مقام الحب وآهات زكريا أحمد

, بقلم محمد بكري


 مقام الحب وآهات زكريا أحمد 1


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السابعة والعشرون - العدد 8154 الجمعة 3 تموز (يوليو) 2015 - 16 رمضان 1436هـ
نصير شمه - كاتب وموسيقي عراقي


فتاة ريفية من الجنوب التونسي، أحبت شابا تونسيا ليتعذر اللقاء بسبب التقاليد الصارمة، أحداث كثيرة.. فتاة ربما لم تلتق بالشاب أبدا، وربما التقته في نظرة من بعيد.. قررا أن يحطما قيود التقاليد وأن يلتقيا على الحب.. وفي الموعد المحدد يرسم القدر فراقا نهائيا.

شارع عام ورصيفان، كل واحد من العاشقين على رصيف، تلتقي العيون.. تتكلم.. تتصافح قبل أن تلتقي الأيدي.. وقبل أن يبدأ أي شيء انتهى كل شيء بلمح البصر.. يركض العاشق لتصدمه سيارة مجنونة.. يغرق الشارع بدمائه ويموت.. لتنتهي القصة..

قصة ذكرتني بلقاء بيرام وتسبا، اللقاء الصعب لعاشقين من بابل.. الحب المستحيل قبل ستة آلاف عام بين عاشقين من عائلتين متعاديتين، لا شيء سيجمع خطاهما سوى الهرب، وفي لحظة اللقاء يضيع كل شيء.. تصل تسبا قبل بيرام فترى حيوانا مفترسا فتهرع خائفة يقع منها منديلها فيلتقطه الدب بأنيابه الملوثة بالدم ويتمسح به فيتلطخ المنديل بالأحمر.. وحين يصل بيرام تقع عيناه أولا على الدب ومنديل تسبا الذي يعرفه جيدا.. يراه ملطخا بالدم فيرتعد ويعتقد أن الدب التهم تسبا الحبيبة، يعاجل بيرام بطعن نفسه.. فما عاد للحياة جدوى بعد تسبا.. هناك في الأعالي سيلتقيان مجددا ويعيشان حلم الأرض في السماء.. وعندما يختفي الدب تظهر تسبا لترى حبيبها يلتقط أنفاسه الأخيرة وأصابعه تضغط على منديلها لا تتردد تسبا في طعن نفسها، إذ أن الحب الذي دفع بيرام لطعن نفسه هو الحب الذي جمعهما برباطه المقدس.. هكذا كانت أسطورة التوت الأحمر.. قيل يومها إن شجرة التوت كانت شجرة بيضاء بثمار بيضاء حتى ارتوت بدم العاشقين فأصبحت حمراء قرمزية.

أتذكر أيضا روميو وجولييت العاشقين الذين صيغت حكايتهما على خلفية الأسطورة البابلية. أتذكر قصص الحب كلها واستمع إلى الشيخ زكريا أحمد.

بيرم التونسي التقط قصة العاشقين التونسيين ليصبحا «الأوله في الغرام». أم كلثوم غنت ملحمة بيرم التونسي.. النظرة الأولى والنظرة الأخيرة واستطاع الشيخ زكريا أحمد أن يصنع ملحمة موسيقية موازية، مثلما صنع العاشقان قصصهما الكثيرة.

مع «الأوله في الغرام» ليس صوت أم كلثوم وحده جسد عمق الحكاية، بل الموسيقى التي استطاعت أن تجسد لنا فعل الحب، كما استطاعت أن تجسد فعل الموت. وفي ذاكرة أذني استعيد الآن شيخ الموسيقيين العرب، استعيد صوت زكريا أحمد الذي يملأ القلب والروح والسمع ألما وحبا وفرحا وحزنا.

بصمة الشرق للإنسانية

ما بنى أعوام 1919 و1961 وأنجز شيخ الحب وشيخ المقامات وسادنها ما لم تستطع كتيبة من الملحنين تحقيقه ليس كمّاً فقط، بل ثراء وخلودا وعمقا وتفردا، وفوق كل ذلك إبراز هوية الشرق عبر أعماله.

شيخ توالد من شيوخ عدة، درويش الحريري، علي محمود، سلامة حجازي، علي المغربي، عبد الرحيم المسلوب، علي الحارث، أبو العلا محمد، سيد الصفطي، سيد مرسي، إسماعيل سكر، أحمد الحمزاوي، سيد درويش وآخرون.. كل هؤلاء يسبق اسماءهم لقب شيخ، واكتملت حلقة المشايخ بمن استطاع أن يخلط طرق أداء القرآن والموالد والتواشيح الدينية بإيقاعاتها وأنغامها وقدسيتها وينجز مشروعا فريدا مثل نهر متدفق بدون سكون.

