هجرة الظلال، محمد ولد أحظانا (موريتانيا)، رواية تفاعلية ثلاثية الأبعاد

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ١٧ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٥
جريدة الحياة
نبيل سليمان


محمد أحظانا يروي موريتانيا الغرائبية


لأن ظلال أهل هذا الزمن – ظلالنا- تركتنا وهاجرت، أصبحنا قاحلين، فلا قيم تظللنا، ولا ظل لأجسامنا، لأن غيرنا بات يستظل بهذا الظل. تلك واحدة من حركات رواية محمد أحظانا «هجرة الظلال». ومن حركات الرواية أيضاً، أخرى تعني من سبقونا في تاريخ قريب أو بعيد، وربما في أسطورة، حيث خرج نسل من أيتام الظلال خلف المغضوب عليهم، يتقفى آثار ظلاله، فانفتحت بوابات الزمان بعدهم على هجرات ظلال متتالية، لا يخلو منها عصر في هذه الأرض، وما زالت الظلال حتى زماننا تهاجر ولا تخلف إلا بيارق السراب.

و"لعبة الظلال" إذاً هي خطاب هذه الرواية، ابتداء من العنوان. لكن محمد احظانا جعل لروايته عنواناً ثانياً، وليس عنواناً فرعياً، هو «رواية تفاعلية ثلاثية» متابعاً بذلك حرص بعض الكتاب على تجنيس ما يكتبون، من دون انتظار النقد، بل بالفرض على النقد وعلى القراءة بعامة. وبالطبع، فهذا الحرص يبدأ من كلمة «رواية» أو سواها مما يحدد به الكاتب جنس الكتابة. لكن أحظانا، شأن بعضهم، لا يكتفي بذلك. ولأنه حدد التفاعلية، فالظن يسرع إلى الرواية التفاعلية التي أنعمت بها الثورة المعلوماتية.

لكن تفاعلية أحظانا هي ببساطة نهوض روايته على تفاعل الكاتب/ الراوي، والناقد – النقاد، والقارئ – القراء. فهذه المجموعة/ الحلقة، التقت في أحد أكواخ الصفيح (الكبة) في نواكشوط. وعبر هذا اللقاء- الرواية تشتبك الأزمنة: الحاضر- سبعينات القرن العشرين وأمسها القريب منذ الاستقلال، والماضي القريب، زمن البداوة والفوضى وغياب السلطة المركزية في موريتانيا، أي زمن السبية، وأخيراً: الماضي البعيد فالأبعد، وهو الزمن التاريخي، والزمن الأسطوري. وباشتباك الأزمنة الثلاثة تبدو الرواية موسوعة للغرائب والعجائب والخوارق، وباختصار، موسوعة للفانتاستيك، كما تبدو مسرحاً للحوار وللنقار، للمناكفات وللمساجلات والصراعات بين الكاتب وبين الناقد الذي ليس شخصاً واحداً، والقارئ الذي ليس قارئاً واحداً، بمقدار ما ليس أحدهما هو الآخر. وهذه اللعبة، هذه التفاعلية (غير الإلكترونية) الثلاثية لا تفتأ تنادي لعبة الميتارواية، لكن هذا النداء ليس نداءها الوحيد، ولا الأقوى، فللطبيعة نداؤها، وللموسيقى، وللصوفية.

مشهد تراجيدي

تنفتح الرواية بالآلة الموسيقية (تيد نيت)، ثم يشرع الراوي يروي والكاتب يدون ما يرويه، ومن هنا ينعت الكاتب مراراً بالمدوّن. تأتي البداية بمشهد تراجيدي تنزح فيه النساء والأطفال إلى مدينة «أودي كلاب» ذات الظلال، بعدما نزل غضب الرب على مدينة الحفرة، فهاجرت ظلالها. والقافلة التي تقودها الجدة تانيت الكبرى، أصابتها كمدينة الحفرة لعنة الظلال المهاجرة، فتحول عنها ظل الأشجار، وصار الرجال كأبناء الطاعون، ينفر منهم الأطفال والهوام. وقد حرمت الجدة الالتفاف خلفاً. أما علة اللعنة التي حلت بالمدينة فتحددها الجدة الحكيمة بأن أهل هذا الزمان لا يعبأون بالتعاليم الدينية الأصيلة.

