قراءات

نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان، جورج قرم (لبنان)، دراسة Georges Corm (Liban), Etude

, بقلم محمد بكري


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الاربعـاء 06 ربيـع الاول 1435 هـ 8 يناير 2014 العدد 12825
الصفحة : السياحة
بيروت (لبنان): سمير شمس


المواطنون يزدادون يأسا من تحسن أوضاع بلادهم بسبب النظام الطائفي المعتمد


الكاتب والخبير الإقتصادي اللبناني جورج قرم

قد يجد القارئ في هذا الكتاب تفسيرا لسوء الأداء السياسي والاقتصادي في لبنان، الذي يحرم المواطن من أبسط ظروف العيش الكريم. لقد مر لبنان كما هو معروف بأحداث جسيمة تغلب على تداعياتها، لكن تفاقم الأزمات والمشاكل السياسية والإنمائية، وتدنِّي أداء الدولة، وتفاقم الأزمات المعيشية، وتراجع حالة الخدمات العامة، زاد من يأس المواطنين في تحسين أوضاع بلادهم، خصوصا مع ما يحصل في دول الجوار من ثورات، ويرتد سلبا على الوطن الصغير المساحة. فقد ازداد الانقسام الحاد بين الزعامات السياسية اللبنانية، وارتفع الدين العام على الرغم مما أنفقته الدولة منذ ثلاثين سنة بحجة الإعمار، وعلى الرغم من موارده الطبيعية، وكفاءاته البشرية التي لا يعلم كيف يستغلها في الداخل فيرحلها إلى خارج حدود الوطن.

قسّم المؤلف كتابه الصادر عن «دار الفارابي»: «نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان السياسية والاقتصادية»، إلى جزءين: الأول يتعلق بالأوضاع السياسية، والثاني بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وفي الجزءين اقتراحات عديدة حول المعالجات الممكنة خارج الإطار التقليدي لكل من الثقافة السياسية والاقتصادية اللبنانية، وذلك اعتقادا منه بأن المشكلة التي نشعر بأنها مستعصية الحل هي مطروحة بشكل غير صحيح.

يطرح المؤلف مجموعة أسئلة محورية حول إمكانية فصل السياسة عن الاقتصاد في الأزمة اللبنانية، ومصير نظام لبنان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وما هي قدرة البلاد على الصمود أمام المتغيرات العملاقة التي تشهدها المنطقة هناك الكثير من اللبنانيين الذين يعتقدون أن الأزمة هي نتيجة سوء أداء السياسيين واستهتارهم بالمصلحة العامة، ولذلك لا ترى هذه الفئة أي فائدة من الخوض في أمور الإصلاح، طالما أن لبنان خاضع للنظام الطائفي الذي جعل خيرات البلاد مجرد تقاسم مغانم بين الزعماء.

ويرى بعض اللبنانيين أن أصل البلاء هو في هيمنة سوريا على هذا النظام وتداخلها فيه بشكل متواصل، سواء خلال سيطرتها ووجودها في لبنان أم بعد خروجها من لبنان عام 2005. وفي نظر هؤلاء أن مجرد تغيير النظام في سوريا سيسمح بحل المشاكل التي يتخبط فيها لبنان.

ويرى فريق ثالث من اللبنانيين أن أصل الداء في سوء تطبيق اتفاق الطائف وانحرافه نحو نظام «الترويكا» وعدم تحقيق الإنماء المتوازن والوفاق الوطني الحقيقي. وهناك فئة واسعة من اللبنانيين تعتقد أن الوضع لا يمكن أن يتحسن في ظل استمرار الصراع العربي الإسرائيلي.

هذه الطروحات الأربعة تؤكد استحالة إجراء أي إصلاح اقتصادي من دون إعادة النظر في الوضع الإقليمي، وكذلك في الوضع السياسي الداخلي، وهي طروحات تؤدي كلها إلى طريق مسدود.

ويرى المؤلف ضرورة إعادة النظر بشكل جذري في هذه الطروحات. ويقول إن الحكمة التقليدية ترى أن استقرار الأحوال وحسن الحكم السياسي هما القاعدة الأساسية للنمو الاقتصادي والازدهار. لكن هناك دولا مارست أنواعا مختلفة من الاستبداد والعشوائية، ومع ذلك فإن معدلات النمو الاقتصادية فيها كانت عالية. مثال ألمانيا في القرن التاسع عشر في عهد بسمارك، وتشيلي في سبعينات القرن الماضي عندما استولى الجيش على الحكم. وكوريا الجنوبية التي لم يسد فيها الفساد فقط إنما أيضا الاضطراب الأمني والحرب الشعواء التي عصفت بشبه الجزيرة الكورية، وقسّمتها إلى دولتين متناحرتين، كما يستشهد بالإنجازات الأولى للثورة الصناعية وبوادرها التي تمت في أجواء الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك، أو في حالة حرب مستمرة في إيطاليا بين الإمارات والممالك والجمهوريات الشهيرة مثل البندقية وجنوى وفلورنسا.

