواية القضيّة والموقف



ليست المرّة الأولى التي يتناول فيها أحدهم بالبحث أو الحكاية، سيرة الأمير اللبناني فخر الدين المعني الثاني الكبير، الذي تولّى إمارة لبنان في القرن السابع عشر، وعبرها علاقات الشرق والدول العربية، ولبنان تحديداً، بالغرب الأوروبي، في مرحلة نهوض هذا الأخير سياسياً وفنياً.

وإن تكن هذه الشخصية التاريخية موضع خلاف بين المؤرّخين في ما خصّ موقعه ووظيفته، في جبل لبنان وجواره في زمن السلطنة العثمانيّة، إلا أنه يبقى في نظر الكثيرين المؤسّس الأول للكيان اللبناني الحديث، عبر الحلم الذي راوده، وزرعه في نفوس المتأخرين، بإقامة إمارة ذات استقلالية أو حكم ذاتي في ظلّ السلطنة العثمانية.

إمارة حاول أن يحقق فيها حكماً قويّاً عادلاً وازدهاراً اقتصادياً وعمرانياً وفنياً، على غرار ما شاهده في فلورنسا في إمارة توسكانة، حيث نزل ضيفاً فارّاً من وجه العثمانيين، على آل ميديتشي، أو ميديسيس، الذين تحالف معهم وأمل في دعمهم لاستعادة إمارته وسلطته فيها.

وإن لم يكن الأمر إلا مجرَّد "حلم"، فإن من حق الشعب اللبناني، كما الشعوب في كل مكان وزمان، أن يعيش هذا الحلم كمحفّز له على بناء وطن يتمتّع بالقوة والاستقلالية والازدهار. هذا ما أرادت الكاتبة والباحثة، كارول داغر، إيصاله في روايتها "ضيف آل ميديتشي، L’invité des Médicis"، الصادر في العام 2020 بالفرنسية، عن دار فيليب راي Philippe Rey في فرنسا.

رواية "ضيف آل ميديتشي" ومدونات الأمير

اتّخذت كارول داغر من مدوّنات الأمير فخر الدين، المفترَضة ربما، أساساً لبناء روايتها، التي تناولت فيها، في حبكة فنية متقنة ومشوِّقة، المرحلة الممتدّة من نزول فخر الدين في فلورنسا وحتى عودته إلى جبل لبنان، استعادته الحكم وشروعه في تحقيق ما طمح إليه، وصولاً إلى انهزامه وإعدامه.

وعلى الأرجح أن الكاتبة استمدّت هذه المدونات أو المذكرات المفترَضة مما سجله خاطر أمين سرّ الأمير الذي رافقه في رحلته، ومن الخالدي مؤرّخه، لتجعل منها مادة تخييلية، فتحت لها المجال لاستعادة الأحداث الواقعية وجعلها أساس بناء حبكتها الروائية.

لكن براعة الكاتبة تكمن في اختيارها فكرة المدوّنات، سواء أكانت صحيحة أم لا، من أجل بلورة شخصية الأمير في تلك المرحلة الدقيقة من مسيرته السياسية، كونها تتيح لها الغوص في أعماق هذه الشخصية وتخيّل انفعالاتها أمام ما طالعه في خلال إقامته في توسكانة، وتفاعلاتها إزاء الأحداث السابقة، والمفاوضات التي كان يجريها مع أسياد أوروبا للحصول على الدعم، مع ما رافق ذلك من تسهيلات موعودة أو معوّقات مُفتَعلة، ناهيك عن المشاعر والأحاسيس الذاتية والوجدانية التي تفجّرت بشكلها المنطقي، بحكم العلاقات الخاصّة التي استجدّت معه هناك.

