وباء يوسف الشاروني

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 29-04-2020
المدن - ثقافة
محمد حجيري - رئيس القسم الثقافي في “المدن”


"وباء" يوسف الشاروني : حينما عدَل المثقفون عن رغبتهم بالمَوت


الشاروني الذي همّشه يوسف ادريس


العام 2006 نشر القاص المصري، يوسف الشاروني، مقالة بعنوان “من الكوليرا إلى انفلونزا الطيور”(*)، روى فيه بدايته في الكتابة القصصية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان القالب الأدبي السائد هو ما يطلق عليه “القالب التقليديّ”، وهو القالب الذي يتّسم أساساً بمتابعة الأحداث منطقياً وفي تسلسلها الزمني. وكانت المدرسة الأدبية المتمردة على ذلك القالب (التقليدي) هو ما عرف باسم “الواقعية النقدية”، وهي مدرسة تلتزم بما يسميه الشاروني “قواعد المنظور، اي احترام النسب الموجودة بين المسافات والمساحات في العالم الخارجي”.

من هنا بدأ الشاروني، الذي كتب ومزق الكثير من القصص قبل أن ينشر، يكتشف أنه لا ينتمي لا الى المدرسة التقليدية ولا الواقعية المتمردة، وسلك طريقاً مرّة قيل إن سرديته مكانية كاموية (نسبة الى البير كامو)، ومرة قيل إن مناخه كافكاوي كابوسوي (نسبة الى فرانز كافكا)، يكتب عن أزمة الانسان المعاصر، يتجاوز ظاهر الأشياء الى جوهرها، وليس له موقف سياسي مباشر، على عكس منافسه يوسف ادريس الذي ركّز على إسقاط الحالة السياسية على نتاجه، وأتت الظروف الاجتماعية والسياسية والنقدية والإيديولوجية لمصلحته، بينما انزوى وتهمّش التيار الذي أطلق عليه النقاد في ما بعد “التيار التعبيري”، والذي حاول الشاروني أن يشقّه، بحيث بدا كأنما يكاد يكون “رؤية فردية من جهة الكتّاب، ويكون غير مقبول من عامة القراء”... حتى وقعت حرب حزيران 1967، ونتيجة لما أحدثته هذه الحرب من صدمة لدى الأدباء العرب، فإن الأدباء المصريين الشبان تنبهوا إلى هذا التيار الذي كان الشاروني بدأه قبل عشرين عاماً.

في لبنان، قال الشاعر والناقد، عبده وازن، أن الجيل الجديد انتبه إلى الشاروني في الثمانينات عندما نشر رياض نجيب الريس قصته “من تاريخ حياة مؤخرة”، في العدد الأول من مجلة “الناقد” العام 1988، إذ كتب عن “العجيزة” والتبرّز في إطار تهكمي، متطرقاً إلى آفة الروتين في الدوائر الرسمية حيث تستعمل أوراق الملفات القديمة المحفوظة بدلاً من الورق الصحي... مع التذكير بأن الشاروني، في نهاية الأربعينات وطوال الخمسينات كان ينشر في مجلتي “الأديب” و"الآداب" وغيرهما...

لن نعود الآن بالتفصيل إلى تجربة الشاروني الطويلة، واعتبار أن طغيان اسم القاص يوسف إدريس، ظلَمه. هذا الشعور تجلى، بحسب النقاد، عندما امتدح طه حسين، مجموعة إدريس القصصية الأولى “أرخص الليالى” الصادرة العام 1954، ورحب بها، مغفِلاً مجموعة الشاروني الأولى “العشاق الخمسة”، وهذا كرّس ادريس، و"أقصى" الشاروني إلى الهامش لسنوات. ليس الهدف الآن إعادة تقييم تلك التيارات الأدبية، بل التأمل قليلاً في قصة “الوباء” للشاروني (في زمن الكورونا)، والتي قال إنها “ربما تكون القصة الأولى”، وفي الواقع هي منشورة في مجلة “الأديب” اللبنانية، في 1 أكتوبر 1950، وسبقها نشر عشرات المقالات والقصص في المجلة نفسها ابتداء من العام 1947. ولا ندري إن كان الشاروني نشر القصة من قبل في مجلة مصرية.