منذ هذه البداية التراجيدية تتدفق أباديع الأسطورة. فهذا رئيّ الجدة تبوح له معارفه من شياطين السماء بغيوب الأعالي. والحصير الذي ترمي الجدة عليه الودعات تسميه «كاشف السر المكنون». والجدة هي القادرة على كشف السارق أو الجاني، مهما تكن الجناية، فلا جريمة في مدينة الحفرة ما دامت تانيت الكبرى حية. وهي التي أمرت بالهجرة لأن الرجال لن يعودوا بالظلال المهاجرة كما زعموا. ومن هذا الزمان الأسطوري إلى الزمان التاريخي فالحاضر، لا تني الرواية تؤنسن الطبيعة، فشجرة العضاة المسكونة بالروح رمت الجد الأربعين في الغابة العجماء، فاحتضنته قائدة سرب نعامٍ جوّاب. وتلك حية الرمل تخلع فساخها كلما اهترأت، وهذه أرض كالسمندل لا تحرقها النار، وتلك جلدة وجه الجدة مائتة كغماس الرمل، أما الألسنة المنحبسة في جحورها فمثل أصلات (حيات) القيلولة، واللسان أيضاً يطق كحطب البشام، والنخلة تتكدر. ومن أشجار السرح إلى شجر الإهليلج المعمر إلى المطر السحاح إلى رتيلاء وعنكبوت الرمل... يتواصل حضور الطبيعة: في سهل أفطوط فئران نزقة تذكر بنوع من البشر في مدينتنا هم مجموعة حكام الدوائر الكبرى والصغرى، وبعد زهم النعام وثدي الحباري وقديد الظباء وخنفساء النار الفارسية، تنقلب الساحرة لبؤة، لكن زوجها يباغتها قبل أن تكمل انقلابها فيصبح نصفها الأعلى امرأة ونصفها الأسفل لبؤة. ومثل ذلك في الرواية كثير مما يمكن تصنيفه قصصاً للحيوان.

اعتراضات

بمثل هذا الدفق من الصور الطازجة، تتسربل فقرات ومشاهد جمّة على طول الرواية التي جاءت في ثلاثة أثلاث، أي في ثلاثة أقسام أو أجزاء، وكل منها يتوزع على فصول، والفصل مبني دوماً من حكاية الرواية ورواية الحكاية. ولا يوفّر الكاتب سانحة كي يلاقي مسبقاً أي نقد يختلف مع محاولته الفنية، فيفترض الاعتراضات على ألسنة نقاد – هم دوماً مخطئون ومذمومون - وقراء ينال واحدهم ما ينال النقاد من الويل والثبور، إذا ما اعترض على صنيع الكاتب – المدوّن الذي يشفّ دوماً ويعلن أحياناً عن محمد أحظانا نفسه. وعبر ذلك يحرص الكاتب - المدوّن على استعراض «عضلاته» النقدية، فنرى قارئاً حروناً، وآخر فضولياً، وسواه مرحاً وغير مبال وبطيئاً ومهذباً.. كما نرى ناقداً من النقاد الواقعيين يعلن أنهم لا يعبأون بهذا النوع من الحكايات الخرافية المحتشدة في «هجرة الظلال» إلا إذا كانت موظفة روائياً، وتحكي عن الحضارات المعروفة.

أما الأساطير والحديث عنها كأنها حقائق فهي مما يسمونه أفيون الشعوب، خاصة في وجه التحديات الحالية. وفي هذا السياق يأتي مثلاً حوار بين الراوي وشخصية روائية، أو حوار بين الراوي وقارئ، أو بين الكاتب – المدوّن وناقد عنكبوتي رملي... وستلفع السخرية هذه المعمعة التي تنادي الميتا رواية، مثلما تلفع ما يتعلق بالسياسة، كما في كلمة يلقيها رئيس القسم (ما يعادل الفرع) في حزب الشعب الحاكم، حيث يطلق ألقاب رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية: أبو الأمة الحزب الذي لا تخطئ عينه الصواب أبداً و...

ومن ذلك ما يخاطب الراوي به قارئاً شاباً متحمساً لكل شيء: إنك لثوري حقيقي، أنت ضد الإمبريالية بحق، وضد الاستعمار الجديد، ولديك حس ديالكتيكي حقيقي. ولا يوفر الراوي نفــسه من السخرية فيخاطب القراء بقوله: أنا لعلمكم أكتب من الحَفَظَة، وأخط بيساري ويميني. كما يسلق قارئاً آخر بالرجعية، انطلاقاً من «واجبي تجاه الشعب الموريتاني العظيم» وبكل روح ثورية ونقد ذاتي وتضحية لصالح الشعب والبروليتاريا الثورية.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)