هوميروس العربي

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 22-05-2019
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي


هوميروس العربي


<article5210|cycle|docs=6271,6272,6273>


عاد اسم هوميروس إلى الواجهة الفرنسية من خلال معرض يحمل اسمه يُقام في متحف اللوفر حتى نهاية شهر تموز/يوليو. يتقفّى هذا المعرض أثر الشاعر اليوناني القديم “المؤسس للحضارة الغربية” من خلال مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية التي أنتجت بين الحقبة اليونانية الرومانية وعصر النهضة، مسلطاً الضوء على الأثر الكبير الذي تركه صاحب “الإلياذة” و"الأوديسة" على مدى قرون من الزمن في العالم الغربي. ويمكن القول ان هذا الأثر تجاوز الغرب في الماضي، ودخل العالم الإسلامي في زمن ازدهار علوم الحكمة في العصر العباسي.

مع شيوع الثقافة الهلنستية، شاع نتاج هوميروس الشعري في الشرق على مدى قرون، كما تشهد الأعمال الفنية التي تستلهم هذا النتاج الأدبي. والأمثلة عديدة، منها عدد من النواميس التي خرجت من مقبرة صور الروماني، وجدارية كبيرة من جداريات “مدفن الأخوة الثلاثة” في تدمر، ومجموعة من ألواح الفسيفساء مصدرها بناء وثني في أفاميا. ومع دخول الإسلام، وحلول مبادئه وقيمه الروحانية التوحيدية، توارى هوميروس مع تواري الثقافة الهلنستية بطابعها الوثني، إلا انه عاد في زمن رعاية الخلافة العباسية لحركة الترجمة والنقل، وعُرف بـ"رئيس شعراء الروم".

في دراسة بعنوان “هوميروس عند العرب” نُشرت في نهاية 1971، استعرض الباحث فهمي جدعان موقع كبير شعراء اليونان في الآداب العباسية، وتتبع مسيرة ظهور اسم “أوميرس” وشيوعه في هذا النتاج الغزير. بدأ سطوع هذا الاسم في القرن التاسع، وأهم المصادر التي تتحدث عنه كتاب “صوان الحكمة” الذي وضعه أبو سليمان المنطقي السجستاني، وهذا الكتاب مفقود، ولم يصلنا منع سوى منتخب صنّفه منه مؤلف مجهول الاسم ليثبت فيه “تواريخ الحكماء وأساميهم وبعض كلامهم وأخلاقهم”. في تعريفه بـ"أوميرس الشاعر"، يقول السجستاني: “هو من القدماء الذين يجريهم أفلاطون وأرسطو ومن يجري مجراهما في أعلى المراتب. وكان أرسطو لا يفارق تكاته ديوان شعر اوميرس، ويستدلّ هو ومن تقدّمه وتأخّر عنه، أبداً بشعره، لما كان يجمعه، مع الحذق في قول الشعر، من اتقان المعرفة ومتانة الحكمة وجودة الرأي”. ويعكس هذا القول ارتباط اسم أوميرس باسم أرسطو الذي رفعه أهل الفلسفة والمنطق في العالم الإسلامي إلى أعلى قمة، ونقلوا ما وصلهم من مؤلفاته إلى العربية، ومنها “فن الشعر” الذي تناول فن النظم في اليونان وريادة هوميروس فيه.

يواصل السجستاني الحديث عن أوميرس، ويضيف: “نقل اصطفن شيئاً من أشعاره من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية. ومعلوم ان أكثر رونق الشعر ومائه يذهب عند النقل، وجعل معانيه يتداخله الخلل عند تغيير ديباجته. لكنني مع ذلك أتيت ببعضها لإفصاحها، مع ما تقدّم وصفه، عن كل معنى دقيق وعلم غزير. وقدّمت على ذلك شيئا من منثور كلامه، على مجرى العادة في باب غيره من الحكماء. وختمت هذا الفصل المشتمل على ذكره بما أثبته من بعض شعره”. نقل السجستاني بعضاً من نتاج هوميروس الذي ترجمه اصطفن عن اليونانية مباشرة، واصطفن هو ابن بسيل، “الترجمان من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي”، وقد نقل كثيرا من الكتب العلمية، أهمها كتاب ديسقوريدس في النبات الذي تصفحه “حنين بن إسحاق المترجم، فصحح الترجمة وأجازها”، كما روى ابن أبي أصيبعة في “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”.

يقارن صاحب “صوان الحكمة” بين أمّة اليونان وأمّة العرب، ويقول: “ابتدأت الفلسفة مع ثاليس الملطي (أي طاليس)، ولم يكن قبل ذلك في بلاد يونان شيء من العلوم البرهانية، وإنما كانت حالهم كحال أمة العرب الجاهلية ليس عندهم إلا علم اللغة وتأليف الأشعار والخطب والأمثال والرسائل، إلى أن نجم ثاليس بالفلسفة. كذلك علم الحساب والهندسة والمساحة أخذوها عن المصريين. فأما وجود الشعر في أمة يونان فإنه ظهر فيهم قبل الفلسفة، وأبدعه أوميرس الشاعر، وهو عندهم بمنزلة أمرئ القيس في العرب. وثاليس كان بعد أوميرس بثلاثمئة واثنتين وثمانين سنة”.