المهم أن القصة عنوانها “الوباء”، وبطلها الوباء الذي كان واقعاً ورمزاً في القصة. الواقع هو الوباء الذي اجتاح مصر بعد الحرب العالمية الثانية(**)، والرمز هو وباء الخلافات والحروب الذي ساد وقتئذ ولا يزال. ويشير الشاروني إلى أن في القصة خطَّين، خط طولي هو قصة الراوي مع الباغية “نعمات”، وعزمها على الذهاب إلى الحج لتكفّر عن حياتها الملوثة، ثم منعها بسبب انتشار الوباء، ثم تلتقي بالراوي من جديد. والخط الثاني عَرضِيّ، محلي وعالمي. أما المحلي فيتناول انعكاس الوباء المصري على مختلف الناس وفي مختلف القطاعات، فيما العالمي فيتناول إشارات سريعة الى ما يعانيه العالم من انقسام وخلافات أشبه بالوباء، يقول الراوي، وقد بدأ الأمر هكذا... “كان مندوبو هيئة الامم المتحدة يهاجمون بعضهم بعضاً، وفي باريس عقد أكبر مؤتمر دولي في تاريخ السحر، حيث اجتمع مندوبو أربع عشرة دولة نجحوا في خداع بعضهم بعضاً، فكان الماء يتحول الى خمر، وكانت تبدو في الهواء النقود والسجائر وكرات البلياردو وآلات الكمان، وكانت المناديل الحريرية تربط نفسها في عقد، بينما العصى السحرية تمر في الاجسام... وفجأة ظهر الوباء”.

يحاول الراوي مجابهة الوباء بالتهكم، من أول القصة حتى آخرها، وهذا أمر اعتدناه في قصص الشاروني، إذ يلجأ الى الضحك المبكي والقبح الجميل أو جمالية القبح. فبعد الوباء، “شهداء الرسالة الجديدة، بموتهم، حملوا الخلاص إلى بقية الشعب. ظلوا يتقيأون ويتبرزون برازاً أبيض كالأرز، حتى جفت أمعاؤهم وتثلجت اطرافهم”. مثل كورونا، عُطلت الحياة، “صدر أمر بإغلاق الأسواق، فحملت كل فلاحة دجاجاتها وشدّ الفلاحون رباط بهائمهم الهزيلة المعروضة للبيع وقفل الجميع الى قراهم وكف المثقفون عن جدالهم حول معنى الحياة، وعدلوا عن رغبتهم في الموت، وتملكهم تشبث مجنون بالأرض...”. ولا يلبث الوباء أن يصبح حدثاً تؤرَّخ الأحداث ابتداء منه. وقرب ختام القصة، يصبح قوة تخيف الأصحاء، ويبلغ التهكم المرير قمته عندما تقترح “نعمات” على الراوي أن يحتفل معه بعيد ميلاده، وهما في ما بشبه الحجر الصحي للاشتباه في إصابتهما بالوباء، وذلك بأن تدغدغه فيضحك. وتنتهي القصة بتلك الكلمات. ففي ذلك الوقت كان العالم “يستعد لحرب جديدة من غير أن يحاول التخلّص من آثار الحرب الأخيرة، كثير من المفكرين قد اقتنعوا بأن الحياة لا مغزى لها، وكان الفقراء والبغايا يزحمون العالم، بينما انتشر الوباء، يزحف وينتشر الموت والرعب بين الجماهير في كل مكان... وكان هذا سر قوتي، فلي القدرة أن أستمر في قهقهة عالية، ولي القدرة أن أصمت فجأة في أي وقت”.

(*) كُتبت ضمن سلسلة “العمل الأول” في مجلة “ضاد” المصرية.
(**) وباء ما بعد الحرب العالمية الثانية في مصر، ألهم أيضاً نازك الملائكة (1923-2007)، والتي اعتبرت قصائدها بداية “الشعر الحر”، وأشهر قصائدها (الكوليرا) تصوّر ظلال الموت والحزن والمعاناة التي حطمت مصر خلال الأشهر الأخيرة من العام 1947. كما جسّد المخرج يوسف شاهين انتشار وباء الكوليرا في العام 1947، في فيلمه “اليوم السادس”، الذي أنتجه وأخرجه وكتب له السيناريو والحوار عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة الفرنسية أندريه شديد.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)