أما الفكر الاقتصادي العربي فلا يزال يعتمد النظرة التبسيطية، فهو يجد في الأوضاع الأمنية المضطربة عذرا سهلا لتفسير العجز الهائل للمجتمعات العربية في امتلاك القدرات التكنولوجية الحديثة والمساهمة في حركة التجارة الدولية والعولمة على قدم المساواة مع البلدان التي انتشلت نفسها من الحلقة المفرغة للتخلف وأصبحت فريقا مهما في الحياة الاقتصادية الدولية، مثل دول شرق آسيا ككوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا، وهذه الأخيرة دولة إسلامية تمكنت من الإفلات من حلقة التخلف.w يعرض المؤلف المنظومة الفكرية بين أنصار وظيفة لبنان الخدماتية والتوسطية وأنصار الإنماء المتوازن، والتي أثارت جدلا بين مدرستين. فالمدرسة الأولى استلهمت كتابات ميشال شيحا، وتبرر طرحها بالتراث الغني والمتعدد الجوانب، وتختصر هذا الإبداع بالتجارة والسياحة والهجرة والسمسرة، بينما كانت المدرسة الثانية تبرر موقفها بأن للبنان موارد مائية وزراعية مهمة وكفاءات بشرية مهمة. لذلك كانت ترى إمكانية تطوير الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد متنوع يعتمد على القطاع الزراعي والصناعي والخدماتي في آن واحد. وكانت ترى في هذا التطوير تأمينا لفرص عمل كافية لاستيعاب سرعة زيادة السكان.

كسبت المدرسة الأولى المعركة إلى عهد فؤاد شهاب الذي عمل بسياسة اقتصادية واجتماعية تهدف إلى التنمية المتوازنة بين كل المناطق اللبنانية، وإلى تقوية كل من القطاعين الزراعي والصناعي، إضافة إلى تقوية أجهزة الدولة الاقتصادية والاجتماعية. فأنشأ البنك المركزي والضمان الاجتماعي والمشروع الأخضر وكثيرا من المشاريع التنموية.

لم تحظ الشهابية بدعم البرجوازية التجارية والمالية التي ظلت أسيرة حلم وخيال تحويل لبنان إلى جمهورية تجارية مركزة في بيروت، تخدم المنطقة، وتصبح نوعا من إمارة شبيهة بمونت كارلو. وكانت هناك مساع مختلفة لجعل لبنان جنة ضريبية. ومن العوامل التي دعمت اتجاهات المدرسة الأولى إثراء المنطقة العربية بعد عام 1973 وارتفاع أسعار النفط، وهجرة الكثير من اللبنانيين إلى الدول المصدرة للنفط وإثراؤهم السريع نتيجة السمسرة والتوسط. فوجد لبنان نفسه في نهاية الحرب أمام أعداد ضخمة من الأثرياء الذين يرون الانتعاش الاقتصادي فقط من خلال الصفقات والأعمال المخالفة للقوانين الضريبية والاقتصادية بشكل عام.

والحقيقة أن الفريق الإعماري فاتته التغييرات الاقتصادية الكبيرة التي حصلت في المنطقة العربية خلال السنوات العشرين التي عصفت خلالها الحرب في لبنان. فدول الخليج العربي طورت بنيتها التحتية إلى أبعد الحدود، وأقامت مؤسسات مصرفية وتجارية وخدماتية عملاقة. وتم إلغاء التشريعات الاشتراكية التقييدية في الدول التي كانت تنحو هذا المنحى. لذلك لم يعد الاقتصاد اللبناني حاجة ماسة لاقتصاد المنطقة، إذ إن جميع الأقطار العربية المجاورة أسست علاقات وثيقة مع الأسواق العالمية الصناعية والمالية والخدماتية.

إن إصلاح البنية الاقتصادية اللبنانية يتطلب إصلاح ثلاثة محاور أساسية في رأي جورج قرم:

1) النظام الضريبي لجعله يتناول المداخيل المالية والريعية الطابع وتخفيف وطأته عن المداخيل الناتجة عن نشاطات إنتاجية.

