نساء وفواكه وآراء، حسن داود (لبنان)، رواية نوفل/ هاشيت أنطوان - 2020

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثانية والثلاثون العدد 9917 الخميس 28 أيار (مايو) 2020 - 5 شوال 1441 هـ
سلمان زين الدين - شاعر لبناني


«نساء وفواكه وآراء»… حسن داوود يرثي الزمن الجميل



في عام 1983، أصدر الروائي حسن داوود روايته الأولى «بناية ماتيلد». وفي العام 2020، أصدر روايته الحادية عشرة «نساء وفواكه وآراء» (نوفل/ هاشيت أنطوان). وبين العامين حوالى أربعة عقود، هي مسيرة سردية غنية، تمخضت عن أربعة عشر عملاً سرديا، حتى تاريخه، تتوزع على إحدى عشرة رواية وثلاث مجموعات قَصصية، بوتيرة عمل سردي واحد، كل سنتين ونصف السنة، وما تزال المسيرة مستمرة.

«نساء وفواكه وآراء» ثلاث كلمات تختصر فضاءً روائيا بكامله. تنتمي الأولى منها إلى الحقل المعجمي للإنسان، والثانية إلى الحقل المعجمي للنبات، والثالثة إلى الحقل المعجمي للفكر. وهذا التجاور للكلمات الثلاث في العنوان يُضمر تفاعلاً بين الحقول الثلاثة، التي تنتمي إليها، هو قوام الحياة داخل الفضاء الروائي المختص وخارجه. غير أن اقتفاء هذه الكلمات في النص، يجعلنا نقف على انزياح معين، عما وُضِعَت له في الأصل. ينقل الراوي عن محمد صافي، أحد شخوص الرواية، قوله في وصف كلية التربية في الجامعة اللبنانية: «عالم جميل… نساء وفواكه وآراء»، وينقل عنه أن النساء، هن طالبات الكلية اللواتي تجاوزن مرحلة البنات في الثانوية، وأن الفواكه هي فواكه الشعر، وأن الآراء هي تلك التي يصوغها الطلاب، في ضوء القراءة والذاكرة السمعية، بأنفسهم، وليست تلك الجاهزة المعلبة، التي تُملى عليهم، ما ينزاح بالكلمات الثلاث من معانيها المعجمية المحددة، إلى أخرى يُكسبها إياها الاستعمال، فتعادل، على التوالي، الحب والفن والسياسة، وهي حقول تتمظهر في المتن الروائي، بشكلٍ أو بآخر، بدون أن تستوي في نوع التمظهر وكمه، ففي حين تستأثر السياسة، بما هي آراء وأطر وأنشطة وحوارات واجتماعات وتظاهرات، بحصة الأسد، يشغل الحب، بعلاقاته العابرة والباقية، هامشًا ملحوظًا في المتن، بينما يقتصر حضور الفن، بما هو شعر، على إشارات خجولة متفرقة إلى شلة الشعراء في الكلية، ما يعني أن تجاور الكلمات الثلاث في العنوان لا يعني استواءها في الحضور النصي نوعًا وكما.

في هذا الفضاء الروائي، يُسند داوود إلى حسان، أحد الشخصيات المحورية الثلاث في الرواية، روي أربعة عشر فصلاً من فصول الرواية الاثنين والعشرين.

في «نساء وفواكه وآراء»، يروي داوود زمنًا جميلاً، تصرم وانقضى، يتمثل في سنوات الدراسة في كلية التربية، في الجامعة اللبنانية، أواخر الستينيات من القرن الماضي، أي قبل بضع سنوات من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي أطاحت بذلك الزمن، وصنعت زمنها الخاص الذي ما يزال يرخي ظلاله الثقيلة على حاضر اللبنانيين ومستقبلهم. وهو يرصد حياة مجموعة من الطلاب والطالبات الوافدين من القرى النائية، واصطدامهم بالمدينة وما تمخض عنه من نتائج على كل منهم. ويرصد حركتهم داخل الكلية وخارجها، في لحظة تاريخية، كانت فيها الكلية والأطر الأخرى المشابهة لها، التربوية والسياسية، أشبه بمرجلٍ تغلي فيه الأفكار والأحلام والآراء، ولن تمر بضع سنوات حتى ينفجر ذلك المرجل، وتملأ شظاياه المكان والزمان.

