جريدة القدس العربي
السنة السادسة والعشرون ـ العدد 8047 الأربعاء 18 آذار (مارس) ـ 27 جمادي الأول 1436هـ
عبدالله المدني - كاتب وباحث وروائي بحريني
المعروف أن البحرين كان لها قصب السبق في احتضان أول دار للعرض السينمائي في منطقة الخليج العربي بأسرها، شأنها في ذلك شأن أسبقيتها في الكثير من الميادين مثل، التعليم والغناء والإذاعة والصحافة والطباعة والبريد والمواصلات الجوية والخدمات الصحية، وذلك على الرغم من اعتراض بعض المتشددين من أبنائها على فكرة السينما في بداية الأمر، بدعوى تعلق الأطفال بها واحتمال إقدامهم على السرقة لتوفير قيمة تذكرة الدخول. وهكذا ظهرت في البحرين في عام 1922 أول صالة للعرض السينمائي، وكانت عبارة عن كوخ صغير بناه أحد هواة السينما وهو محمود الساعاتي في المنامة، ووضع فيه ثلاثين كرسيا ولوحة بيضاء لتقوم مقام شاشة العرض، وحدد سعر تذكرة الدخول لمشاهدة الفيلم لمرة واحدة بـ»آنتين» فقط. وكانت هذه الصالة البدائية تقع على ساحل البحر في منطقة تنتشر فيها المقاهي الشعبية المبنية من سعف النخيل، ويتردد عليها الناس بكثرة.
نجاح هذه الصالة المتواضعة كان دافعا لآخرين للإقدام على مثل هذه التجربة، خصوصا منذ عقد الثلاثينات وما تلاه حينما انحسرت الأمية، وانتشرت الأندية الثقافية، وزاد الاتصال بالعالم الخارجي، وتنامى حب الاستطلاع ومعرفة مظاهر الحياة في الخارج. وعليه تعاونت مجموعة من الشباب البحريني العاشق للفن السابع (كان بينهم علي بن عيسى آل خليفة وعبدالله الزايد وحسين يتيم) مع «شركة بن هجرس» في عام 1937 لتأسيس أول صالة للسينما بالمواصفات الحديثة النسبية، وأطلقوا عليها اسم «مرسح البحرين» جالبين لها الأفلام من مصر تحديدا. وكان أول فيلم عــُرض فيها هو فيلم «وداد» من إنتاج عام 1936 ومن بطولة أم كلثوم وأحمد علام ومحمود المليجي وكوكا، علما بأن قيمة التذكرة للدرجات الثلاث كانت روبية واحدة، 12 آنة، و6 آنات على التوالي.
بقيت سينما «مرسح البحرين» هي الوحيدة في البلاد حتى سنوات الحرب العالمية الثانية، التي فرضت أحداثها على السلطات البريطانية في البحرين جلب سينما متنقلة تعرض للجمهور آخر أنباء المعارك بين الحلفاء ودول المحور مع تطعيمها ببعض أفلام الكارتون شحذا لحضورهم مع أطفالهم.
بعد ذلك أسس إبراهيم محمد الزياني سينما «الأهلي» في منطقة القضيبية، فعــُرفت شعبيا باسم سينما «الزياني» وتخصصت في عرض الأفلام العربية التاريخية مثل «عنتر وعبلة»، و»ظهور الإسلام»، و»وإسلاماه»، ثم كرت السبحة في الأربعينات والخمسينات والستينات بظهور العديد من دور السينما في المنامة والمحرق ومدينة عيسى ابتداء بسينما «القصيبي» في المنامة لصاحبها محمد القصيبي، التي افتتحت في 1941 واشتهرت بعرض الأفلام الهندية وأفلام طرزان ورعاة البقر (تغير اسمها إلى سينما اللؤلؤ بعد أن اشتراها تاجر كويتي في أوائل الخمسينات)، فسينما المحرق لصاحبها محمد القصيبي، التي افتتحت عام 1955 وتخصصت في عرض أفلام فريد الأطرش الاستعراضية (انتقلت ملكيتها في عام 1957 إلى عبدالرحمن راشد بستكي)، فسينما «الزبارة» التي بناها الشيخ علي بن أحمد آل خليفة قبل أن يبيعها إلى عبدالرحمن العلوي الذي يــُعزى إليه الفضل في انتشار دور السينما الأخرى مثل الحمراء (المعروف شعبيا باسم سينما بن هجرس) والنصر والبحرين وأوال والجزيرة.
