مقال صحفي

هل تفضي الثورات إلى ثقافة عربية جديدة ؟ Article de presse

, بقلم محمد بكري

الخميس، 26أيار/ مايو 2011
فخري صالح
جريدة الحياة

كيف يتعامل الكتاب والفنانون مع اللحظات الفاصلة في التاريخ، بل مع التحولات الفارقة التي تنقل الناس من عصر إلى عصر، ومن مزاج إلى مزاج ؟ كيف يعيد الكتاب والمثقفون النظر في الأفكار والأشكال وصيغ الإنتاج الأدبي والفني عندما يواجهون ثورة وعالماً جديداً يولد تحت سمعهم وأمام أبصارهم ؟ هذه أسئلة واجهت الكتاب والمثقفين والفنانين عبر العصور، فولدت تيارات ثقافية أدت إلى تغير الرؤى والتصورات وانقلاب الأذواق والأمزجة الأدبية والفنية. هكذا ولدت حركات أدبية وتيارات فنية وأفكار فلسفية طبعت العصور التي تلت ثورات أو تحولات تاريخية عميقة، فلو أن تلك التحولات العميقة، في المجتمع والسياسة وطريقة النظر إلى العالم، ما حدثت، لما كانت ظهرت حركات وتيارات مثل الرومانسية والحداثة وما بعد الحداثة ؛ ولما كتبت أعمال أدبية كبيرة مثل «الحرب والسلام» لتولستوي أو «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير أو«الأرض اليباب» لتي. إس. إليوت ولما رسم بابلو بيكاسو لوحة «الغيرنيك». الأمر نفسه يصدق على الثقافة العربية، فالخضات الكبرى في تاريخ العرب المعاصرين أطلقت أعمالاً كبيرة مثل «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وثلاثية نجيب محفوظ، و«الرغيف» لتوفيق يوسف عواد، و«حفلة سمر من أجل 5 حزيران» لسعد الله ونوس، و«أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، و«سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا» و«مديح الظل العالي» لمحمود درويش، اضافة إلى عدد آخر من الروايات والقصائد والمسرحيات والأعمال الفنية التي كانت نتاجاً لغائلة الجوع في الحرب العالمية الأولى، أو ثورة 1919 المصرية، أو محنة العراقيين السياسية في نهايات النصف الأول من القرن العشرين، أو نكبة الفلسطينيين وخروجهم الذي يتجدد في كل هزيمة.

في هذا المعنى تتخذ علاقة الفنون بالأحداث الكبيرة شكلاً معقداً، فالأعمال الفنية، رسماً ونحتاً ومسرحاً ورواية وسينما، وحتى شعراً، تحتاج إلى قدر من الاختمار حتى تستطيع التقاط صدمة التحولات التي تؤدي إليها خضات كبيرة، كالانتفاضات والثورات العربية التي جرت وتجري هذه الأيام. وعلى رغم ذلك، فمن المتوقع أن يحاول بعض الكتاب والفنانين أن ينجزوا أعمالاً تصور جانباً من التحول الذي حصل، مسلطين ضوءاً على بعض ما يعتقدونه جذرياً في هذه التحولات.

ليس هناك بالطبع شكل مبسط من العلاقة بين الفن والأحداث الكبرى، أو بين الفن والواقع. كنا نقول سابقاً : إن الشعر هو أقرب الفنون إلى التعبير السريع المباشر عن الحدث وهو يغلي وينتفض بدمه، لكن النتيجة تكون في العادة مخيبة للآمال. ولحسن الحظ أننا لم نقرأ خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة شعراً كثيراً يتغنى بالثورات، ويستخدم لغة عتيقة وصوراً تصلصل فيها السيوف وتصهل الخيول. ربما يعود ذلك إلى طبيعة هذه الثورات المرتبطة بالعصر، إلى كونها ثورات فائقة، كما يسميها علي حرب، تستخدم «الفايسبوك» و «التويتر» وأشكال الاتصال الحديثة التي تعتمد الاختصار واللغة البرقية والرمز والصورة، ولا تحتمل الثرثرة والكلام الفائض عن الحاجة. إن ثورات فائقة Hyper Revolutions تتطلب فناً وأدباً فائقين يستخدمان وسائل اتصال تتيحها الشبكة العنكبوتية.