اتّخذت كارول داغر من مدوّنات الأمير فخر الدين الثاني أساساً لبناء روايتها "ضيف آل ميديتشي" التي تناولت فيها، في حبكة فنية متقنة ومشوِّقة، المرحلة الممتدّة من نزول فخر الدين في فلورنسا وحتى عودته إلى جبل لبنان

وكل ذلك لا يمكن أن ينكشف ويتمظهر عبر أعمال المدوّنَيْن، خاطر والخالدي، اللذين يكتفيان طبعاً بتسجيل وقائع نشاطات اليومية العادية. وهو ما نبّهت إليه الكاتبة من المقدمة، على لسان الأمير نفسه : "لم يتنبَّه أي من مُدوِّنَيْ سيرتي إلى ما حدث (...) لكن حتى وإن عرفا، ماذا بإمكانهما قوله؟ هل يجرآن على الكلام عن الضحك والدموع، وعما حرَّك مشاعري وما تحمّست له أو نفرت منه، هل سيتحدّثان عن الفجوات التي تندفع عبرها الرياح، أم عن هذا المزيج المنصهر من قوى ومصادفات الذي يؤسِّس الحياة الإنسانية، حيواتنا الحافلة بالمفاجآت؟".

أمر آخر أمّنه اعتماد فكرة المدوَّنات، إذ سمح للكاتبة بأن تحيد عن السرد التاريخي الجاف، وبأن تنحو بعملها وجهة العمل الفني الذي يعكس ويصوّر تأثير الأحداث التاريخية، بسياساتها وحروبها وتجاذباتها، على دواخل القائمين بها، أو على عامة الناس، وهو ما يمكن اعتباره كتابة التاريخ "من تحت"، أو من زوايا نظر أخرى غير تلك المعهودة في أعمال المؤرخين، وهذه إحدى وظائف الرواية التاريخية، إضافة إلى وظيفتها الأخرى المتوافق عليها عموماً، وهي العمل على إسقاط الماضي على الحاضر، وهو ما نجحت كارول داغر في إيصاله في عملها الروائي هذا.

منجزات آل ميديتشي تلهم فخرالدين

تدور أحداث الرواية عموماً في فلورنسا ودوقيّة توسكانة، حيث، كما هو معروف، حلّ فخر الدين ضيفاً على آل ميديتشي، الذين سبق أن تحالف معهم بالمراسلة، عبر الغراندوق فريديريك الأول من دون أن يتعرّف به، فأحسن ابنه كوزيمو الثاني، وعلى الأخصّ، أرملته ماري كريستين دو لوران، وفادته وأحاطاه بالإكرام اللازم، واعدين بتأمين المساعدة والدعم اللازمين لتأمين عودته واستعادة إمارته.

في هذه الأثناء يطّلع فخر الدين على منجزات آل ميديتشي في دوقيتهم، من النظام السياسي وطريقة الحكم والتعامل مع الشعب، وصولاً إلى الانبهار إزاء مظاهر العمران والفنون والعلوم والصناعة ووسائل اللهو والترفيه التي تيسّر له مشاهدتها والاطلاع عليها. وفي تفرّغه لهذه الأمور خلال إقامته، وبفعل الحالة النفسية الكئيبة التي كان يعيشها، هو الفارّ منهزماً من أمام أعدائه.

بعيداً عن عالم السياسة والعسكر والمفاوضات التي كان يجريها لاستجلاب الدعم، تروي داغر قصة حبّ عاطفية عاشها الأمير فخر الدين في توسكانة مع عازفة عود ورسامة تدعى ألبا دا فيزوليه التي كانت تصغره سنّاً بكثير

يسترسل في إقامة المقارنة بين عظمة ما يشاهده هنا وبساطة ما هو قائم في موطنه، وشيئاً فشيئاً يروح يُمنّي النفس بأن ينهض ببلاده، إن هو عاد إليها، إلى مصاف هذه الدول باعتماد الوسائل والسياسات نفسها، وهو ما لم يُخفِه عن مضيفيه ومعارفه من أهل العلم والفنّ خصوصاً، لا بل طلب معونتهم صراحة في هذا المضمار، عبر دعوة الفنانين والمهندسين إلى مرافقته إلى لبنان، لمساعدته في تحقيق حلمه الطارئ هذا، تماماً كما كان يطلب الدعم العسكري.

