هل كان هنال حب بين ميّ زيادة وجبران خليل جبران ؟

, بقلم محمد بكري



هل أحبَّ جبران مي زيادة ؟


جريدة القدس العربي
السنة التاسعة والعشرون العدد 8843 الجمعة 2 حزيران (يونيو) 2017 - 7 رمضان 1438هــ
مولود بن زادي - كاتب جزائري / بريطانيا


ليس من ينكر أنّ أدب المراسلة تعبير عن مكنون الذات، وبوح بما يختلج في النفس من مشاعر وهواجس ونزعات وما أشبه ذلك. فقد صدق الأديب عبد اللطيف الوراري عندما قال: «لعل أدب الرسائل أو فنّ الترسل من بين هذه الآداب التي لا تخلو من سرد الاعترافات وكشف الأمور الشخصية بين المرسلين… فكان من الرسائل ما جاء في الشوق، أو الاستعطاف والاعتذار، أو النصح والمشورة، أو الملامة والعتاب، أو الشكوى، أو العيادة، أو التهاني، أو التعازي والتأبين، إلخ.» («القدس العربي» 12 أيلول/سبتمبر 2016).

وما كتبه جبران المقيم في أمريكا إلى مواطنته مي زيادة في المشرق العربي يُعدّ من الرسائل الشخصية التي لا تخلو من ذلك. وبما أنَّ المرسلين أديبان، فقد كانت مزيجا من الرسائل الأدبية والذاتية. لكن، في مثل هذا السرد، وإن كان للذاتية وزن، فإنّه لا يمكننا بأي حال من الأحوال الاستهانة بدور العقل. فإن كانت الرسائل تعبّر عن الأحاسيس والآلام والأشجان وغيرها، فإنها تظلّ خاضعةً لسلطة الإرادة ورقابة الذهن. فالعقل هو المحرّك، وهو الناقد، وهو الوازع، والحاكم المحاسب، الذي يملك وحده دون سواه سلطةَ القرارِ في ما يجوز البوح به وإرساله وتقاسمه مع الغير. فالمُرسِل يخطّ كتابَه بعقل مفكِّر. فهو واعٍ بما يعبّر عنه، وليس تحت تأثير مسكّر أو تنويم مغناطيسي أو أيّ مؤثِّر من شأنه أن يشلّ تفكيره أو يهدّ إرادته. فعادة ما نراه ينقد كتابه وينقّحه، وقد يمزّقه ويعيد كتابته. ونراه يصوغ تعبيره وفقاً لمستوى المرسَل إليه وثقافته. فقد صدق إبراهيم بن محمد الشيباني عندما قال: «إذا احتجت إلى مخاطبة أعيان الناس أو أوساطهم أو سوقتهم، فخاطب كلاً على قدر أبهته وجلالته وعلو مكانته وانتباهه وفطنته. ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك».

وجبران كان يرعى مكانة سيدة الأدب في الشرق الأوسط مي زيادة، وهو ما تجلّى في رسائله التي تميّزت بانتقاء الألفاظ، وجمال التعبير، والافتنان في التصوير، والتأنق في الخيال: «تعال نخيم على الجبال وفي الأودية، تعال نسير بين الأشجار وفوقها، تعال نغمر الصخور المتعالية…» (رسالة 3 تشرين الثاني/نوفمبر 1920). هذه المراسلة من على بعد 7 آلاف ميل، أثارت إعجاب الجماهير، وأسالت من الحبر الكثير. وُصفت بـ«الحب الصوفي السامي» (جريدة «العربية»)، و«الحب الطاهر» (صحيفة «الشروق»)، و«20 عامًا من العاطفة الورقية.» (جريدة «الوفد»). وقيل إنَّها حبّ فريد لا مثيل له في تاريخ الأدب وسير العشاق. لكن، يبدو أنّ بعض هؤلاء اكتفى بمشاهدة العلاقة من منظور ضيق، تمثّل أساساً في جملة من رسائل جبران إلى مي زيادة، ولم يحاول القراءة بين الأسطر، أو النظر أبعد من هذه الكلمات، سعياً لفهم طريقة تفكير جبران ونمط حياته، لتقييم هذه العلاقة تقييماً صحيحاً، والحكم عليها حكماً عادلاً.