وموجز القول إنه منذ الخمسينات وحتى أواسط السبعينات كانت صالات السينما المذكورة آنفا، إضافة إلى سينما الأندلس في مدينة عيسى، هي مقصد الباحثين عن المتعة والتسلية البريئة، ولاسيما منْ كان يمتلك منهم حسا مرهفا وذائقة فنية.
لم تكن دور السينما في الماضي فسيحة ونظيفة ومعطرة ومكيفة وهادئة وذات مقاعد وثيرة، كما نجدها في صالات هذه الايام داخل المجمعات التجارية الكبرى، بل العكس هو الصحيح، فقد كانت ضيقة وغير مكيفة وتكاد تخلو من دورات المياه، وكانت مقاعدها خشبية «تكسر الظهر»، وروائح جمهورها يزكم الأنوف. كما لم تكن تتقدمها محلات أنيقة تبيع ما لذ وطاب من فطائر وعصائر ومأكولات، ناهيك عن أن ثقافة ارتياد السينما وسلوكياتها، كالإنصات بصمت وبدون تعليق أو ثرثرة، كانت مفقودة، إلى درجة أنه لم يكن يمر عرض سينمائي بدون حدوث مصادمات يدوية أو لفظية بين الحضور، أو بدون صفير وصراخ احتجاجا على لقطة أو حركة من ممثل غير مرغوب فيه.
أضف إلى ذلك أنه، وبسبب من محدودية وسائل الإعلام وقلة عدد صفحات الجرائد، لم تكن الدعاية للفيلم المعروض في دور السينما متاحة بالوسائل التي نعرفها اليوم. فكان العلاج هو لجوء أصحاب دور العرض إلى استئجار بعض الصبية والعمال للترويج للفيلم، عبر لصق إعلاناتها على جدران البيوت والفرجان، أو لصقها على ظهورهم والسير بها في طرقات الأحياء التي كانت تحتضن الكثير من العمالة الآسيوية ومن الأشقاء العمانيين، أو عبر حمل تلك الإعلانات على لوحات والترويج للفيلم شفويا، أمام فرضة المنامة أثناء وصول الأشقاء العمانيين بالمراكب إلى البحرين. وكانت الدعاية الشفوية عادة ما تأخذ الصيغة التالية: «السينما الفلانية تعرض الفيلم الفلاني من بطولة الممثل الفلاني.. لا يفوتكم.. العرض يبدأ الساعة كذا.. الكراسي محدودة».
ويتذكر من عاصر تلك الحقبة أن المــُروّج لفيلم «عنتر وعبلة»، الذي تماهى معه الكثيرون من محبي الأكشن والقتال بالسيوف، كان يصرخ قائلا: «تعالوا شوفوا عنتر الليلة.. عنتر صار أقوى من البارحة.. وسيفه صار أطول.. وحبيبته صارت أجمل». والغريب أن مثل هذه الإدعاءات والمزاعم كانت تنطلي على الكثيرين، فيصدقونها، ويذهبون لمشاهدة فيلم سبق أن شاهدوه من أجل اكتشاف الفرق المزعوم، ثم ليخرجوا من الصالة معلنين أن عنترة كان بالفعل أقوى من المرة السابقة، وأنه قتل بسيفه الجديد عددا أكبر من خصومه عن ذي قبل، وأن عبلة كانت بالفعل أجمل وإنْ كان وزنها قد زاد قليلا.
