في عرضه ضمن مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية

“يوميات نائب في الأرياف” يثبت من جديد أنه فيلم يتحدث المصرية بطلاقة

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


السنة الخامسة والعشرون ـ العدد 7699 الثلاثاء 25 آذار (مارس) - 24 جمادي الأولى 1435 هـ
جريدة القدس العربي
إسراء إمام، ناقدة مصرية


من المبادرات الذكية التي قام بها مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الثالثة، أنه قام بعرض فيلم ‘يوميات نائب في الأرياف’، هذا الفيلم الذي أبدع المخرج توفيق صالح في صناعته، ابداع يتجلى في كل تفصيلة تتخلله.

ففي كل مشهد ينتابنا شعور وكأننا أمام حالة مستقلة تستحق الدراسة، قطعة من مصر، صورة من الشعب، وصفحة من وجه النيل، إنه الفيلم الأمثل للعرض في مهرجان مصري يقام بالأقصر، يحمل ملامح أساسية لهذه الدولة، يشرحها ويُنسل من لحمها، وينخر في العظام الذي يطوقها صدأ، مازال يُراكم إلى الآن المزيد من طبقاته، إنها الحالة الاجتماعية والسياسية المنفصلة المتصلة، والتي يصعب التعبير عنها في العادة، ولكن هذا الفيلم يأتي ليُفصح عن خلفية مديدة من العمل والجهد التي يمكن الدأب عليها للقيام بإنتاج فيلم، سواء على مستوى السيناريو أو الصورة، يأتي ‘يوميات نائب في الأرياف’ بعد كل هذه السنوات، ليبرهن أن صناعة السينما لا ترتبط فاعلية جمالها بزمن، إنه الفيلم الذي يتحدث المصرية بطلاقة على مر العصور، إنه الفيلم الذي يُقدم عزاءات كُثر لمن يبذل جل ما في وسعه، ليترك من خلفه فيلما يشي بكل لحظة ارتباك، ابتكار، تفكر، خوف، تأمل والكثير والكثير غيرها من المشاعر التي تفلح في التقاط مشهد صاخب من فرط الجمال عن هذا البلد ومكامن خيباته، وحسراته، وإخفاقاته، والابتسامة التي تفرض سطوتها على تكوينه رغم كل شيء في النهاية.

بين الرواية والفيلم

أجمل وأهم ما يميز هذا الفيلم بخصوص ارتباطه وقيامه على الرواية التي كتبها توفيق الحكيم بنفس الاسم، نقطتان، الأولى منهما خاصة باختياره لهذه الرواية بالذات، والتي تنتمي إلى نوع من السرد، يحتاج إلى منهج آخر في القراءة، وبالتالي منهج مماثل في تناوله على هيئة سيناريو سينمائي، يُصبح في النهاية مادة فيلمية لها رواج شعبي على مستوى واسع. معضلة صعبة، اختار صناع الفيلم خوضها، وتحقيق أعلى درجات النجاح فيها، أما النقطة الأخرى هي قدرة هذا الفيلم ـ رغم اعتماده على أساسيات الرواية شكليا_ أن يكون ذاته، ويحمل خصوصية مميزة جدا لا تتلاقى مع الرواية روحانيا، هو نسخة ليست طبق الأصل على الرغم من أنها التزمت بخيوط الرواية وقلب مضمونها.

رواية الحكيم، رحلة، غير معلومة البداية والنهاية، نظرة خاصة لمصر بعين أديب محنك، غزل مشاهده بإصبع من ذهب، حَمّل سطوره، مشاعر متناقضة ومرتبكة، وحالة إنسانية خبيثة، خبيثة جدا، تفضح وتعري وتصدم، بنبرة هادئة، وهكذا كان الفيلم أيضا، ولكن على طريقته، وببصمته الخاصة.

سيناريو الفيلم

النائب الذي يحيا في الريف، يتعلق بوريقاته، ويكتفي بتأمل كل شيء، محتفظا بملاحظاته لنفسه. كيف إذا يتم صياغة هذا العالم الذي يحياه، بأي وسيلة يمكن التعبير عنه.