مغن وموسيقي شاب قال لي إنه لا يهتم كثيراً بإقامة حفلات غنائية للتعبير عن مشاعره وعواطفه تجاه ما يحدث، فـ «الفايسبوك» و«التويتر» و«اليوتيوب» تتيح له التواصل مع السامعين بصورة أفضل، وقال إن عدد من استمعوا إلى أغانيه حتى الآن يزيد عن سبعين ألف شخص، وهو عدد من البشر ما كان ليجتمع في قاعة أو ساحة ليستمعوا إلى مغن أو موسيقي شهير. وإذا كان حدس هذا الموسيقي صحيحاً، فإننا نشهد تحولاً كبيراً في طرق التواصل بين منتجي الفنون والمتلقين، تماماً كما كان الأمر بالنسبة إلى من يدعون للاحتجاجات والثورات التي عصفت بالأنظمة العتيقة في العالم العربي.

الحكاية السابقة فيها بعض الجواب عن سؤال العلاقة بين الفنون والتحولات الكبرى. لا شك في أن هناك منتجين في الفن والثقافة يتواصلون مع متلقيهم عبر الشبكة العنكبوتية، لكن التعبيرات الناضجة، أو على الأقل المضيئة، على ما حصل ويحصل ستأخذ بعض الوقت، سواء كانت شعراً أو قصة ورواية أو رسماً أو مسرحاً أو سينما أو غناء وموسيقى. والسبب ليس انتظار المنتج الثقافي فترة تختمر فيها أفكاره ليتدبر ما حصل ويعثر على شكل يصب فيه رؤيته، بل قدرة الصورة على التعبير المباشر الفوري التلقائي عن الحدث. نحن أمام سيل لا ينقطع من الصور؛ عدسات مصورين غير محترفين ومحترفين، كاميرات رقمية متطورة بإمكانات عادية أو غير عادية، صور موضعية أو بانورامية ترينا بعض أجزاء من المشهد أو المشهد كله. وهذا كله يقمع الخيال ويقزمه ويجعل الواقع يفوق كل خيال. فكيف يمكن الأديب أو الفنان أن يعبر عن هذا الدفق الهائل من الصور والمشاعر والأحاسيس والروائح والأصوات التي تغمر الشارع؟ إن الفنون اللفظية تحتاج قوى خارقة لتحيط بما حدث، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كثير من الفنون التعبيرية مثل الرسم والنحت والموسيقى. الأقرب إلى هذا المشهد القيامي هو السينما التي تستطيع أن تستخدم المادة المصورة مباشرة من الميادين والساحات لتصنع خلفيات لحكايات وأحداث جزئية ولدت هناك لتصنع الحدث الكبير. ولذلك فإننا نتوقع سينما مختلفة، سينما كبيرة، في مقبل الأيام، على الأقل في مصر التي شهدت واحدة من كبريات الثورات في التاريخ.

عن موقع جريدة الحياة

الروابط الداخلية في المقال هي من اختيار مو قعنا وذلك لتسهيل القراءة.


يقدم موقع دارالحياة.كوم، إضافة إلى المحتوى الخاص به الذي ينشر على مدار الساعة، محتوى المطبوعات التي تنتجها« دار الحياة »، بنسخها الإلكترونية، وهي : الصحيفة اليومية « الحياة » الطبعة الدولية على العنوانين الأول أو الثاني، والحياة السعودية الطبعة السعودية، والمجلة الأسبوعية لها. ويضم دارالحياة.كوم أيضاً حاضنة للخدمات الرقمية على العنوان.

دارالحياة.كوم محطة تزود الزوار بالمستجدات والتقارير والتحليلات وبمواد أدبية، من صحافيين ومراسلين من الحياة، ومتعاونين آخرين. ويسعى إلى تأمين التواصل بين القراء وكتاب المطبوعات. كما يؤدي دور الواجهة التي تروج لمحتوى المواقع الثلاثة الأخرى. كذلك، يرعى دارالحياة.كوم مشاريع صحافية مستقلة ويستضيفها.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)