نداء المجهول، محمود تيمور (مصر)، رواية

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الثلاثاء، ٢ مايو/ أيار ٢٠١٧
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«نداء المجهول» لمحمود تيمور: مغامرة عاطفية في جبل لبنان


«سافرت إلى لبنان عام 1908 لأروّح عن نفسي وأنعم بفترة هدوء وبعد عن صخب الحياة، وقصدت بعينتاب وهي قرية صغيرة لا تحوي سوى ثلاثة منازل وفندق متواضع لا يسع أكثر من ثمانية أشخاص. وكانت المنطقة في معزل ناء، فأقرب بلدة إليها تبعد منها مسيرة ساعتين على البغال...» على هذا النحو التقريري الذي يبدو وكأنه بداية كتاب في أدب الرحلات، يفتتح محمود تيمور روايته «نداء المجهول» التي تعتبر واحدة من أكثر أعماله القصصية جاذبية وإثارة. وذلك على رغم «تقريرية» أسلوبها. لكن الكاتب ينهي «نداء المجهول» على أحسن ما تكون الروايات القوطية. فهو بعدما يقول لنا إنه في اليوم الثالث صحا واجتمع بالشيخ عاد، صاحب الفندق، على الفطور، تنبه إلى غياب المس ايفانس. «فسألته عنها فلم يجبني بل اقتصر على ابتسامة هادئة مديدة فيها معنى الإستسلام والإستخفاف بكل شيء. فلم أفهم ما يعنيه وسألته: «أتناولت فطورها منفردة»؟. فناولني بضع تينات جافة وقال: «ألم تكن تتوقع لها هذا الأمر؟». «أي أمر تعني؟»، «لقد ذهبت». «ذهبت الى أين؟». فجذبني من يدي وخطونا بضع خطوات ثم وقف وهو ينظر في اتجاه الناحية القائم فيها القصر (المهجور) وأشار إليه وهو يقول: «هناك... ألم تفهم؟». ووقفت جزعاً وقد فطنت إلى ما يعنيه. ثم رجعنا إلى مكاننا وتابعنا أكلنا صامتين».

إذاً بين تلك البداية العادية وهذه النهاية الغامضة التي تدنو من رومانطيقية حكايات الأسرار الغرائبية، تدور أحداث «نداء المجهول». وهي رواية تتقاطع، ولكن تتداخل فيها حكايتان. من ناحية حكاية التقاء الكاتب بالمس إيفانس في ذلك الفندق المعزول في الريف الجبلي اللبناني، ومن ناحية أخرى حكاية افتتان تلك السيدة الإنكليزية، وهي المطعونة أصلا في فؤادها ما أتى بها الى تلك المنطقة لكي تنسى، بحكاية أشد ضراوة وألما من حكايتها هي حكاية يوسف الصافي وحبيبته صفاء. لقد سمعت مس إيفانس الحكاية، كما يروي لنا الكاتب نقلاً عن لسانها، هناك في المنطقة فانبهرت بيوسف الذي أغرم بصفاء. لكن هذه خُطبت لغيره من دون موافقتها. ولأنها عاجزة بالطبع عن التصدي لإرادة أهلها ولا يمكنها العيش من دون حبيبها، كما أن هذا لا سبيل له لأي عيش من دونها، يتفق الحبيبان على الانتحار سوية. وهكذا ينفذ يوسف الخطة المتفق عليها في ليلة زفاف الفتاة ويقتلها... لكنه في المقابل يعجز عن تنفيذ الجزء الثاني، أي قتل نفسه كما وعدها. ولا يكون منه أمام يأسه وجزعه وجبنه، إلا أن يهرب إلى ذلك القصر المهجور المسحور القائم لا يدنو منه أحد في المنطقة. ويعيش هناك وحيداً مرعباً. وعلى الأقل حتى اليوم الذي تُروى فيه الحكاية لتلك السيدة الإنكليزية فتُفتن بها، إلى درجة أنها تقرر أن تصبح بدورها جزءاً من الحكاية. وهذا كله يأتي في سياق ما يرويه لنا الكاتب وكأنه حقيقة عايشها بنفسه، بل تلقى لفحاتها ما دفعه إلى التفكير في الحياة وصروفها، بعد أن عاش جزءا من الحكاية/المغامرة مع غيره من نزلاء الفندق والمس إيفانس وشهد في القصر «المسحور» ذاته بعض تفاصيلها وشياطينها وأشباحها بأم عينيه، قبل الوصول إلى تلك النهاية التي أشرنا إليها.

«... إنه يرسم الاشخاص حتى انك لتحس انفاسهم وتلمح الحياة في سهولة حركاتهم، وهو يكتب في لغة سلسلة لا تحجب شيئاً من معانيه. وإن فنه يشيع فيه روح وديع من الإنسانية، فهو يخدم الأدب من ناحيتين الأولى أنه يشير إلى مثله الأعلى الإنساني ويصوره لنا في صوره البارعة، والثانية أنه يعرفنا بالجانب الذي يعرفه من مجتمعنا المصري. فهو من معلمي هذا الجيل، وهو عامل من العوامل القومية على تعريفنا بأنفسنا». بهذه العبارات البسيطة والمختصرة، تمكن الكاتب محمد فريد أبو حديد من وصف أدب محمود تيمور وصفاً دقيقاً. ولم يكن أبو حديد المعجب الوحيد بأدب تيمور خلال النصف الأول من القرن العشرين، بل كان الإعجاب بذلك الأدب عاماً وشاملاً، حتى ولئن كان من الملاحظ اليوم ان محمود تيمور يكاد لا يُذكر حتى في المناسبات التي يتعين فيها ذكره. بل إن رحيله في شهر آب (اغسطس) 1973 مر مرور الكرام، ولم يتنبه له، والعالم العربي ومصر في ذلك الحين منشغلان بألف قضية وقضية، إلا رهط ضئيل من اصحابه المخلصين.