وقوع فخرالدين في الحب

بعيداً عن عالم السياسة والعسكر والمفاوضات التي كان يجريها لاستجلاب الدعم، تروي الكاتبة قصة حبّ عاطفية عاشها الأمير في إقامته تلك، مع عازفة عود وفنانة رسامة تدعى ألبا دا فيزوليه، ترعاها الغراندوقة ماري كريستين، تصغره سنّاً بكثير، ما أضفى على الرواية جوّاً من الطلاوة، وفتح المجال أمام حبكة روائية مشوّقة، تتطوّر أحداثها وتتعقّد وصولاً إلى مآلات مفاجئة وصادمة.

والأهم في هذا الجانب من الرواية أن الكاتبة فتحت لنا، سواء أكانت تلك المغامرة صحيحة أم مختلقة، باب الغوص في نفسية الأمير، وعلى ما تفتّح فيها من مشاعر وأحاسيس رقيقة ومؤثّرة، هو نفسه، رجل الشدّة والبأس، لم يعهدها في نفسه ولم يعشها مع امرأة، بالرغم من زيجاته الأربع، فإذا نحن أمام أمير يذوق طعم الحب الحقيقي للمرة الأولى، ويتعامل مع المرأة بغير ما هو معهود في طبيعة هذه العلاقات في المشرق.

وكان من شأن هذا الحبّ الجارف أن دفعه إلى الزواج سرّاً بها وإنجاب ولد منها، بياترو، الذي سيرافقه فترة بعد عودته إلى البلاد، قبل أن يعود إلى توسكانة، وطبعاً بعد انهزام والده الأخير والنهائي، ليسير على خطى والدته في الفنون.

وقَّعت الكاتبة إذن أحداث الرواية على هذين المستويين، المستوى العاطفي الشخصي عبر العلاقة بألبا، والمستوى السياسي عبر المفاوضات والمداولات التي كان يجريها للحصول على دعم الدول الأوروبية، محاولة إقامة التوازن بينهما بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، كما أحكمت الربط بينهما ليصبح مسار أحدهما متأثّراً بالآخر ومتداخلاً معه.

في تاريخ لبنان ما أشبه اليوم بالأمس. كأنه كُتِب لهذا الوطن الصغير أن يبقى على خط التماس في النزاعات الإقليمية في هذا الشرق

العلاقة الغرامية ولّدت في نفس الأمير مشاعر وأحاسيس ومواقف من المرأة ليست معهودة في حضارته وتربيته وثقافته، فقد عاش معها أحاسيس الحب والمشاعر الجيّاشة، ما شكّل أحد أسباب تأخير عودته إلى البلاد، وهي مشاعر وأحاسيس لم يثرها فيه جمال هذه المرأة بقدر ما أثارها ما وجده فيها من ذوق فني وبراعة في إتقان أعمالها، وتقدّمها في مجال مخصّص عادة للرجال.

وهو ما فتح عينيه على الدور الذي يمكن أن تلعبه المرأة في المجتمع والسياسة، إذا ما أضفنا إليه الدور الذي لعبته والدة كوزيمو الثاني، ماري كريستين دو لوران، في قضيته، وما شاهده من مشاركة المرأة في الحياة والنشاطات الاجتماعية من دون أي حرج. وربما بادلته ألبا هذا الحب، لما اكتشفته في شخصيته من تعامل حيّي ومحترم مع المرأة، ومن ميل إلى الفنون والعلوم ومعرفة فيها، ومن رغبة قوية وصادقة في الخوض في مجال الفنّ والجمال.

وهو ما برهن عنه الأمير من خلال انخراطه في عالمها الفني، وصولاً إلى قبوله الجلوس أمامها لكي ترسمه في لوحة فنية مميزة، استحقّت عليها الفوز بجائزة مخصصة للفنانين. وشكّلت هذه العلاقة وتطوّرها حبكة متكاملة في الرواية ومادة تشويق تأسر القارئ، وارتبطت بشكل وثيق بالمسار الموازي الآخر في الرواية، وهو المسار السياسي الأساسي عملياً في مهمة الأمير.