حسان

في هذا الفضاء الروائي، يُسند داوود إلى حسان، أحد الشخصيات المحورية الثلاث في الرواية، روي أربعة عشر فصلاً من فصول الرواية الاثنين والعشرين. ويتخذ منه قناعًا يتوارى خلفه. وهنا من المفيد الإشارة إلى التشابه بين اسمي حسن وحسان. ونكتشف أننا إزاء شخصية مترددة، في الحب والسياسة والاجتماع. ويتمظهر هذا التردد في مجموعة من الوقائع الروائية المختلفة؛ ففي الحب ينسحب منذ المواجهة الأولى، فما إن ترفع وداد يدها في وجهه، بعد أن استدرجته إلى شقتها، حائلةً دون مضيه قُدُمًا في ملامستها، في نوعٍ من التمنع، الذي تمارسه المرأة على الشريك، رغم رغبتها فيه، حتى يحس بالصدمة، ويغادر لا يلوي على شيء، وتظل الصدمة تحفر في نفسه ثلاثين سنة، ولا يتحرر منها إلا بزيارة لها في بيتها المتواضع في المخيم، وقد ترك الزمن بصماته على وجهها، وانتقم له منها، فبدت أكبر من عمرها بكثير. وبذلك، تجمع شخصية الراوي بين خجلٍ يبقيه في منتصف الطريق، واعتداد بالنفس يجعله لا ينسى الإهانة، ولعل الخجل والاعتداد كليهما من أثر تربيته الريفية. وفي السياق نفسه، يترجح في علاقته بكوليت، صديقة وداد، بين الإقدام والإحجام ما يجعله يخرج من المولد بلا حمص. في السياسة، لا يجاري حسان زميله يوسف في اندفاعه الحزبي، ويتراجع عن الانخراط في حزبه والتدرب معه، ويشارك في التظاهرات، على عين الآخرين، وليس اقتناعًا بجدواها. وفي الاجتماع، يؤثر الصمت على الخوض في سجالات مع يوسف، ويتجنب التكلم بما يزعجه، ويُشارك في السهرة التي أقامها له أصدقاؤه ومناصروه، على مضض. وهذه المقدمات تفضي إلى نوع من الوحدة يتردى فيها الراوي، بعد أن تباعدت سبل الرفاق، وغدت الكلية مجرد ذكرى مما قبل الماضي.

يوسف

الشخصية المحورية الثانية، التي ترصد الرواية مسارها هي شخصية يوسف، بدءًا من قدومه من قرية نائية، يقوم فيها بقتل الأب، بالمعنى الفرويدي، مرورًا بالتغيرات التي تطرأ عليه جراء اصطدامه بالمدينة، انتهاءً بالمصير الذي يؤول إليه؛ فنراه: يسمع موسيقى لا يفهمها، يقرأ كتبًا صعبة، ينخرط في تجربة حزبية، يزيح منافسيه من أمامه، يُشكل شلته في الكلية، يعقد الاجتماعات في بيته، يرشح بعض زملائه ومنهم الراوي للتدرب على استعمال السلاح، يمارس فوقية على أصدقائه، يشارك في الحرب لاحقًا، يشغل موقعًا قياديا في حزبه، يصبح له أتباع ومؤيدون يقيمون له سهرات التكريم التي يشارك فيها صديقه الراوي مكرهًا، ويطمح إلى منصبٍ كبير في حزبه، حتى إذا ما كبر حجمه واصطدم ببيروقراطية المؤسسة الحزبية، يتم عزله من الحزب، وينتهي به المآل وحيدًا في شقته. وإذا ما زاره أحد من أصدقائه القدامى يروح يوهمهم بأهميته، ويصادر حقهم في الكلام، ويسفه بعض آرائهم، وتكون له الكلمة الأخيرة. وحين يسقط في يده، ويخرج من مولد الحزب بلا حمص، يتخلى عن تاريخه، ويرتبط بجهة أخرى على وعد تحقيق طموحه المَرَضي. وبذلك، نكون إزاء شخصية باطنية، متسلقة، انتهازية، تغلف طموحاتها الشخصية بغلاف النضال. وهذا النموذج كثيرًا ما طفا على سطح العمل الحزبي اللبناني، خلال الحرب وما بعدها. وهو إن دل على شيء إنما يدل على سقوط التجربة الحزبية اللبنانية في البيروقراطية والجمود والصراعات الداخلية والصعود إلى السلطة.