ومع هذا، إذا كان الأدب العربي يعرف اليوم نهضة ملفتة في مجال كتابة الرواية والقصة القصيرة، فإن صاحب «نداء المجهول» واحد من الذين تدين لهم هذه النهضة بوجودها. وهو ما عبّر عنه طه حسين حين خاطب تيمور قائلاً ذات يوم: «وسبقت انت الى شيء لا أعرف أن أحداً شاركك فيه في الشرق العربي كله إلى اليوم، وإذا ذهب أحد مذهبك أو جاء فيما بعد بخبر مما جئت به، فلن يستطيع أن يتفوق عليك لأنك فتحت له الباب ومهدت له الطريق ويسرت السعي واتحت له أن ينتج وأن يمتاز... هذا الذي تفوقت فيه وامتزت وسجلت به لنفسك خلوداً في تاريخ الأدب العربي لا سبيل إلى أن يمحى هو القصّ على مذهبه الحديث في العالم الغربي. وإنك لتوفى إذا قيل إنك أديب عالمي بأدق معاني هذه الكلمة واوسعها؛ ولا أكاد أصدق أن كاتباً مصرياً مهما كان شأنه، قد وصل إلى الجماهير المثقفة وغير المثقفة كما وصلت انت إليها، فلا تكاد تكتب ولا يكاد الناس يسمعون بعض ما تكتب حتى يصل إلى قلوبهم كما يصل الفاتح إلى المدينة التي يقهرها فيستأثر بها الاستئثار كله».

ولد محمود تيمور عام 1894 في حي درب سعادة في القاهرة لأسرة ذات اصول تركية، عرف العديد من رجالها (ونسائها) بمعارفهم الادبية الواسعة وبعضهم مارس الكتابة، مثل أبيه أحمد تيمور وعمته عائشة التيمورية، وصولاً إلى أخيه محمد تيمور الذي كان بدوره رائداً من رواد القصة والأدب المسرحي. في مطلع شبابه أصيب محمود تيمور بداء أقعده فترة استغلها في القراءة والكتابة وبدأ الاتصال الجدي بمكتبة أبيه التي كانت واحدة من اكبر واهم المكتبات في القاهرة وهو يقول عن ذلك: «مما لا ريب فيه ان حادث المرض كان بداية طور جديد في حياتي الأدبية نقلني من طور التردد إلى طور اليقين من طور الإلمام والهوادة في التحصيل، إلى دور الجد فيه والاستيعاب».

من الناحية العملية التحق محمود تيمور كموظف في وزارة الحقانية ثم تركها إلى وزارة الخارجية قبل أن يترك الوظيفة الحكومية نهائياً ويتفرغ للكتابة. وكانت أواسط العشرينات، المرحلة التي بدأ محمود تيمور يبرز فيها ككاتب، حيث نشر «الشيخ جمعة وقصص أخرى» (1925) مع مقدمة عن القصة القصيرة كنوع جديد في العالم العربي، ثم نشر «عم متولي وقصص أخرى» ثم «كل لقمتك بعرق جبينك» و «الشيخ سيد العبيط وقصص أخرى» (وكلها في 1926). ومنذ ذلك الحين وحتى 1958 لم يتوقف محمود تيمور عن الكتابة وكان من أشهر ما نشره على مدى عقود عديدة من السنين: «رجب أفندي»، «الحاج شلبي وقصص أخرى»، «أبو علي عامل ارتيست وقصص أخرى» و»الأطلال» و «نداء المجهول» و «قلب غانية» و «الوثبة الأولى» و «مكتوب على الجبين» و «كليوباترا في خان الخليلي» و «سلوى في مهب الريح» و «إحسان الله» و «دنيا جديدة». والطريف أنه غالباً ما كان يقدّم لمجموعاته دراسات تؤرخ للقصة القصيرة أو تبررها أو تحلل أساليب وأهمية هذا الفن.

محمود تيمور الذي أمضى حياته كلها من دون زواج عُرف على الدوام بتعلقه بعائلته وبعدم توقفه عن ذكر فضلها عليه، وهو قال في حديث عن سيرته الذاتية: «عندما التفت متكشفاً ماضي حياتي، أرى أربعة عوامل أساسية قد عملت في تكويني كاتباً: الأول والدي أحمد تيمور، والثاني شقيقي محمد، والثالث حوادث خاصة كان لها تأثير في تحويل مجرى حياتي، والرابع والأخير مطالعاتي (...) في الحقيقة أنا مزيج من أبي وأخي. ولعلك تعجب إن قلت لك إنني في محاولاتي القصصية الأولى كنت أؤثر المصطلحات العربية الفصحى على الكلمات المستعملة الشائعة (...) وما زالت حياتي الأدبية صراعاً بين المذهبين، أو بين لغة الكتابة والتدوين والمشافهة والحديث».

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


محمود تيمور على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)