مراجعة الذات وتقويم السياسة

المستوى الثاني السياسي تناولت فيه الكاتبة مسار المفاوضات التي كان الأمير يجريها مع كوزيمو الثاني ووالدته، ومع مستشاريه ووزرائه، ومن هناك، مع الدوائر البابوية في روما، ثم مع دوق أوسونا في إسبانيا.

ومع أنها أفردت لها حيّزاً لا بأس به، بما يخدم مسار الرواية، إلا أنها لم تُغرق كثيراً في التفاصيل الدقيقة، المعروفة أساساً في الأعمال التاريخية، بل اتّخذت منها مساحة لرصد ردّات فعل الأمير إزاء ما كان يكتشفه في هذه المداولات من ألاعيب السياسة وأحابيلها، وما يعتري العلاقات الدولية من مصالح خاصة وأولويات، وما يرافقها من دسائس ومكائد لمسها الأمير في بلاطات أوروبا، كما عاشها هو نفسه في بلاطه، وحتى في محيطه الخاص في فلورنسا.

"هل سيعرف شرقنا يوماً ما كيف يتآلف مع حركة الفكر الإنساني الحرّة؟"

وهو ما دفع به، في مواضع كثيرة من الرواية، إلى إعادة حساباته وإلى الاقتناع بضرورة الاتكال على الذات، من دون التعويل كثيراً على دعم الدول الكبرى، حتى وإن جمعته بهم عداوة مشتركة للسلطنة العثمانية. فلهذه الدول حساباتها ومصالحها، كما للأشخاص مواقفهم وتصرفاتهم النابعة من مصالحهم الشخصية والنفعية.

هذه الأحداث والوقائع التي عاشها الأمير فتحت أمامه باب التبصُّر في أحواله، وفي محاسبة الذات وتقويم السياسة التي اتّبعها : أين أصاب؟ وأين أخطأ؟ أين عاند؟ وأين تهوّر؟ تماماً كما أتاحت له مشاهداته في عمران فلورنسا وعلاقاته بقادتها وعلمائها، وغرامه بألبا، فرصة المقارنة بين أحوال عالَمَيْن، الشرق والغرب.

وهو ما سلّطت الكاتبة عليه الضوء عبر الاستعادات والاستباقات على لسان بطلها، إذ تتيح له محاسبة الذات واستخراج أخطائه ودراسة وضعه ومعرفة من هم مخلصون معه ومن هم غدّارون خونة، ليبني على ذلك خططاً جديدة، وما عليه القيام به عند عودته إلى البلاد، وبذلك تصبح هذه المدوّنات نوعاً من خواطر وتأملات أكثر منها تسجيل يوميات عادية ليس إلا، وعليه، يصبح بإمكانه استشراف ما سيكون عليه مستقبله ومستقبل الوطن الذي حلم به.

هذا المنحى الذي اعتمدته الكاتبة جعل روايتها نوعاً من وقفة مركّزة عند التلاقح بين الشرق والغرب، بين التخلف والتطور، بين الانحطاط والنهضة، على مختلف الصعد السياسية والاجتماعية.

اكتشاف أسرار بناء الدول

في فلورنسا، لمس فخر الدين هذا الفرق، وأدرك أسباب الضعف والتقهقر، واكتشف مكامن القوة التي تبني دولاً. أولاً القرب من الناس والعمل لمصلحتهم ومشاركتهم حياتهم واحتفالاتهم، وإشراكهم في أعمال البناء والتطوير، والتربية والتعليم والتدريب، ما يجعل الشعب يلتفّ حول قائده ويندفع طوعاً في مسار البناء والتطوير والدفاع عن أرض الوطن، وهو ما خبره بعد عودته وشروعه في تحقيق حلمه :

"شيئاً فشيئاً توثّقت الروابط بين مواطنيّ، وما عادوا يشعرون أن التجنيد مفروض عليهم بالإكراه. وهل لي أن أقول إن نوعاً من الفخر حقّق اللحمة بينهم كما حب أرض الوطن؟".