السيناريو هنا، إختار بكل بساطة أن يتناول كل شيء في تأن شديد، فمن البداية نشعر بأنه تمهل على الحادثة التي تجر قدم هذا الرجل، للإفصاح عن ما يجيش به صدره بشكل أكثر صراحة صوب كل شيء، إنها القضية التي تظهر فيها هذه الفتاة الجميلة التي ينسحر بها الجميع، وتجعل البطل يركض وراءها ليبحث عن جزء من نفسه قد فقده منذ زمن في غمار هذه الحياة الصماء التي التفته في الريف، فبين كل خطوة وأخرى من روتين يومه، تبدأ مقارنه جديدة، بين لحظاته الباهتة فيما مضى وبين وقته الذي أصبح ثمينا الآن لمجاراة قضية هذه الفتاة، ومصادفة وجهها، والتمتع بالقرب من حضورها اللامع الذي ينفي عن كل ما حوله الجمود.
أجاد السيناريو استغلال هذه القضية في ابراز الخط الدرامي الموازي لحياة هذا النائب، والتي تُمثل طبيعة الريف، كل شيء تم تضمينه، بداية من الحالة العامة التي تميز هذه القرية الصغيرة، ومرورا بشل يد سُلطة الحكومة المٌطلقة فيها ـ والتي تتبدى في وقت الانتخابات ـ نفس الفلاح البسيط ومفاهيمه المُلتبسة، ونهاية بالإشكالية الشهيرة بين أفضلية ومعنى العدالة والقانون.

إذا نجد هنا جريمة قتل، وأجواء ريفية تم نقلها بتفصيليةـ هزلية وجدية في الوقت ذاته ـ ، ومناظرة قوية بين مفاهيم وترسبات فكرية، ماذا تبقى لكي يتحول أي فيلم يجرؤ على مقاربة مثل هذه التركيبة لكي يتحول إلى مادة فيلمية مرتبكة ومثقلة عن الحد؟، وهذه هي نقطة القوة التي سيظل الفيلم مُتسما بها، وهي نجاحه في ولادة كل مشهد، وكأنه فيلم بذاته، فنلمس الإعداد له على مستوى الكتابة والتكوين المصور، وعلى صعيد الفكرة المُنتقاة والمراد توصيلها.

هذا السناريو الذكي، الذي وُفق في توظيف كل لحظة بموضعها الصحيح، لحظات الهدوء، ونظيراتها العاصفة، لحظات المشاعر العاطفية والإنسانية، الطرح السياسي وعلاقته الوثيقة في تحريك كل ما يحدث في البلدة، ولحظات الفوضوية التي تدفع للضحكة، ومثيلتها التي تحض على الشجن. وحتى لحظات غناء الشيخ عصفور_المجذوب الذي يجوب البلدة من دون عمل_ والتي كانت تعكس خلفية دسمة وخبيثة لكل ما يحدث.

الصورة

كما تبدي التمهل والمجهود المبذول في الخلفية من خلال الكتابة، تبدي أيضا في كل مشهد من خلال الصورة، توفيق صالح من المخرجين التي تتعامل مع الكاميرا بطريقة منتعشة وبانورامية، فحركة الكاميرا في أغلب المشاهد كانت متصلة، ما بين التنقل في لقطة واحدة على مدار المكان الواحد، لا تلجأ للقطع إلا قليل القليل وتبعا للضروريات..

إضافة إلى ساعات الجدار التي وضعت دوما بشكل مبروز بين الممثلين في لقطات كثيرة، وكأنها تدلل على هذا الزمن الرتيب الذي يجمع بينهما في الريف، على مبعدة من كل شيء حتى أنفسهم.

أيضا تكوين المشاهد الذي يتبدى فيه دوما النائب في موضع فخم، يصبغ عليه أهمية تميزه عن الآخرين، فهو منبت كل شيء، وإنه على الرغم من اختلافه الطفيف مع البعض منهم، واختلافه الصميم مع المأمور بالذات، يظل مصدر الهيبة التي تحكم زمامهم، يحتمون بها رغما عن أنفوهم، ويهابونها بالفطرة، نظرا لما تحمله شخصيته ذاتها من جاذبية، إضافة إلى طبيعة مهنته.

اختيار الممثلين

اختيار الفتاة ريم، كان الأكثر توفيقا في هذا الفيلم، ومن بعده توفيق الدقن في دور المأمور، أما دور النائب والذي أداه ‘أحمد عبد العليم’ فكان بحاجة لإعادة نظر، وترو في العثور على ممثل بديل ملامحه أكثر حيوية مع الاحتفاظ بتلك السمة الجدية التي يجيد النائب رسمها عن نفسه.

ـ يوميات نائب في الأرياف … (الرواية والفيلم)، حالة ناطقة ستظل محملة بأوجاع مصر وابتساماتها على نفس الدرجة من الطزاجة والفصاحة.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)