ثمة شخصيات أخرى، تلعب أدوارًا ثانوية في الرواية، فتُشكل ظلا لهذه الشخصية المحورية أو تلك، أو تتمة عدد، أو ديكورًا زائدًا، مما يقتضيه تأثيث الفضاء الروائي.

محمد

الشخصية المحورية الثالثة التي تشغل حيزًا مهما في الرواية هي محمد صافي، صاحب الجسم الكبير والكاريزما المختلفة، والأقوال المبتكرة، ما يجعله يلعب دورًا قياديا في الكلية، ويُشكل شلته الخاصة، يراقب ويشجع ويتدخل ويمون، يقول فَيُلبى، ويأمر فَيُطاع، بدون أن يتخلى عن عفويته وتلقائيته، أو يصطنع فوقية زائفة، على غرار منافسه يوسف، ما يجعل الآخرين يُحيطون به، ويرددون أقواله غير التقليدية. وهو يتقن السخرية، ويرفض استئثار الأحزاب بالتمثيل الطلابي، ويُشكك في جدوى التظاهر. وحين تنشب الحرب، تصيبه بكثير من الخسارات؛ تتغير صورته في عيون رفاقه، ويحس بالانكسار حتى إذا ما دعوه للمشاركة في سهرة ترفيهية، في عز الحرب، يحاول أن يفسد عليهم سهرتهم، ويشعر بالذنب جراء ما أقدم عليه. لم يعد محمد ذلك الكاريزمي الساخر المنخرط في الحياة، بل تغير شكلاً وصوتًا وكلامًا، حتى إذا ما دعاه رفيق الدراسة نقولا، ذات يوم، إلى جلسة في مطعم الروشة، يقوم بتوبيخ شابين اثنين لمجرد أنهما تهامسا في ما بينهما، ويغادر غاضبًا. وهو يغرق نفسه في الشراب احتجاجًا على الحرب وإفرازاتها، ويمعن في تخريب جسمه، ما يؤدي إلى إصابته بسرطان الكبد الذي يأتي على ما تبقى من حيويته وحبه الحياة. وحين يقترب من نهاية رحلته يقيم له أصدقاؤه القدامى حفل تكريم هو إلى التأبين أقرب. وهكذا، يطرأ على الشخصية تحول جذري بسبب الحرب، فيتحول من محمد المبادر، الساخر، المشارك، المساجل، المؤثر إلى محمد الخاسرٍ، الوحيد، الانطوائي، المنسحب من الحياة الذي ينتظر موعد رحيله. هي الحرب وتداعياتها تُخني عليه وعلى سواه من الرفاق الذين تتفرق بهم السبل، وتطيح الحرب بزمنهم الجميل الذي يخفقون في استعادته، ولو من باب الذكريات.

شخوص أخرى

إلى هذه الشخصيات المحورية الثلاث، ثمة شخصيات أخرى، تلعب أدوارًا ثانوية في الرواية، فتُشكل ظلا لهذه الشخصية المحورية أو تلك، أو تتمة عدد، أو ديكورًا زائدًا، مما يقتضيه تأثيث الفضاء الروائي. غير أنه لا بد من الإشارة إلى شخصيتين اثنتين تعكسان طبيعة حضور النساء في الرواية، وهو حضور لا يقتصر على ارتياد الكافيتريا والمشاركة في الجمعيات العمومية، وإبداء الرأي والعلاقات العابرة والانخراط في الأنشطة المختلفة، بل يتعدى ذلك إلى المشاركة الخجول في التظاهرات، ما يعكس مناخ الحرية الذي توفره المدينة، وتحتضن الكلية بعض تمظهراته. في هذا السياق، نشير إلى شخصية وداد، ذات الوجه الجميل، التي تستدرج الطلاب للإعجاب بها، ومنهم الراوي، وتصدهم في اللحظة المناسبة تغذيةً لغرورٍ معين فيها. غير أن تحولات جذرية تطرأ على هذه الشخصية، على المستويين الجسدي والعقدي، فيذوي جمال وجهها بمرور الزمن، وتُغير طائفتها، وتتحجب، وتقيم وحيدةً في بيت متواضع في المخيم، حيث يزورها الراوي مع صديقتها بوليت ليُصفي حسابًا قديمًا بينهما. ونشير إلى بوليت، صديقة وداد، المريضة التي ترتبط بعلاقة غير واضحة مع ماهر، الذي يهتم بها، وترغب في علاقة مع حسان يحول تردده ومرضها دون المضي فيها. وحين تتفاقم حالتها الصحية، يأخذها أخوها المقيم في باريس لتحتضر هناك.