أراد له أبوه ومعيله مستقبلا دينيا أزهريا وهو أراد لنفسه أفقا يخلط بين الدين والدنيا، فتعلم وأتقن طرق أداء القرآن ومخارج حروفه والتنغيم ليبصم الشعر الكلاسيكي آنذاك بطابع يجد فيه معاني الحب تتأصل في نفوس المستمعين لتصبح مذاهب حب. من يمتلك بصمة زكريا أحمد؟ سؤال حيّر كل معاصريه، وكل من تنافس معه، وفي النهاية تركوا للشيخ زكريا عالمه… عالم ليس فيه سواه، فذهب الكبار الآخرون إلى تحقيق عوالمهم بعيدا عنه، وتركوا صانع تراثنا اليوم يصول بالثراء الذي يملكه وببصمة شرقية استحالت على المحو وعلى التكرار.

من يستطيع أن يلحن «حلم» كما لحنها زكريا، ومن يستطيع أن يجسد «الآهات» كما جسدها فينا قبل أن يجسدها في النص، ومن يستطيع أن يستقبل «العيد» من دون زكريا؟ ومن يستطيع أن يقرأ تاريخ أم كلثوم قبل جسر زكريا أحمد الذي شيّده بالأدوار والأغاني والطقاطيق وأغاني الأفلام «اللي حبك يا هناه» ، «أهل الهوى»، «الأمل»، «أنا في انتظارك»، «كل الأحبة اتنين»، «هو صحيح الهوا غلاب» ، «غنيلي شوي شوي»، «الورد جميل»، «عن العشاق سألوني»، «الليلة عيد»، «حبيبي يسعد أوقاته» ووووو… حتى تصل إلى 61 عملا لأم كلثوم فقط، فهل نستطيع أن نقرا أم كلثوم من دون هذا الإنجاز العظيم الذي مهدّ لكبار آخرين أمثال القصبجي والسنباطي وعبد الوهاب وسيد مكاوي والموجي والطويل وبليغ وآخرين.. الكل من دون استثناء وضع «نصب أذنيه» أعمال زكريا وكيف يمكن أن يجاريها أو يتميّز عنها.. الوقفة مع زكريا أحمد لا تكفيها سطور ولا كتب، فهي وقفة مع عملاق أثرى المكتبة الموسيقية العربية.. هنا مقدمة لكلام كثير نلتقي به في الأسبوع المقبل.

عن موقع جريدة القدس العربي الجديد

عن موقع جريدة القدس العربي

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf



 مقام الحب وآهات زكريا أحمد 2


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السابعة والعشرون - العدد 8161 الجمعة 10 تموز (يوليو) 2015 - 23 رمضان 1436هـ
نصير شمه - كاتب وموسيقي عراقي


تواصلاً مع مقالي السابق عن الشيخ زكريا أحمد، الذي أرسى قواعد للعمل الغنائي العربي، من دون تنظير وفذلكة، بل إنجاز استثنائي في مسار الغناء عموماً. كان قارئاً للقرآن ثم منشداً ثم ملحناً عبقرياً، بعد نضوج واكتمال علومه ومعرفته بالمقامات الموسيقية.

عام 1919 انطلقت رحلته في التلحين عبر شيخين منحاه التزكية اللازمة وقدماه لشركة الأسطوانات. 1931 انطلقت حنجرة أم كلثوم بروائع زكريا أحمد «اللي حبك ياهناه «، «عادت ليالي الهنا»، « الورد جميل «، «غنيلي شوي شوي»، ثم حملت فترة الأربعينيات أجمل الأعمال الطويلة « أنا في أنتظارك»، «الأمل» و«حبيبي يسعد أوقاته»والتحفة الفنية «أهل الهوى».

منذُ زمن تأسيس الدولة العباسية في بغداد ولغاية يومنا هذا كانت الندرة في من يخلق أعمالاً يتداولها الناس لتصبح في ما بعد تراثاً حياً، وكلما تمّر السنين يزداد تجذراً. في تونس كان الجموسي وهادي الجويني، وهكذا لكل بلد تجد عدداً قليلاً يحمل هذِهِ المسؤولية، عراقياً كان شيخنا المُلا عثمان أحد أقطاب التلحين الذي صنع للشعب العراقي والأذن في العموم، أجمل الأعمال التي أصبحت تراثاً مهماً مثل، «فوك النخل»، «زوروا قبر النبي يونس»، التي أصبحت «زوروني»، «يابن الحمولة»، «أشقر بشامة»، «ربيتك زغيرون حسن»، وعشرات الأغاني الجميلة. ومصريًا شيخنا زكريا أحمد، ابدع للمناسبات المختلفة «صلاة الزين»، و»يا حلاوة الدنيا»، «الليلة عيد»، وأغنيات أخرى أصبحت جزءا من هويتنا كشرق. كنت منذُ مدة ادّرس في ورشة عمل لخمسة وعشرين عازفا وعازفة من محبي العود في جزيرة كريت في اليونان، على مدى سبعة أيام، وكان الطلبة ينتمون إلى جنسيات مختلفة، ليس بينها جنسية عربية، وحين أردت أن أزرع في مسامعهم ربع الصوت ومقاماتنا العربية، لم أجد في الدراسات والتمارين التي ألفتها أنا أو غيري لآلة العود ما يمكن أن يكون أساسا لسلالم موسيقانا العربية الخاصة بنا، مع أنني أملك من التحدي الكثير، لكنني أذعنت لقدرة الشيخ زكريا أحمد في تأسيس بناء المقام لدى المتعلم، بدأت بمقام الصبا ليحفظ الطلبة منه «هو صحيح الهوى غلاب»، وأخذت مقام السيكاه لنعزف منه «الورد جميل»، ثم أخذنا من مقام الزنجران «يا حلاوة الدنيا»، كأنني فتحت لهم خزائن الشرق المطرزة بربع التون الذي ميّز موسيقانا ورسم هويتنا، رغم ضيق أحادية الصوت استطاع الكبار أن يبدعوا أعمالاً سيخلد بعضها.