وثانياً، حبّ الفنون وتذوّقها والعمل فيها، لما لها من دور في ترقية الشعوب، كونها تنمّي الحس وتُرهف الذوق وترقّق المشاعر وتوحِّد النفوس، وهو ما يجب أن يعمل له الحكام ويشجعوا عليه، وهو ما لمسه في غير مكان، وسمعه على لسان ألبا نفسها : "هذا المبدأ يجب أن يُعلّم لطالبه. فمن أجل تحقيق السلام في العالم والأخوّة بين البشر، من المفضّل أن يكون هناك حكام متنورون يرعون الفنون، مثل آل ميديتشي".

وإضافة إلى الفنون، هناك العلوم وما ينتج عنها من صناعات تسهّل حياة الرعية وتؤمّن عناصر قوتها، من أساطيل وأسلحة ومعدات، ولكم أفادته علاقته بغاليليه، العالم الذي أثار جدلاً معروفاً بآرائه حول حركة الشمس والأرض، والذي أراد إثبات نظرية كوبرنيكوس، ولكم سرّ بأحاديثه معه حول الفلك والكواكب والتناسق الذي تقوم عليه حركة الكون وامتدادها إلى حياة البشر.

ماكيافيللي : "في السياسة، لا صداقات ولا عداوات دائمة"

ولكم أفاده في معاركه اللاحقة، ذاك المنظار الذي أهداه إياه، كونه يقرّب المسافات ويكبّر الأحجام خمساً وعشرين مرّة، بما يؤمن له اكتشاف تموضع العدو وتحركاته من مسافات بعيدة. مع غاليليه طالع حركة الفلك، واستطلع منه مستقبله، هو وحده رأى ذلك استناداً على ما أخذه من والدته، الست نسب، في قراءة الطالع عبر الكواكب، وقد استشرف سقوطه وهزيمته بعد عودته إلى الوطن، وعمله على تحقيق ما حلم به وأراده لوطنه.

الأمر الوحيد المشترك الذي لاحظه بين الحضارتين وبين البلاطات، هو وجود أولئك الدسّاسين المتزلّفين، الذين لا همّ لهم سوى زرع الخلافات والتحريض والتعريض، وصولاً إلى امتهان الغدر والقتل والاغتيال، تحقيقاً لأهدافهم ومصالحهم.

في تاريخ لبنان ما أشبه اليوم بالأمس

عبر هذا المسار الثاني الذي اعتمدته بالتوازي مع القصة الشخصية العاطفية، أدّت الكاتبة الوظيفة الثانية للرواية التاريخية، وهي إسقاط الماضي على الحاضر. ففي تاريخ لبنان ما أشبه اليوم بالأمس. كأنه كُتِب لهذا الوطن الصغير أن يبقى على خط التماس في النزاعات الإقليمية في هذا الشرق، الذي يبدو أنه لن يتخلّص من رواسبه الاستبدادية، ولن ينجح في سلوك طريق الحرية المأمولة التي تصنع مجد الشعوب : "هل سيعرف شرقنا يوماً ما كيف يتآلف مع حركة الفكر الإنساني الحرّة؟"، كما على خط الصراع بين الشرق والغرب، حيث تتقدّم مصالح الدول الكبرى على طموحات الشعوب الصغيرة المغلوبة على أمرها، وبموجبها تتبدل التحالفات والعداوات، بحسب آراء ماكيافيللي التي تيسّر للأمير الاطلاع عليها خلال إقامته هناك : "في السياسة، لا صداقات ولا عداوات دائمة".