وعليه، إن الزمن الجميل الذي يحاول حسن داوود القبض عليه تطيح به الحرب وتفرق أبناءه، فتفترق مساراتهم بعد مغادرة الكلية، وتتشابه مصائرهم، فيتردون في الوحدة أو العزلة أو المرض أو الموت. وحين يحاول بعضهم استعادته في حفل لـ«المحاربين القدامى» يخفق في ذلك لتتحول الكلية إلى ذكرى مما قبل الماضي. وكأني بالكاتب، في روايته، يرثي زمنًا جميلاً فشل في استعادته بالفعل، ونجح في ذلك بالكتابة.

التقنيات

تتألف «نساء وفواكه وآراء» من اثنين وعشرين فصلاً، يشتمل كل منها على عدد من المشاهد السردية يتفاوت من فصل إلى آخر بتفاوت حجم الفصل الواحد. وهنا لا بد من الإشارة إلى وجود تفاوت كبير في الحجم بين الفصول، فَيَشغل الفصلان الأولان ثمانيةً وثمانين صفحة أي ما نسبته 39٪ من الرواية فيما تشغل الفصول العشرون الأخرى مئة وثمانيًا وثلاثين صفحة، أي ما نسبته 61٪ منها. وبذلك تفتقر الفصول إلى عنصر التناسب الكمي. على أنه لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى أنه في حين يقتصر الفصل القصير على سلك واحد يتعلق بشخصية معينة، تتعدد الأسلاك في الفصل الطويل، ويتم الانتقال بينها بسهولة ويسر يعكسان تمكن الكاتب من أدواته الروائية.

وحسن داوود يتقن اللعب على الأسلاك، والانتقال بين الأزمنة، والتحرك بين الوقائع والذكريات، وهو الحامل على عاتقه حوالى أربعة عقود من ممارسة السرد، بنوعيه الروائي والقصصي.

الأمر نفسه ينطبق على الرواة الأربعة المشاركين الذين يصطنعهم الكاتب لروايته، فيروي حسان أربعة عشر فصلاً تمتد على مئةٍ وتسعٍ وثمانين صفحة، ويروي محمد صافي ستة فصول تتوزع على تسعٍ وعشرين صفحة، ويروي كل من يوسف ووداد فصلاً واحدًا بعدد أربع صفحات لكل فصل. وبذلك، لا يتناسب التوزيع مع أهمية الشخصية الراوية. أضف إلى ذلك أن الراوي الأساسي يجمع بين وظيفتي الراوي المشارك والراوي العليم، فيما يقتصر الرواة الآخرون على وظيفة الراوي المشارك.

في «نساء وفواكه وآراء» يطغى السرد على ما عداه، ويغيب الوصف، ويحضر الحوار بمساحات محددة، وبطريقتين مختلفتين؛ فهو جزءُ من نسيج السرد، من جهة. وهو جزءٌ مكملٌ له، من جهة أخرى. ويستخدم الكاتب مستويين لغويين اثنين؛ فصيح للسرد ومحكي للحوار. واللغة بمستوييها سلسة، رشيقة، طازجة، تسمي الأشياء بأسمائها، ولا تتورع عن استخدام السباب والكلام النابي والتعابير الشعبية، عند الضرورة، ما يكسب النص حرارته، ويوهم بواقعية الأحداث.

وبعد، «نساء وفواكه وآراء» رواية جميلة تجمع بين جمال النساء ولذة الفواكه وصحة الآراء. يحيي فيها حسن داوود ماضيًا جميلاً، تصرم وانقضى، ويجعله عصيا على الموت. وهل الأدب غير إحياء ماضٍ مات أو القبض على حاضرٍ قبل أن يموت؟

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)