ما يلفت انتباهنا ونحن نحاول الاطلاع على سيرة جبران، هو أنّ رسائله لم تقتصر على هذه المرأة مطلقاً. فها هو كتاب «الحبيب» (2004) يحصي 325 رسالة منه إلى ماري هاسكل وحدها بين 1908 و1931! وما يثير الانتباه أيضاً تورطه في علاقات غرامية متعدّدة أثناء علاقته بمي زيادة، وهو ما يشكك في صدق حبه وإخلاصه لها. وهو ما تؤكده الرسائل والشهادات.

قال عنه رفيقه في المهجر ميخائيل نعيمة: «كانت له علاقات نسائية متعددة». وكشفت صحيفة «العروبة» السورية في عددها 12057 أنّ خريستو نجم ذكرَ في كتابه «المرأة في حياة جبران»: «أشهر النساء اللواتي ارتبطن بحياة جبران القصيرة مثل المرأة الثلاثينية، التي لم يكشف عن اسمها، وجوزفين بيبودي، وحلا الضاهر، وسلطانة ثابت، وماري هاسكل، وأميلي ميشال المعروفة بمشلين، وشاعرة أمريكية مجهولة الاسم، وماري قهوجي، وماري عيسى خوري ومي زيادة، وشارلوت تيلور، ومادلين مايسون، وبربارة يونغ، وعيتريد باري، التي كشف النقاب عن اسمها خليل جبران ابن عم جبران‏».

وصوّرت صحيفة «الحياة» في عدد 6 نيسان/أبريل 1992 علاقته بإحداهن: «في شقتها رقم 552، كانا يلتقيان ويتبادلان الحب. وحتى بعد انتقاله إلى نيويورك بقي على اتصال بها، فيكتب إليها عام 1914: «أيتها اللذيذة جيرترود، قولي إنك لا تزالين تبتسمين وتضحكين تلك الضحكة المثيرة الراعشة، التي كانت تشعلني في تلك المرحلة السحيقة حين كنت صديقة للقمر».

حريّ بالذكر أيضاً أنّ جبران لم يصارح مي زيادة بحبه، أثناء علاقتهما الطويلة، وهو أمر غير عادي ويشكّك في جديّة علاقته. وها هو يعبّر عن حبه الشديد لامرأة أخرى، فقد بعث برسالة مثيرة لهاسكل عام 1926 قائلاً: «سأحبك حتى الأبدية. فقد كنت أحبك قبل أن نلتقي كبشريَيْن من لحم ودم بزمن طويل. عرفت ذلك حين رأيتك للمرة الأولى. كان ذلك هو القَدَر. أنتِ وأنا قريبان؛ ففي الجوهر نحن متشابهان. أريدك أن تتذكري هذا دائمًا. أنت أعزُّ شخص على قلبي في هذا العالم». لا نرى مطلقا مثل هذا البوح وهذه الحرارة في رسائله إلى مي زيادة. وأغرب من ذلك أنه قبل هذه الرسالة بأشهر قليلة وبالضبط في 12 كانون الثاني/يناير 1925، بعث برسالة إلى مي زيادة تُوهم أيَّ عشيقةٍ أنّه متعلّق بها: «يا ماري، كنت في السادس من هذا الشهر، أفكر فيك كل دقيقة، بل كل لحظة». ولم تحظ مي زيادة أبداً بتلك المنزلة التي خصّ بها حبيبته ماري هاسكل، التي ذهب إلى حد اختيارها وريثة له بعد موته: «إذا متُّ، فإني لا أريد أي شخص آخر أن يلمس لوحاتي، أو أن يقول شيئا عنها، سواك أنت. أريدها كلها أن تكون بين يديك». إضافة إلى الرسائل والشهادات التي كشفت تعدد علاقاته النسائية، فإنّ عدم اجتهاده للتقرب إلى مي ولقائها خلال ما يناهز 20 سنة، يشكك في جديته وصدق مشاعره نحوها، وإلا كيف نفسّر امتناعه عن دعوتها إلى الولايات المتحدة أو زيارتها في المشرق، أو ربما اقتراح لقائها في أوروبا، لا سيما فرنسا التي كان يسافر إليها؟

نضيف إلى ذلك أيضا أنّ علاقته بمي زيادة وإن كانت طويلة فقد تخللتها فترات من الانقطاع، لم نرَ فيها بكاءً ولا تألماً لفراق الحبيب، وهو ما يشكك أيضا في مصداقية العلاقة.