في الملل والنحل، قدم الشهرستاني في حديثه عن هوميروس رواية مشابهة تستند بشكل أساسي على شهادة السجستاني، كما يظهر في قوله: “هو من الكبار القدماء، الذي يجريه أفلاطون وأرسطوطاليس في أعلى المراتب. ويستدلّ بشعره، لما كان يجمع فيه إتقان المعرفة، ومتانة الحكمة، وجودة الرأي، وجزالة اللفظ، فمن ذلك قوله: لا خير في كثرة الرؤساء، وهذه كلمة وجيزة تحتها معان شريفة، لما في كثرة الرؤساء من الاختلاف الذي يأتي على حكمة الرئاسة بالإبطال. ويُستدل بها أيضا في التوحيد، لما في كثرة الآلهة من المخالفات التي تكر على حقيقة الإلهية بالإفساد، وفي الحكمة: لو كان أهل بلد كلهم رؤساء، لما كان رئيس ألبتة، ولو كان أهل بلد كلهم رعية، لما كانت رعية ألبتة”.

في المقابل، قدّم المبشر بن فاتك في “مختار الحكم ومحاسن الكلم” شهادة أخرى تسند على مصدر مغاير، ولم يحدّد هذا المصدر للأسف. وفقا لهذه الشهادة، كان هوميروس “أقدم شعراء اليونانيين وأرفعهم منزلة عندهم. وله حكم كثيرة وقصائد حسنة جليلة. وجميع شعرائهم الذين أتوا بعده على مثاله احتذوا، منه أخذوا وتعلّموا، وهو القدوة عندهم. كان معتدل القامة، حسن الصورة، أسمر اللون، عظيم الهامة، ضيق ما بين المنكبين، سريع المشية، كثير التلفت، بوجهه آثار الجدري، مهذارا، مولعا بالسب لمن تقدمه، مزاحا، مداخلا للرؤساء. مات وكان له من العمر مائة سنة وثماني سنين”.

نقل الرواة طائفة طويلة من الحكم والأشعار التي نسبوها إلى هوميروس، وتردّدت هذه الأمثال في كتب التراث على مدى قرون. وفي العصر الحديث، عكف المتخصصون على تفنيد هذه الأقوال وتحديد مصدرها الأصلي والتدقيق في نسبتها. في كتابه “ملامح يونانية في الأدب العربي” الصادر في 1977، قدّم إحسان عباس مراجعة شاملة لـ"الموروث الأوميريسي عند العرب"، وأشار إلى حرص الرواة “على الفصل بين أدب الحكمة وبين الشعر”، “ولكن طبيعة الشعر المترجم، كانت شديدة الشبه بالأقوال الحكمية، حتى ليمكن القول إن هذا الشعر لم يُترجم إلا لأنه كان يُمثل وجها من وجوه الحكمة اليونانية، وأن روعته الشعرية لم تكن هي لحافز الأول على الاهتمام به. وإذا كانت تلك النماذج الشعرية قد أثبتت أن الشعر لم يكن مقصورا على العرب، فإنها لم تزد على أن أكدت أن اليونان قوم حكماء، وأن حكمتهم لا تقل في أهميتها عن أدب الفرس”.

من المفارقات المثيرة، امتدح أهل الأدب والمنطق هوميروس، وتناقلوا اشعاراً وحِكَم ارتبطت باسمه، غير أنهم لم يسعوا كما يبدو إلى التعرّف على الأثرين العظيمين اللذين ينسبان إليه، وهما ملحمتا الإلياذة والأوديسة. ارتبط اسم هوميروس بأسماء كبار الفلاسفة اليونانيين، وعلى رأسهم أرسطو، وكتب ابن رشد في حديثه عنه في “تلخيص الكتابة”: “كان رب النعمة العظيمة بذلك عند اليونانيين، وعظموه كل التعظيم، حتى اعتقدوا فيه أنه كان رجلا إلهيا، وأنه كان المعلم الأول لجميع اليونانيين”. وحده أبو ريحان البيروني تميّز بالعودة “إلى جذور الأدب اليوناني، لا إلى الأدب وحسب”، فتطرّق إلى “الأسطورة اليونانية نفسها، وهي التي تحاشاها كل من كتب قبله، لأنها قد تتعارض والإيمان بالتوحيد”، كما يشير إحسان عباس في دراسته.

على عكس أقرانه، لم يحاول البيروني “أن يسخّر حكمة اليونان وأدبهم، أو يحورّهما، في سبيل خدمة التوحيد، أي قليلا، كأن يعتقد أن ما يسميهم الحنفاء آلهة إنما هم الملائكة، نقلا عن أفلاطون في طماوس، إذ كان يعرف أن زوس مثلا يجمع عندهم بين البشرية وما لا يتصل بالبشرية، ويقرأ في افتتاح كتاب اراطس في الظاهرات قوله في تمجيد زوس: وأنه الذي نحن معشر الناس لا ندعه ولا نستغني عنه، ملأ الطرق ومجامع الناس، وهو رؤوف بهم مظهر للمحبوبات، ناهض بهم إلى العمل، مذكر بالمعاش، مخبر بالأوقات المختارة للحفر والحرث. أما من عداه، فأنهم لخضوعهم لفكرة التوفيق بين الدين والفلسفة سارعوا إلى اكتساب المفهومات اليونانية معاني إسلامية توحيدية، ذلك شيء يكاد يكون عاما في الفلسفة، غير أنه امتد أيضا إلى الأدب نفسه”.

يستطرد الباحث في هذه الدراسة، ويضيف متسائلاً: “لقد كانت الأسطورة هي الحجاب الكثيف دون فهم الشعر اليوناني وتذوقه، ترى لو أنها وجدت؟ في تاريخ مبكر، تسامحا في التقبل كالذي فعله البيروني، هل كانت تؤدي إلى لقاء من نوع آخر بين الأدبين اليوناني والعربي؟”.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



عن الصورة

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)