هي والراهب، محمد الدعفيس (سورية)، رواية دار مدارك للنشر، دبي 2016، 169 صفحة

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8668 الثلاثاء 6 كانون الأول (ديسمبر) 2016 - 7 ربيع الأول 1438 هـ
عمان - موسى إبراهيم أبو رياش - كاتب أردني


الخيانة والخطيئة في رواية «هي والراهب» للسوري محمد الدعفيس


هي والراهب» رواية للسوري محمد تركي الدعفيس (دار مدارك للنشر، دبي 2016، 169 صفحة)، تتناول حكاية سراب الطالبة الجامعية، التي نشأت يتيمة فقيرة محرومة من أشياء كثيرة. تأسرها روايات الكاتب أحمد الصابر، الذي تربطه بوالدتها صلة قرابة، فتهيم مع مغامراته النسائية المتخيلة في رواياته، وتنجذب إليه وهو الكهل في عقده الخامس، بحثا عن أبوة فقدتها صغيرة، ومغامرة حية تعيشها معه كبطلة كما كانت تقرأها عن غيرها من الجميلات: «حين أقرأ إحدى رواياتك ارتدي ثوب البطلة، قفازيها، حذاءها.. أسرّح شعري مثلها، أربط شالا على عنقي كما تفعل».

اعتزل أحمد الصابر الحياة بعد وفاة زوجته ليلى مريضة، واكتفى بالعيش مع شخصيات رواياته يحركهم ويحاورهم ويستنطقهم، بالإضافة إلى صديقه الوحيد طبيب العيون عامر، الذي يدعوه للخروج من عزلته، فيفلسف عزلته قائلا: «أكسر أطواق العزلة كما ترونها أو تصفونها أنتم بالعوالم التي أخلقها على الورق، أصادقُ شخصيات أعمالي، أحادثها، أجادلها، أختصم معها أحيانا، أهملها أخرى، أرسم مصائرها، أقودها إلى النهايات التي أريد، أحمّلها ما أعتزم قوله، أرى العالم الذي تعيشونه أنتم من خلالها هي».

تنجح سراب عن طريق البريد الإلكتروني في إخراج أحمد الصابر من عزلته ورتابة حياته التي يصفها في رسالته الإلكترونية لها: «لا أملك سوى الوقت الممض، لستُ نمطيا في طقوس حياتي، لا شيء بعينه يشغلني، لا أترقب مشارف الفجر لأصحو، ولا أهجع حين تغفو عيون المساء، أنام فقط حين تنهار مقاومتي وأعجز عن السهر، وأصحو فقط حين أضجر من فراشي، هكذا أنا، ألوك هواجسي بلا مواعيد، ولا مقدمات.. أكره الساعة، أنفر من صوت عقاربها التي تمارس مللا رتيبا بإيقاع متكرر، كأنه صفير ريح في مقبرة نائية». يجد أحمد الصابر في سراب مخرجا لطيفا مغريا مما هو فيه، على الرغم من فارق السن، فأغدق عليها الحب والحنان، ووهبها الهدايا الكثيرة كتعويض لحرمانها التي كانت تشكو منه كثيرا. ومع أنه صارحها أنه عقيم، وأنه لن يستطيع أن يحقق لها حلمها بطفل أشقر، إلا أنها تتمسك به مكتفية بحبه، وأنها لا تريد طفلا إلا إذا كان منه. وفي خضم هذه العلاقة المفتوحة تعرفت على الراهب الجذاب لوقا، الذي فتن كثيرا من النساء، فانجذبت إليه، لتثبت لنفسها قدرتها على الفوز بالرجال وامتلاكهم، فهي تحب أصحاب التجارب الذي يحفظون أسرارها: «شعرت بأن جاذبيته تطغى عليها، وتشدها إليه أكثر، ربما كان الرجال الناضجون ذوو التجارب يثيرون شهيتها.

كان شيءٌ ما داخلها يغريها بالرجال ذوي التجربة.. الرجال الذين عرفوا أكثر من أنثى.. كانت تشعر أن فوزها بأحدهم بمثابة انتصار شهي يؤكد تفوقها على الأخريات اللواتي لم يعانين مثلها، ولم يسحق الفقر أحلامهن،

كان انتزاعها رجلا منهن يشبع غرورها، ويشعرها بالرضا، فتنتشي طربا أنها هزمتهن، رغم أنها لا تمتلك مثل أسلحتهن». فوجدها الراهب فرصة ليتعرف طعم الحب مع فتاة مسلمة، فهي ستكون تجربة جديدة مثيرة، وعلى الرغم من تبعاتها المستقبلية المتوقعة، إلا أن إغراء التجربة، واندفاع سراب وكسرها كل الحواجز أوقعاه في المحظور دينا وعرفا.

ولما افتضح أمره، ربما بتخطيط من روزالين خادمة الدير التي كانت ترعاه وتدافع عنه بشراسة، هرب من المدينة إلى دير ناء في الصحراء، وتسبب في فتنة طائفية قطعت أوصال العلاقات بين الجيران والأصدقاء، وأفسدت تاريخا من المحبة والوئام والانسجام. استعذبت سراب طعم الخيانة، فقد كانت تخون الرجلين كلا مع الآخر، وربما كان هذا يشعرها بالزهو أن تستحوذ على رجلين كهلين مشهورين محبوبين، ولما انكشف سرها مع الراهب طلبت من أحمد أن يسامحها وأن يبقوا أصدقاء بعد أن رفض عرض الزواج منها.