لا شكّ أنّ جبران كان يبحث عن علاقة خيالية مع أديبة عربية تحيا في الشرق، تثير إلهامه وتغذي إبداعه. فصنع بوجدانه عالما فانتازيا يلتقي فيه مي زيادة خلف عالمٍ محسوس حجبه عنها، وكان يحيا لحظاته مستمتعا بالخمر والنساء، أبعد ما يكون عن صورة النبي المقدس المتنزِّه عن ملذات الحياة والذنوب التي عرف بها.

تُعلّمُنا تجربة جبران أيضاً أنّ الرسالة وإن كانت تُعدّ من أدب السيرة والبوح، إلاّ أنه ينبغي علينا النظر إليها بحذر. فهي شيء من الإنشاء يتصرّف فيه العقل المبدع كما يشاء، فيكشف في مضمونه ما يشاء، ويخفي ما يشاء، ويصوغه في أي قالب يشاء. وهذا ما ينطبق على رسائل جبران التي لم تكشف لمي زيادة علاقاته المتعددة ولا ذاته الخفية التي تعمّد إخفاءها، وهو القائل في كتاب «المجنون»: «ذاتي الخفية الكبرى التي أدعوها، أنا سرّ غامض مكنون في أعماق سكون نفسي ولا يدركه أحد سواي».

نستخلص من هذه التجربة أيضا نزعتنا أحيانا إلى مشاهدة الأمور بذاتية ومن زاوية واحدة ضيقة. فأسرفنا في تعظيم شأن علاقة اعتمادا على جملة من الرسائل. وانبهرنا بطول مدة هذه العلاقة، ونسينا أنها عرفت فترات من الانقطاع ولم تكلل بلقاء. وانبهرنا بالمسافة الفاصلة بينهما، ونسينا وسائل النقل المتوفرة، وأسفار جبران الكثيرة، وعلاقاته المثيرة. وإن لم يبح بحبّه إلى مي زيادة، فقد اعترف بحبه الأبدي لهاسكل. واكتفى بدعوة مي إلى لقائه في عالم ضبابي بعيدا عن الواقع الذي كان يحياه رفقة نساء حسناوات، تعمّد إخفاءه عنها. وهل كانت علاقته بمي زيادة ستستمر ما يناهز 20 سنة لو علمت بتلك العلاقات والملذات التي كان يعيشها خفية عنها؟ مع كامل الاحترام لهذا القلم المهجري المبدع المؤثر.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.




مي وجبران.. هل كانت الأديبة الحسناء تكذب على «النبيّ» في رسائلها معه ؟


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8584 الاثنين 12 أيلول (سبتمبر) 2016 - 10 ذو الحجة 1437هــ
عبد اللطيف الوراري - شاعر مغربي


رغم ما قيل بأنّ الثق افة العربية في تاريخها ثقافة حجب وستر، إلا أن آدابها تكشف عن كونها أُمّة بوح واعتراف، سواء في شعرها أو في نثرها. ولعل أدب الرسائل أو فنّ الترسل من بين هذه الآداب التي لا تخلو من سرد الاعترافات وكشف الأمور الشخصية بين المترسّلين ممن ملكوا البلاغة وقلّبوها على وجوهها للتعبير والتأثير. فكان من الرسائل ما جاء في الشوق، أو الاستعطاف والاعتذار، أو النصح والمشورة، أو الملامة والعتاب، أو الشكوى، أو العيادة، أو التهاني، أو التعازي والتأبين، إلخ. وقد قيل إن الرسائل هي «مخاطبة الغائب بلسان القلم»، وإنّها «ترجمان الجنان، ونائب الغائب في قضاء أوطاره، ورباط الوداد مع تباعد البلاد».