حين طلبت من طلبتي البحث عن الشيخ زكريا أحمد وكيفية كتابة اسمه باللغة الإنكليزية ليبحثوا عنه وعن أعماله التي تصل إلى أكثر من ألف لحن كلها في الغناء، ومنها 65 أوبريتاً، بلغتهم بأنه بذلك يعتبر الأغزر إنتاجاً ونوعاً للمسرح وللأغنية، علماً بأن معظم أعماله حققت نجاحاً وانتشاراً، وبذلك تأسس طريق المجد للأغنية ولزكريا أحمد.

حديثي عن الشيخ زكريا أحمد ليس من باب الاحتفاء برمز كبير من رموزنا فقط، بل من منطلق قناعات مبنية على منطق ودراسة لمنجزه الكبير، الذي لا يدانيه أحد في سجل ملحني الوطن العربي، كون إبداعاته لم تكن متأثرة على الإطلاق بأي ثقافات أخرى، ولا حتى المشايخ الذين تتلمذ على يدهم، ويلتقي في هذا المسار مع الموسيقار رياض السنباطي، المؤثر الوحيد كان البيئة العربية المتعددة الأديان، الشيخ زكريا بحث عن ضوء الشرق، والنور في القرآن، وفي العمارة والصوفية لدى الأقطاب، ومنها أسس قيمه الجديدة التي تعد نفائس في ذاكرة وسجل الشرق العربي.

أخاطبك حفيداً يحب فيك المستحيل الذي أنجزته مع شاعرك الأوحد بيرم التونسي، لم تتركا خاطرة في الغناء إلا وتحولت معكما الى قالب غنائي ساحر. كلما درست خطوط بصمتك يا شيخ الطرب أجد فيها البساطة المستحيلة. أكنت تعلم أن 6 يناير/كانون الثاني 1896 يوم صرخت أول صرخة خارج رحم الأم كانت جرس ميلاد مشروع لصانع تراث أمة، ومؤسسا لزمان لحني خرج من تحت عباءة الشيوخ لتصبح عباءته ظلاً وارفاً لكل من جاء بعدة.

لم أشأ أن أعدد أعمالك وأدوارك والطقاطيق والأعمال المسرحية، لأن هناك الكثير من الكتب تحمل إنجازاتك، أردت أن أخاطبك من مقام الحب، هذا المقـــام الذي كتبت فيه أروع ما قيل.

كن مطمئناً لخلودك ولأجيال قادمة، كلما تطوّر فن الغناء زاد اعتراف المعنيين والعارفين بقدرتك المتولدة من رحم النيل وواديهْ وثقافته. أنت شيخنا الأكثر شباباً… شيخنا الأكثر عمقاً وتجدداً.. لم تكن قريباً من شعر الفصحى.. لكنك أعطيت للعامية فصحى أخرى، بل استطعت أن تعممها ببساطة متفردة. كنت تتجول في شوارع القاهرة مفلساً ولكنك وفي الوقت نفسه تملأ الآذان غنى كبيراً.

كان صوتك أجشا وغير صالح للغناء، ولكن لم يختلف على حب صوتك اثنان، نجحت بطريقة تقطيعك الحروف وبالصدق الذي يقف وراء كل كلمة لحنتها وأديتها حتى كنّا نبحث عن الأغاني بصوتك لا بصوت أشهر وأجمل الأصوات التي غنت ألحانك.

لقد مرّ على رحيلك قرابة النصف قرن، ومازالت الآهة تحبس الآهة في صدورنا… مازلنا نتوه في سجالاتكما أنت وبيرم التونسي ابن الأرض الآخر، لكما أم واحدة هي الأرض…. وكان عطاؤكما نهراً ذا بريق لا يخبو…

نهر يجرفنا بطهر نقائه وبشدة ارتباطه بالوجوه السمراء والسنابل المذهبة.

عن موقع جريدة القدس العربي الجديد

عن موقع جريدة القدس العربي

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عن الصورة المرفقة بهذا المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)