2) القضاء التدريجي على دولرة الاقتصاد، وعلى استعمال ازدواج العملة لتوليد مداخيل غير شرعية على حساب الخزينة.

3) إصلاح النظام التربوي لكي يهتم بإبقاء شباب لبنان في وطنهم، فهجرة الكفاءات ليست أمرا حتميا.

ويرى المؤلف أن النظام الطائفي في لبنان نتاج تاريخه الحديث، فنظام جبل لبنان في ظل الإمارة المعنية والشهابية كان نظاما إقطاعيا عابرا للطوائف. وقد بدأ مسار تسييس الطوائف بتصاعد نفوذ الدول الأوروبية الكبرى داخل مقاطعات السلطنة العثمانية، وبعد انهيار السلطنة توسع ‏تسييس الطوائف. ‏ إن لعبة تسييس الطوائف وإدخالها في شبكات النفوذ الإقليمي والدولي يحول دون قيام دولة قوية ومستقلة. فالنظام الطائفي يعكس التوازنات الإقليمية والدولية بدلا من أن يكون أداة صالحة لتحقيق الديمقراطية التوافقية كسويسرا وبلجيكا وهولندا التي تلعب فيها العرقية أو المذهبية دورا كبيرا، ‏إنما ضمن ديمقراطية شفافة وسيادة كاملة لسلطة الدولة. أما في لبنان فالطوائف تقف حاجزا بين المواطن والدولة، فوجود الدولة مشروط باستمرار بحسن نية زعماء الطوائف، وهم بدورهم خاضعون لنفوذ دول أجنبية. فالطريق إلى السيادة يتطلب العمل على جبهتين:

1) رفض المواطنين ‏لظاهرة تسييس الطوائف من جهة.

2) فصل البنية القانونية للدولة عن البنية القانونية للطوائف من جهة أخرى.‏ ويقترح المؤلف أفكارا للإصلاح المؤسساتي في لبنان. فعلى صعيد السلطة التنفيذية يرى أن يُنتخب رئيس السلطة التنفيذية بالاقتراع العام، لأن رئيس الدولة الذي لا ينتخبه الشعب ما هو إلا صورة شكلية للحكم لا يتمتع إلا بالقليل القليل من السلطة والصفة التمثيلية. فالانتخاب على أساس الاقتراع العام سيسمح بإلغاء الالتباس بين تمثيل الطائفة وتمثيل الشعب كله.

أما النظام الانتخابي الأغلبي في دورة واحدة فهو الأسوأ بين الأنظمة، فهو يكرس نظام الزعامة ووراثة التمثيل السياسي. فحكم الزعماء يعني تحويل الديمقراطية إلى حكم الأثرياء، أي أنه نقيض الروحية الجمهورية. وحده النظام الانتخابي النسبي كفيل بأن يؤمّن تمثيل كل التيارات السياسية ويشجع وجود الأحزاب التي تقدم برامج واضحة، في حين أن الاقتراع بالأغلبية في دورة واحدة يشجع الشعبية الفردية وتأثير المال ونفوذ الزعماء.

يرى المؤلف أن تناول قضية الشرق الأوسط ووضع لبنان الصعب فيه من الأمور المعقدة والحساسة. فانقسام اللبنانيين منذ قرنين كان موضوعه تحالفات البلاد مع الخارج. ولا يزال هذا الانقسام يشكل نقطة التباين المحوري وفي حال لم ننجح في تخطي هذا التباين ستستمر التجاذبات المتناقضة في تمزيق لبنان. فالثقافة الأوروبية ترى في منطقة الشرق الأوسط منطقة مركزية في الصراعات الدولية. فالشرق الأوسط يحوي أكبر مخزون طاقة في العالم، ويتمتع بموقع استراتيجي بين القارات الثلاث، ومنبع الديانات التوحيدية.

فلماذا تخلف العرب وتقدم الغرب؟ يكمن الجواب في نقاط يختصرها المؤلف في انقسام العرب بين مؤيد للغرب ورافض له. وقد تغلبت المدرسة الأولى، غير أن الأقاليم العربية التي تحررت من السلطنة العثمانية وقعت في قبضة الدول الأوروبية، ولم تتمكن من التوحد، وتكونت بعض المحاور المتخاصمة بين الأقطار العربية.

كتاب الدكتور جورج قرم مساهمة جدية في توصيف المجتمع اللبناني والفرقاء الذين يقبضون على خناق اللبنانيين.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.
لقراءة المزيد

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)