مي وجبران

في العصر الحديث، شرع الأدباء في عرض قصصهم والبوح بتجاربهم في الكتابة والحياة ضمن رسائل شخصية كانوا يتبادلونها بينهم ومع مجايلي عصرهم. وكانت الرسائل المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران هي أشهر هذه الرسائل على الإطلاق، كما حققتها سلمى الحفار الكزبري وسهيل بشروني تحت عنوان «الشعلة الزرقاء» الذي استوحياه من تعبير جبران عن حضوره الذاتي المفارق في العالم، والموزّع بين ما هو عليه وما يصبو إليه بأشواقه وانتفاضة روحه، إذ كتب يقول «.. هل بإمكان الذات المقتبسة، وهي من الأرض، أن تحور وتغير الذات الوضعية، وهي من السماء؟ إنّ تلك الشعلة الزرقاء تنير ولا تغير، وتحول ولا تتحول، وتأمر ولا تأتمر». فقد كان يتوق، من الهناك، إلى «الشعلة المقدسة» التي هي جوهر النفس الإنسانية في أسمى درجات صفائها وسعيها للفناء في الآخر.

الأنا الغنائي وضبابيّته :

في الرسائل التي كان يبعث بها جبران خليل جبران إلى مي زيادة، يكشف عن طفولته، وارتباطه بأمّه، وأحلامه، وميوله وذكرياته، وصحّته، وأسرار نفسيته، ومشاريعه وآرائه في الأدب والروح والفنّ. وقد كان يخاطب ميّ التي شُغف بها حُبّاً، كمن يخاطب نفسه بصدق وبساطة وعفوية. والأغرب أن العلاقة «الرسائلية» بينهما توطّدت بشكل غريب ودامت زهاء عشرين عامًا من دون أن يلتقيا إلا في الضباب، وبينهما «سبعة آلاف ميل» كما قال جبران، أو «البحار المنبسطة» بتعبير ميّ.

في إحداها مؤرخة بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير 1920، يكتب جبران بخصوص نسبة تمثيل عمليه «المجنون» و«المواكب» لأناه الغنائية التي ينظر إليها متوتّرًا بين الشخصي واللاشخصي، قائلاً: «وإذا صح ظنّي أكون أول ضحايا ذلك الكتاب لأن المجنون ليس أنا بكلّيتي». فأنا الكتابة تختلف من جهة التلفُّظ عن المؤلف المرجعي ويعرض عن صيغ حضوره كما هو، وذلك بسبب ما تنطوي عليه الكتابة نفسها من أصداء وتواريخ ومشاهدات هي نتاج بحث مأمول فيه، وليس توثيق حالات وأسماء فحسب. بيد أن جبران، والحالة هاته، يجد نفسه في «فتى الغاب» داخل المواكب، الذي يبعث بنفثات نايه الساحرة شكل حياة بديلة لإنسان نافر من قيم المدينة الجاهلة، أكثر مما يجد في «المجنون» وصراخه. وفي هذا الصدد يقول جبران: «ولكن إذا كان لا بدّ من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبتُه فما عسى يمنعك عن اتّخاذ فتى الغاب في كتاب «المواكب» لهذه الغاية بدلاً من «المجنون»؟ إن روحي يا ميّ أقرب بما لا يقاس إلى «فتى الغاب» ونغمة نايه منها إلى ‘المجنون’ وصراخه» .

يعترف جبران على نحو يرتقي بذاته تخييليًّا، بأنّ حياته مضاعفة موزّعةٌ بين حياة بشرية عادية وحياة خيالية يصرفها «في مكان قصيّ هادئ مهيب مسحور لا يحدّه مكان ولا زمان»؛ إذ يعود منه شخصاً آخر، غريباً، «شاعراً بيدٍ شبيهةٍ بالضباب». هنا، يميّز جبران بين الخيال والكذب، أو بالأحرى لا يشتطُّ في التخيُّل إلى حد الكذب على النفس، بل هو نتاج لخبرة الحياة التي تُغذّي التجربة الذاتية حسّياً وكيانيّاً على نحو قد تتراسل معه الحواس بما يُشبه «نشيداً غنائيّاً».

