رحلة اكتشاف الموسيقى

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السابعة والعشرون - العدد 8147 الجمعة 26 حزيران (يونيو) 2015 - 9 رمضان 1436هـ
نصير شمه - كاتب وموسيقي عراقي


كيف بدأت رحلة اكتشاف الآلة الموسيقية؟ كيف تطورت؟ كيف تعددت وصارت كأنها هوية للشعوب؟ من له الفضل في ذلك؟ وما مراحل تطورها؟ ما السبب الذي دفع الإنسان الأول لابتكارها؟ البدايات في كل شيء صعبة، ولادة الفكرة، البحث عن تنفيذها ثم الاستفادة منها، خصوصاً عندما تكون أولى أو بداية.

إن سعي الإنسان لم يتوقف أبداً في البحث عن سُبل تطوير حياته وأدواته حتى عندما كانت تسمى حياة بدائية، كان للابتكار دور مهم في إرساء دعائم ما تلاه من تطوّر، بأساليب الدفاع عن بقائه، والبحث عن قوته اليومي وأدوات الصيد.

وعندما جّهز نفسه للحياة شعر بالحاجة إلى شيء ينقصه، ويؤرق تفكيره، وسرعان ما وجد ذلك عند الطيور والحيوانات التي بدأ بتقليدها، ليكتشف أن في داخله أدوات لم يعلمه أحد كيف يستخدمها، منها الحنجرة البشرية التي تُعد أول آلة موسيقية عرفها الإنسان، وتعلم كيف يترنم ببعض الحروف لتشكيل كلمات تفي باحتياجاته، وفي الغالب تعلّم النطق تقليداً للحيوانات والطيور، وبدأ بتطوير أدائه بأصوات مختلفة ولوظائف حياتية متنوعة، مثل الاستعداد لفريسة قادمة أثناء الصيد، أو خطر مقبل، أو حالة تأهب وغيرها.

ثم بدأت الحياة تتطور عند الإنسان الأول وتتعدد لتشمل وظائف جديدة كان لابد أن يبحث عن أدوات أخرى تعطيه أصواتا متنوعة، وبما أن حياته بسيطة وبدائية فكانت البيئة تفرض عليه أدوات محدودة، مثل الحجارة والأخشاب الجافة ليضرب بعضها ببعض بشكل منتظم ليحصل على أصوات أخرى تشبه إلى حد ما ضربات القلب المتوازنة المنتظمة، ثم الجلود التي اكتشف أنها عندما تشد تؤدي غرضاً آخر يحتاجها، وسميت في ما بعد كل هذِهِ الأدوات (المصوتة بذاتها)، وبتعلم الإنسان، الأيقاع نظم مشيته وأصبحت الطبول البدائية بمثابة لغة في ما بينهم.

إذن تنبه الإنسان إلى أهمية الصوت، حنجرته معه وإذا ضرب قدميه بالأرض يخرج صوت، وإذا استخدم كفيه وضرب بعضهما ببعض تعطيه صوتاً مختلفاً عن ضرب كفيه على ساقيه، وهكذا بدأت لذة الاكتشاف، حتى أصبح على يقين بأن الأصوات حاجة ضرورية، ومن هنا بدأت رحلة الاكتشاف والتطّور.

الموسيقى لم تأت صدفة، ولم تنّزل على الإنسان، بل كانت متطلبا حياتيا وإنسانيا ومساحة للتعبير، الإنسان بأمس الحاجة لها.

الطفل بغريزته كان مكتشفاً، كل ما تقع عليه يداه إما يصل لفمه، أو يضرب به على شيء آخر يدركه ويشّد اهتمامه، وسرعان ما تكبر معه حتى تجده يملأ المنزل ضجيجاً.

وفي العام التالي للطفل يبتكر بسهولة آلة إيقاعية من أي مادة تحيط به.

لقد استخدم الإنسان البدائي جميع المواد الطبيعية التي منحتها له البيئة ليجعل منها ما يسمى (بالمصفقات) وهي إما تكون قطعتين من الخشب أو الأعواد الجافة أو ساقين من العظام، أو قطعة من الحجر مع خشبة، أو عظما مع حجر، وتخرج من هذِهِ الأدوات البسيطة ألوان متعددة من الأصوات تلونها بأشكال مختلفة.

في مراحل تقدم الإنسان وزيادة خبرته المكتسبة بدأ يتفنن في تجميل أدواته وينحت بنفسه الأحجام التي يحتاجها وينقش عليها أشكالاً متعددة تعطيه درجات صوتية جديدة، شيئاً فشيئاً، حينها صار يرتب أدواته، وينسق أصواتها ويرصها على الأرض أو يربطها لتكون معلقة في غصن شجرة أو جدار كهف، ليصنع بذلك الآلة الموسيقية الأولى بشكل منظم، وتلك الآلات موجودة اليوم في شكلها البسيط في أواسط أفريقيا وحوض الأمازون وجنوب شرق آسيا، تحت أسماء عدة وأشكال متباينة، تتفق جميعها في الفكرة الأساسية وموجودة للاستعمال، ومن هذِهِ الأدوات السهلة الصنع، تطورت صناعة الآلات الموسيقية مثل الأكسيلفون والميتالوفون، والكثير غيرها، هذه الأدوات وصلت إلينا من الإنسان القديم وتطورت لتصبح موجودة وفاعلة حتى يومنا هذا، وعندما اكتشف الإنسان أنه قادر على أن يصنع من جلود الحيوانات التي يصطادها ويشدها على جذع شجرة مفّرغ ويخرج منها أصواتاً متباينة، شعر بأهمية الصوت الصادر منها، خصوصاً عندما تختلف أحجامها، حتى صار يتعمد تخصيص كل صوت لوظيفة محددة لتصبح إشارات يفهمها العامة ويتفق عليها القوم، سرعان ما أصبحت لغة تترجم انفعالاته وتحذيره للآخرين عند الخطر، وابتهاجه في حالات الفرح وكذلك الحداد.

تكاد تكون رحلة الموسيقى تختزل رحلة الحياة بأكملها وشاهدة على مراحل تطورها، مثلاً عندما اكتشف الإنسان البناء والقصور والألوان والملابس لم تبق الموسيقى كما كانت قبل ذلك، بل ربما أصبحت عنواناً لهذا التطور.

وفي الحضارات القديمة بابل، أور، أشور، أكد، الحضر ونمرود (بلاد بين النهرين) وحضارة وادي النيل، الموسيقى أخذت أبعاداً روحية وكانت حكراً لعقود طويلة على رجال الدين في المعبد البابلي وبقية المعابد، وكذلك تشد من عزم الجنود أثناء المعارك.

ولكل مناسبة موسيقاها وآلاتها الخاصة، مثلاً الطبول الكبيرة وآلات النفخ التي صنّعت من قرون الحيوانات الكبيرة أو عظام مفرغة، كانت في الحروب أو للتنبيه، والآلات الوترية كانت للعبادة مع الناي والدف الكبير، أي تصنيف الصوت وما يحدثه على الإنسان عُرف من عدة آلاف من السنين.

عن موقع جريدة القدس العربي الجديد

عن موقع جريدة القدس العربي

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)