وخوفا على حياتها كان لا بد أن تسافر، ولجأت الأم إلى أحمد ليساعدها على نفقات سفر ابنتها وهي تجهل العلاقة بينهما، فسارع بمنحها ما تريد، وسافرت سراب، وركبت البحر حيث لقت حتفها. هربت من الموت فوجدته في انتظارها.

نهاية سراب، كانت مفجعة وقاسية، وهي بالتأكيد مقصودة، مع أنه كان بالإمكان اللجوء إلى نهايات أخف وطأة، ولكن الطيش والتهور والجرأة الكبيرة، وعدم تبصر العواقب يُردي المرء ويوقعه في المهالك، فللمجتمع قوانينه التي ينبغي عدم التعامي عنها، وإن كان لا بد فبحكمة وروية وحساب للعواقب.

سراب هي الشخصية المحورية في الرواية، وقد كانت بالفعل مجرد سراب خادع للجميع، فقد عاشت في سراب من وهم الانتصار والامتلاك، وانتهت حياتها كأن لم تكن. تسخر الرواية من تعامل المجتمع مع العلاقات بين الرجل والمرأة، فإذا كانت العلاقة بين رجل وامرأة من الدين نفسه، فيتم التعامي عنها والتسامح معها، وإذا كانت بين اثنين مختلفي الدين، تثور ثائرة المجتمع، ويندفع لمسح العار بالتخريب والتدمير والحرق، وقطع العلاقات بين جيران العمر، لكأن العلاقة هنا مشرعنة، وهناك خيانة للدين واعتداء على حرماته ومقدساته.

هذا العبث تحت راية الدين، يدل على هشاشة وخلل ما، فلا علاقة للدين فيما حدث، ولا ينبغي أن يكون الدين تبريرا لما يحدث. وعندما تنجلي الصورة، وتتوضح الأحداث، ويوضع كل شيء في مكانه الصحيح وبحجمه الطبيعي، تعود المياه إلى مجاريها بين الأصدقاء والجيران، ولكنها ستترك شرخا في الأعماق. تسخر الرواية أيضا من الكهول الذي ينساقون وراء شهواتهم مع فتيات بعمر بناتهم، الأول لتخضرَّ حياته بعد ذبول وضمور وعزلة جففت قلبه وأمحلت حياته، والآخر رغبة في أن يخوض مغامرة مع فتاة من غير دينه، لها نكهتها المختلفة. فعاد الأول إلى عزلته بعد أن اكتوى بنار الخيانة كما ذاقها صديقه عامر مع صاحبته مريم، والثاني خسر منصبه ومكانته، وهرب إلى الصحراء بعد أن أشعل النار خلفه.

تؤكد الرواية حقيقة الضعف الفطري الإنساني، الذي لا يفرق بين صغير أو كبير، أمي أو متعلم، راهب أو غير راهب، فالكل معرض لأن يقع تحت سطوة الإغراء، وخاصة الذي يجيء على طبق من ذهب، يقتحم اقتحاما ولا يترك مجالا للمداراة أو التغافل. فالعصمة لا تصنعها الألقاب والمناصب، وربما كانت الآلقاب ستارا تخفي خلفها كل نواقضها.

تحذر الرواية من الفتنة الطائفية التي قد تشعلها قشة، وهذا يتطلب الالتفات إلى هذه الثغرة الخطيرة، وتمتين الجبهة الداخلية، والتأكيد على قوة العلاقات بين مكونات المجتمع الواحد، وألا يُسمح لأحداث عابرة أن تهدم البناء المتماسك، وتفصم عُرى العلاقات الأخوية. تتميز الرواية بلغة جميلة شفيفة آسرة، لا تكلف فيها ولا تقعر، لغة سلسة تنساب كنهر رقراق يروي الظمآى، ويسر الناظرين، وبناء روائي متين جذاب، نجح في الإمساك بالقارئ حتى الكلمة الأخيرة. لم تُحدد الرواية بمكان معين، وربما كان هذا مقصودا، فأحداث كهذه مرشحة أن تحدث في أي مدينة عربية يوجد فيها مسلمون ومسيحيون، وإن كان تحديد المكان يزيد من متعة الرواية وجمالها، ويجعلها أقرب إلى القارئ، وأكثر حميمية وألفة، أما الزمان فهو وقتنا الحاضر بدليل توظيف الفيسبوك في الرواية.

تناوب أحمد الصابر والراوي العليم الذي كان أحمد الصابر نفسه أيضا مهمة رواية الأحداث وسردها بتداخل وتشابك، ومع أن هذا التداخل لم يؤثر على جمال السرد وانسيابيته وتتابع الأحداث، ولكن أثرَّ على منطقية البناء الروائي، وإن كان يصعب ملاحظته.

وبعد فـ«هي والراهب» رواية ممتعة جميلة، نجح كاتبها في إيصال رسالة مهمة وخطيرة، وحذر من فتن طائفية لدواعٍ لا علاقة لها بالدين، يشعلها الجهل والتسرع والطيش. وأبدع الدعفيس في نسجها بلغة فاتنة، وحرفية عالية، وحس مرهف.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)