وفي اعتقادي أن ظاهرة الإعلان الشفوي بالصورة التي أتينا على ذكرها انتقلت إلى البحرين من العراق، حيث يقول بعض المرويات أن ذلك كان يحدث على نطاق واسع في أحياء بغداد والبصرة وكركوك والموصل، وكان الناس يستجيبون له، خصوصا إذا ما كان المعروض فيلما مصريا من أفلام ثنائيات الخير والشر، من تلك التي برع فيها الراحلان فريد شوقي ومحمود المليجي مع زوجة الأول هدى سلطان، حيث كانت الدعايات الشفوية تنسج الكثير من «الأكاذيب» حول هذه الأفلام ترغيبا للجمهور لحضورها. من ذلك الادعاء مثلا بأن فريد شوقي سوف يسدد 1000 لكمة للمليجي في فيلم الليلة، وهذا، إنْ صح، فمعناه أن كل دقيقة في الفيلم يوجد فيه أكثر من 100 لكمة على اعتبار أن مدة الفيلم 90 دقيقة. وطبقا للمرويات العراقية حول السينما فإن الإعلانات الشفوية ظلت موجودة طويلا حتى بعد تطور الصحافة وقيامها بالإعلان عن الأفلام المعروضة في دور السينما، إلى أن اختفت تماما بحلول 1959 وهو العام الذي حظر فيه الزعيم عبدالكريم قاسم عرض الأفلام المصرية في أنحاء الجمهورية العراقية كافة بسبب خلافاته السياسية مع النظام الناصري.
وثنائيات الخير والشر التي تحدثنا عنها كانت تستقطب الجمهور في البحرين أيضا وبكثافة، بل كان الحضور يتعاطف مع طرفها الخيــّر بالتصفيق ومع طرفها الشرير بالتصفير بمجرد ظهورهما على الشاشة، أو بتحذير الطرف الأول من الطرف الثاني قبل أنْ يباغته بضربة من الخلف، ويظل كذلك طوال زمن الفيلم وسط حماس وترقب رغم علمه المسبق بأن سيناريو الفيلم معد بصورة يجعل الخير ينتصر على الشر في النهاية. وطالما أتينا على ذكر التصفير كصور من صور الاحتجاج والازدراء والاعتراض، فإني أتذكر أن الكثيرين من محبي الموسيقار فريد الأطرش كانوا يتعمدون حضور أفلام منافسه عبدالحليم حافظ في دور العرض بالمنامة كي يـُفسدوا على أنصار الأخير مشاهدة العرض بالتصفير الذي عادة ما كان يؤدي إلى خلافات وتبادل الضرب بقناني المرطبات الفارغة، وتكسير المقاعد وتلطيخ شاشة العرض.
وهذه الظاهرة غير الحضارية لم تكن مقتصرة على البحرين، فبسبب قلة الوعي وعدم تغليظ العقوبة اضطرت شركة السينما الكويتية في 1957 إلى إغلاق أول دار عرض سينمائي أقامته في الكويت في 1954وهي «سينما الشرقية» إلى الأبد، وذلك على إثر أعمال شغب وتكسير وتقاذف بزجاجات المرطبات داخل صالة العرض، لأن الجمهور لم يعجبه الفيلم المعروض، وكان فيلما هنديا بعنوان «من أجل أبنائي».