لكن رؤية جبران تتأثّر، بشكل لا يتعافى منه، من هذه الحدّية المفارقة التي تأخذ شكل تشظٍّ للذات يتحوّل إلى ضبابٍ يرى فيه حقيقته، وغيريّته الملتبسة، فيظلّ الوجود لُغْزاً هُلاميّاً غير لفظي: «أنا ضبابٌ يا مي. أنا ضباب يغمر الأشياء ولكنه لا يتحد وإياها (…) ومصيبتي أن هذا الضباب، وهو حقيقتي، يشوق إلى لقاء ضباب آخر في الفضاء. يشوق إلى استماع قائلٍ يقول: لست وحدك. نحن اثنان. أنا أعرف من أنت».

هذه «الضبابية» قد تلبّست حياة جبران، وداخلت خطاباته التي كتبها إلى ميّ؛ فلم يصرح بحبّه لها أو يتخذ نحوها قراراً جادّاً، وهو ما أثمر «سوء التفاهم» بينهما، وأشعر ميّ نفسها مع الوقت بالإحباط والانتظار القاتل.

كلما أمعنا في مضمون الرسائل وصيغه التلفُّظية من وقت لآخر، ازددنا اقتناعًا بأن جبران كان واقعًا تحت نزعة صوفية؛ إذ كيف يمكن للمرء أن يظلَّ خلال هذه الفترة كُلّها يتحرق نحو امرأةٍ لم يرها ويشغف بها حُبًّا، ويتخطى من أجلها حدود الزمان والمكان والحواس إلى عالم آخر تتحد فيه قوة الوجود، بل إنّه كان يجد في هذا الشغف الذي تحمّله فوق ما تطيقه جارحته، عزاءً له عن لقيا «الهناك» المستحيلة وترياقًا لروحه المعذبة: «… الأفضل أن نبقى هنا، هنا في هذه السكينة العذبة. هنا نستطيع أن نتشوّق حتى يُدنينا الشوق من قلب الله».

عدا هذه النزعة التي تبحث عن حقيقة الذات في عالمٍ ضبابيٍّ، قد يكون التكوين النفساني لجبران، والمتأثر باعتلال صحته منذ مطلع شبابه وابتلائه بموت أمّه ورفض ماري هاسكل الزواج منه وبعاده عن الشرق، سببًا آخر في أن يصبغ الرسائل بصبغة صوفية يكتنفها الكثير من الضباب.

هل أحبت ميّ «المجنون»؟

ولكن هل أحبّت مي صاحبها جبران الذي لم تَلْتَقِهِ ولو مرّةً واحدة؟ أم أنّها كانت تداري عاطفته الصادقة وتُجيّشها بكبريائها وتغنُّجها الباهر، ومن ثمّة قد تكون تكذب عليه؟

إذا علمنا بأنّ مي صارت لها شهرة واسعة بعد افتتاح صالونها الأدبي، وكان لجاذبيّة شخصيتها سطوة أكبر، ولها رسائل أخرى مع مشاهير أدباء عصرها، بمن فيهم أمين الريحاني وعباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي، فإنّ افتراضاً يقول بأنّ مي كانت تبحث عن شهرة مأمولة وذيوع صيت شخصي من وراء هؤلاء المشاهير الذين صار بذكرهم الشرق والغرب، يمكن أن يفرض نفسه؛ إلا أن هذا الافتراض مردود عليه بافتراضٍ آخر هو أن ميّ حرصت على إخفاء علاقتها بجبران إلا من بعض المقرَّبين منها، وأبقتها سرًّا دفينًا حتى يوم موته.