واللافت أن الكاتبة أشارت صراحة إلى ما سبّبه وما يزال موقع لبنان الجغرافي، في هذا الجوار الذي كان وظلّ دوماً عقبة في طريق نهوضه وتحقيقه الحرية التي يطمح إليها : "يبدو أن لبنان محكوم دوماً بالاضطرار إلى فرض سيادته في مواجهة أطماع ولاة دمشق". هذا الجوار الذي لم ينِ يستغل تنافس الزعماء الاقطاعيين المحليين وتناحرهم ليوظّفهما في إضعاف البلد، وإسقاط كل محاولة لتوحيده والنهوض به، وهذه هي المشكلة التي لم يتمكن الأمير من حلها، لا بقسوته ولا بدهائه، وهو "رجل الدهاء والسلاح". ولئن يكن لبنان غنياً بتعددية طوائفه وأحزابه، إلا أن ذلك يبقى عنصر قوة وضعف في آن معاً، ولذلك يبدو في نظر الأمير أن "لبنان يوفّر في آن معاً، الكثير من المباهج والكثير من المتاعب". إنه الواقع اللبناني قديماً وحديثاً.

عرفت كارول داغر كيف تقيم الموازنة بين التخييل والواقعية. اختلقت قصة غرام شخصية ذاتية للأمير فخر الدين في منفاه، نفذت من خلالها إلى عمق شخصيته، متصورة انفعالاته ومشاعره إزاء المرأة، كما ردّات فعله وهو يتأثر بمظاهر العمران التي طالعها، وأدّت إلى "ولادته الثانية" في غربته، كما أوردت على لسانه. وفي الوقت نفسه، استندت إلى الأحداث التاريخية لتحلّلها وتستخلص منها العبر مِنْ منظوره هو نفسه، والتي يُفترض بكل رجل سياسة أن يستخلصها. ولا شك في أنها، من أجل ذلك، قامت بأبحاث وتقصّيات مستفيضة في لبنان وإيطاليا، سواء عبر المستندات والمدوّنات التاريخية أم عبر المشاهدات الشخصية، لتتمكن من نقل صورة صادقة عما عاشه فخر الدين في تلك المرحلة من حياته، وعما تركه ذلك من أثر في شخصيته في المراحل التالية من حياته السياسية.

"ضيف آل ميديتشي"، رواية قضية وموقف، كما هي رواية إنسانية عامرة بالمشاعر والأحاسيس العميقة، هي رواية تقرأ للمتعة الفنية، كما للإفادة التاريخية والسياسية

وليس أدلّ على ذلك من هذه الاستشهادات بالأقوال المأثورة هنا وهناك، وبالأعمال والأفكار المشهودة في أوروبا في فجر نهضتها. وقد سكبت كل ذلك في حبكة روائية متكاملة ومشوّقة من خارج الأحداث التاريخية، وبأسلوب متقن ولغة فرنسية رشيقة وخاطفة، متحاشية ببراعة، الوقوع في الإطالة والإملال في المشاهد الوصفية الممتعة، أو التحليلات الفكرية والفنية والسياسية التي استعرضتها في سياق روايتها.

"ضيف آل ميديتشي"، رواية قضية وموقف، كما هي رواية إنسانية عامرة بالمشاعر والأحاسيس العميقة. هي رواية تقرأ للمتعة الفنية، كما للإفادة التاريخية والسياسية.

عن موقع رصيف 22

حقوق النشر

تم نقل هذا المقال بهدف تربوي وبصفة غير تجارية بناء على ما جاء في الفقرة الثانية من الفقرة 5 من شروط استخدام موقع رصيف 22 الإلكتروني على الموقع الإلكتروني "رصيف 22" :

... علماً أن الموقع يحترم، بالقدر الذي نقتبس فيه المواد من حين لآخر من مصادر أخرى بغية دعم مختلف التفسيرات والمؤلفات الواردة في هذا السياق، حق الآخرين في "الاستخدام العادل" للمواد التي يتضمنها الموقع؛ وبناءً على ذلك، فإنه يجوز للمستخدم من حين لآخر، اقتباس واستخدام المواد الموجودة على الموقع الإلكتروني بما يتماشى مع مبادئ "الاستخدام العادل".

Partager

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)