في بدايات ظهور دور السينما في البحرين، كان الاتجاه السائد لدى البالغين هو حضور أفلام «الأكشن» العربية والأمريكية والهندية، حبا في مشاهدة المغامرات العنيفة والصراعات المثيرة التي تحبس الأنفاس، فكانوا مثلا يحرصون على ملاحقة أفلام طرزان وهرقل، لأن الأخيرين كانا يجسدان صورة البطل الأسطوري الذي لايـُقهر ويستطيع مواجهة خصومه – مهما كثر عددهم بضربات ساحقة ماحقة بواسطة عضلاته وجسمه العاري. والمضحك في هذا السياق أن بعض المغرمين بأفلام كهذه كان يسافر في إجازته إلى شيراز (عبر مطار الظهران، حيث لم تكن هناك رحلات جوية مباشرة بين البحرين وإيران وقتذاك بسبب ادعاءات إيران الباطلة بالسيادة على أرخبيل البحرين) ويشاهد هناك أفلام هرقل وطرزان مدبلجة إلى اللغة الفارسية، ثم يعود إلى البحرين لينشر بين معارفه البسطاء أنّ هرقل وطرزان من أصول فارسية، لأنه سمعهما وهما يتحدثان الفارسية بطلاقة، بل كان يمضي أكثر من ذلك ليؤكد أنهما من المذهب الجعفري أيضا، لأنهما لم يكونا يحركان صخرة أو جبلا إلا وهما يصرخان قائلين: «يا حسين» أو «يا علي» أو «يا أبا الفضل»!
وكان الشيء ذاته، أي ملاحقة أفلام «الأكشن» والمغامرات، سائدة في صفوفنا أيضا حينما كنا صغارا، لا نملك الذائقة الفنية، ولا ثقافة اختيار الأفلام وتقييمها، حيث كان المعيار الذي نبني عليه ذهابنا إلى فيلم ما من عدمه، بدراهمنا القليلة التي كنا نقتصدها بشق الأنفس من مصروفنا المدرسي المتواضع، هو عدد المعارك في الفيلم الواحد. ولهذا الغرض كنا نقف عند دور العرض لحظة خروج المشاهدين منها لنسألهم: كيف كان الفيلم؟.. كم معركة كانت فيه؟ فإذا كان الجواب أقل من عشر معارك، تركنا تلك السينما ورحنا نفتش عن سينما أخرى تعرض فيلما فيه 20 أو 30 معركة، وهكذا.
في مرحلة لاحقة، حينما تقدم بنا العمر قليلا وأصبحنا مراهقين بشوارب مخطوطة، تحول اهتمامنا إلى الفيلم العاطفي والرومانسي، وبالتالي صارت وجهتنا هي سينما البحرين التي اشتهرت بعرضها لأحدث الأفلام المصرية لعبدالحليم حافظ وكمال الشناوي ورشدي أباظة وأحمد رمزي وعمر الشريف وشكري سرحان ومحرم فؤاد مع زميلاتهم من نجمات السينما المصرية في عصرها الذهبي. كان معظم قصص تلك الأفلام مكررة وعبارة عن توليفات درامية ساذجة بمقاييس اليوم، لكننا كنا نحرص على مشاهدتها حتى آخر ثانية من العرض، على الرغم من علمنا المسبق بما سوف تكون عليه النهاية. فمثلا حينما كان سراج منير يغضب على ابنه قائلا: «الزواجة دي مش حتـّم»، فإننا كنا نعلم مسبقا أنها ستتم رغما عن أنفه. وحينما كان زكي رستم يقسم غاضبا أنه سيحرم ابنه من الميراث إنْ أقدم على الزواج من راقصة أو مطربة، فإننا كنا نعلم أن قلبه سيرق بمجرد رؤية أحفاده. وحينما كنا نشاهد زكي إبراهيم متمددا على سرير المرض وبجانبه عبدالعظيم كامل الممثل الأصلع الذي تخصص في أدوار الطبيب الذي يـُستدعى إلى المنزل فيأتي بشنطته ويقيس الحرارة ويكتب الروشتة، فإننا كنا نعرف مسبقا أنه سيموت، لكن بعد أن يتلفظ بوصيته الأخيرة كاملة. وحينما كنا نشاهد إسماعيل ياسين وعبدالسلام النابلسي يتعاركان ويدبر كل منهما المكائد للآخر من أجل الفوز بقلب البطلة، فإننا كنا نعرف مسبقا أن الأمر سوف يحسم لصالح العبيط إسماعيل على حساب المكابر عبدالسلام صاحب النفخة الكذابة.
المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf
صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.