وإذا عدنا إلى كرونولوجيا العلاقة بين جبران ومي، فإنها لم تنشأ دفعة واحدة، بل توثّقت مع الوقت وتطورت من التحفظ إلى التودد. فجبران نفسه تدرجت لهجة رسائله من الإعجاب إلى بوح الصداقة الحميمة فالحبّ، وكانت هذه الرسائل تستحوذ عليها لغة التلميح والتورية، بحيث لم يكن يسمي الأسماء والمشاعر بأسمائها. كما أن مي بدت في رسائلها له متحفّظةً كما يظهر من لغتها ولهجة أسلوبها؛ إذ تردّدت في الإعراب عن مشاعرها المكبوتة، وكانت لا تطلق قلمها يجري على سجيّته، فحصرت موضوعاتها في ما هو فكري وأدبي يتخلله الإعجاب بشخصيته وإنتاجه الأدبي والفني. ولم يكن جبران ينظر إلى ما تكتبه بعين الرضا، حتى كتب إليها: «أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية». إلا أنّه في ما بعد، أي بعد حوالي إثنتي عشرة سنة، وبعد الذي لامسته من شغف جبران وتعلُّقه بها على نحو صادق وشفّاف نتلمسه من مناداته إيّاها بقوله: «صغيرتي المباركة، صغيرتي المحبوبة». أخذت مي ترتاح له، وتبدد شكوكها في عواطفه نحوها، وتعلن بعاطفة الحب له وخشيتها على اعتلال صحته، كما أخذت تحدثه عن أمور شخصية كقصّ شَعرها مثلًا.

بيد أنها، مع ذلك، كانت تعلن حُبّها بخوف غير مفهوم. ففي إحدى هذه الرسائل المؤرخة بـ(15/1/1924)، كتبت مي: «ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنّك محبوبي، وأني أخاف من الحب». وقد يرجع الأمر إلى إسراف مي في كبت مشاعرها ونزوعها إلى التشاؤم والاكتئاب، وهو ما سبب لها الشقاء في حُبّها لجبران، أو بالأحرى في حُبّه لها، أكثر من الفرح الظاهر به. حتى أنّ هذه الرسائل نفسها لم تنشأ على وتيرة واحدة، فقد تخللتها سلسلة جفاء وفتور وقطيعة تدوم العامين، وكان أكثرها من طرف ميّ «الخائفة» في مقابل جبران «المسترسل» ولكن بضبابيّة مخيفة. ولكن، مرة أخرى، هل أحبت مي جبران؟ كان أنور المعداوي قد كتب في مجلة الآداب (نيسان/ أبريل 1953) ناعتًا ميّ بـ(الشاذّة)، وشاكًّا في أن تكون قد أحبت جبران، إذ قال: «والحقيقة التي قتلها الدارسون المسرعون هي أن عاطفة ‘الأنوثة في ميّ لم تتجه يوماً إلى جبران». ففي نظره، ظلت مي محايدة لا تحرّكها «شهية» الأنوثة ليس مع جبران فحسب، بل مع غيره ممن لم تنقصهم الرجولة؛ لأنها ببساطة لم «تتذوّق» الحب.

وأيًّا يكن، فإنّنا اليوم لا يمكن أن نقرأ العلاقة بين جبران ومي إلا في ضوء الرسائل التي تبادلاها، بما تنطوي عليه من تلفُّظات في غاية الخطورة بلغ شرَرُها روحيهما معًا، مع ما في هذه التلفُّظات من أوجه الشعر والبلاغة وفنون التواصل أو الكياسة وخلافها. وربّما كان الرسالة أخطر من الواقع الذي لم يتمَّ لهما ولو مرّةً واحدة، فمات جبران على أسرار «الضباب». وأما ميّ فإنّها لما علمت بموته (1931)، ألمَّ بها انهيار عصبي ودخلت مستشفى الأمراض العقلية غرقت كهولة مقيتة قبل الأوان، وعاشت بلا زواج إخلاصًا لحبها الوحيد الضائع، فكانت السنوات العشر التي أعقبت موته أسوأ سنين حياتها على الإطلاق؛ إذ قضتها الآنسة مي امرأةً مفجوعة ويائسة حتى ذوى جمالها تمامًا. ولكن يكفي أنّ حبّ مي قد ألهم جبران البدائع في أخصب مراحل عطائه الأدبي والفني من جهة، وأن يكشف لقرائه الكثيرين عبر كل الأزمنة معطيات نفيسة عن طفولته وذكرياته ومشاريعه ونزعاته وآرائه الأدبية والفكرية في هذه الرسائل، بل ويودعها ريشة رسوماته الفريدة.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


كتاب الشعلة الزرقاء - رسائل إلى جبران - تحقيق سلمى الحفار الكزبري مع سهيل ب. بشروئي - 1979

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)